لأن الرواية عملٌ خياليٌ لا يتأتى للكتّاب إلا بشق الأنفس، وحتى تلامس الرواية سقوف سماوات الإبداع الأدبي فإن كاتبها غالبا ما يتجاوز حدود الواقع وينطلق بأحداثها سابحا في آفاق الخيال، وكل ذلك يحتاج إلى طاقة إبداعية من دون شواطئ.. في السودان المسرح السياسي رواية بدايتها قريبة من نهايتها وواقع يحاكي الخيال الإبداعي. الأسبوع الماضي شهد ذلك المسرح الفريد رحيل قيادية في الحزب الشيوعي السوداني، وأول برلمانية في تاريخ السودان وربما في تاريخ المنطقة وذلك في العام 1965.. ورغم أن مشيعيها من أنصار حزبها رفعوا شعارات منها: "فاطمة أم الشعب"، و"فاطمة أم القيم"، إلا أن فاطمة المسكينة (85 عامًا)، ماتت الأسبوع الماضي في دار للعجزة في العاصمة البريطانية لندن؟!
وفاطمة التي قادت، وهي ما تزال طالبة، أول تظاهرة نسائية، عام 1949، ضد الاستعمار البريطاني (1899-1956)، تركها منسوبو حزبها مهملة في بلاد البرجوازية عدوة الشيوعية، دون رحمة حتى إذا ماتت تسابقوا ليستثمروا في جنازتها التي شهدت مزايدات سياسية لم تسلم منها الحكومة ورموزها ناهيك عن الحزب الشيوعي الذي كرر سقوطه الأخلاقي حين انتهك مناصروه حرمة المقابر ليتركوا الاهتمام بصلاة الجنازة وستر الميت في سبيل الصدع بهتافات مناوئة للحكومة التي جاءت تسعى معزية في شخص النائب الأول للرئيس ورئيس الوزراء وكان الهدف طرد ذلك المسؤول الرفيع وإحراجه.
كانت محاولة الاستثمار في موت فاطمة انتهازية صارخة من جانب منسوبي الحزب الشيوعي وأمرا يبدو أنهم جبلوا عليه.. حتى زعيمهم الراحل سخر منهم وهو في قمة الإحباط عندما جاء إلى قلب العاصمة الخرطوم بالقرب من قصر الرئاسة قبل سنوات مضت وكان على موعد معهم للقيام بمظاهرة مناوئة للحكومة واكتشف أنه وحيد فكتب في ورقة عبارة ساخرة صارت محل تندر: (حضرنا ولم نجدكم).
من عجائب السياسة السودانية وإن شئت الرواية السودانية أن الموقف المحرج الذي تعرض له رئيس الوزراء لم يدع السلطات الأمنية لاتخاذ أي إجراء ضد من أن أساءوا للرجل الذي جاء إلى أسرة الفقيدة مشاركا في أحزانهم.. عميد أسرة الفقيد وهو لواء متقاعد اضطر للاعتذار في بيان أصدره متبرئا من تلك الأفعال الصبيانية وقال في بيانه: "المفاجأة الفاجعة بعد الاصطفاف لصلاة الجنازة قامت مجموعة ليست بالقليلة من منسوبي الحزب الشيوعي وبدلا من الاصطفاف للصلاة قاموا بمنع رئيس الوزراء من الصلاة ووجهوا هتافات لا تنسجم مع الأخلاق والتقاليد السودانية السمحة".
صحيح أن الحكومة فعلت خيرا بأن تعاملت بحكمة مع الموقف لكن ثمة تساؤلات ملحة حول تعامل الحكومة مع معارضيها الأمر الذي ينتج عنه ردود فعل عنيفة وانفجار براكين الغضب.. كما أن الحكومة بدت وكأنها أيضا جزء من بازار المزايدات السياسي.. الاهتمام المفاجئ بموت الفقيدة لا يبدو بريئا وهو ما أثار شكوك وتوجس منسوبي الحزب الشيوعي الذي يعتبر العدو اللدود للحزب الحاكم برئاسة الرئيس عمر البشير.. ومن تناقضات الواقع السياسي في السودان أن الفقيدة التي ظلت تصف نظام الحكم بأسوأ الأوصاف ذكرت بنفسها في مقابلة تلفزيونية أن البشير كسر البروتوكول والطوق الأمني حوله في مناسبة جماهيرية ليسلم عليها وبالفعل تداولت مواقع التواصل الاجتماعي السودانية صورة تلك الواقعة ويظهر فيها البشير يسلم بحرارة شديدة على الفقيدة.
يشار إلى أن فاطمة اختيرت في العام 1991، رئيسة للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، كأول امرأة عربية وإفريقية مسلمة ومن العالم الثالث تترأس هذه المؤسسة النسوية العالمية. كما منحها صندوق ابن رشد، التابع لمؤسسة فريدريش آيبرت الألمانية، عام 2006، جائزة حرية التفكير، لشجاعتها في قضايا حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. \\\\\\\\\\\\\\\\