مروي.. رصد مسيرات فوق ارتكازات الجيش السوداني    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دوبا حليل أبوي: في ذكري رحيل والدي القاضي أحمد خليل .. بقلم: إبنك سيف الدولة أحمد خليل
نشر في سودانيل يوم 17 - 10 - 2017


عليك تحيةُ الرحمن تترى برحماتٍ غوادٍ رائحات..
في ذكري رحيل والدي القاضي أحمد خليل..
شهران لا تنقطع فيهما المحاولة للكتابة عنك أبا الخليل، فوَفاء الصحبة وحده يلزمني أن أكتب عنك دعك عن أبوةٍ تثبت شرعاً ونسباً.. فرغم دأب المحاولة إلا أنى قد تأخرت، إذ أنني عوَّارٌ خوّار كشجرة بان!! خواري أرجفَ مني القلم وشرَّد الكلمات وما كان حالهما يوماً علي إرتجافٍ أو هروب..
ربما لأني رقيتُ مرقىً لم أرتقيه يوماً أو شهدتُ مقاماً ما كنت له على إستعداد..فالمقام مقام إيمانٍ وإيقان بحقيقة الموت، ولي أن أستغفر سحراً من إيمان ٍ أصابه الدخلُ فلا يوقن حقاً بأن الموت قد يتصيدك حقيقةً..
أبا الخليل عذراً إن لم أوفيك حقاً أنت به قمين..فمصيبتُنا فيك رزءٌ أكبر من أن توفيه كلماتٌ عابرات، بل هو أجلُّ من أن توفيه سواجمُ الدمع.. فعذراً إن جافانا في هذا الأمر نهودٌ وبَدار، إلا أنه لا مناصَ لمِيفاء مثلي يأخذ الحقَّ ويعطيه، إلا أن ينهض بواجبٍ يثبتُ وجوبه بدليلٍ فيه شبهة العدم، مثابٌ فاعلُه ومعاقبٌ تاركه مذمومٌ بتركه..
والدي..تراني أنهض مستحصداً عزمي لأبكيك بقلمي وأرثيك معدداً محاسناً وأفضالاً لا تعد، فأرسلُ شِظية حزنٍ من الأعماق على أبٍ حانٍ ومرشدٍ لا ضلال من إقتفاء أثره، مجدولِ الخلق مؤدٍ لما عليه من عمل في إتقانٍ وإستجادة وبإخلاص وتفان، طاعةً لخالق عظَّمه وإمتثالاً لفروض عشقٍ وهيام بوطن ما نضَّ عن القلب والذاكرة، وفوق ذلك محقٍ في رعايته لذوي القربى والأهل..
بكائي عليك بكاءٌ على قاضٍ عدلٍ لم يقضي بهوى أو بغير علم وإنما أتخذ القضاء بالحق طريقاً إلي جنةٍ عرضُها السموات والأرض.. قضاءً حرصتَ على إستقلاله، يوم أن كنتَ رقماً في إضرابات القضاة في ثمانينات القرن المنصرم..كنتَ في سرعان الناس من زملائك القضاة حين نهِدوا لإضرابهم الأول في فبراير 1981 وفي إضرابهم الثاني في يونيو 1983 والذي إستمر لأشهرٍ ثلاث.. يومها تطاول الطاغية النميري وطعن في نزاهة القضاء السوداني ، رغم إشتهار ذلك القضاء بالنَّصَفة والمهنية، لقد عاب الطاغية يومها القضاءَ بالتلكؤ والبطء وتكديس القضايا إهداراً للعدالة وقيمها، وتطاول أكثر بفصله لسبعة عشر قاضياً من لجنة القضاة، رغم أن القضاة ما نادوا إلا بالإصلاح مطالبين بإستقلالهم ، ناعين على النظام تعمُّدَ إهمال ِ جهازهم والتقتيرَ في الصرف عليه مما إنعكس سلباً على وتيرة الأداء من قلة الكادر ومعينات العمل التي تسَرع من وتيرته.. إلا أن الطاغية ما كان له أن يسمع كلمةَ حقٍ فتطاول في السَّباب والعسف، فألقمتموه وزملاؤك العدولُ حجاراً ، هززتم بها وقاره إن كان له من وقار، وتحديتم صلفَه ونوَّختم بعيرَ إستبداده.. فأعاد من فصل من القضاة وممن لم يشترك في الإضراب وإستجاب لكل مطالبكم وزاد.. ولكنكم بنصركم ذاك كسرتم نخوته وزعزعتم أركان حكمِه وكشفتم هوانه، فأضمر لكم السوء وعمل علي الإنتقام منكم ومن القضاء السوداني ذي التاريخ الناصع في الإستقلالية والمهنية، فبوسواس شيطانِ ذلك الحين، الدكتور الترابي الذي كان يهمِس له بأن قضاء الطوارئ هو الأقربُ للقضاء الإسلامي، خرج علي الناس بما أسماه العدالةَ الناجزة ، إلغاءً لمسيرةٍ طويلةٍ من التقاليد القضائية والعدلية المائزة وطمساً لسمتٍ عمليٍ ورثه قضاةُ السودان منذ العهد الإستعماري، بل زاد الطين بِلةً أن سنَّ قوانين سبتمبر 1983 سيئةَ السمعة والتي حاكها علي عجلٍ رجلان وإمرأة ، فكانت ملأى بالرتوق والفتوق.. ورغم ما حصلتَ عليه من ترفيعٍ مهنيٍ جعل منك رئيساً للجهاز القضائي بولاية شمال دارفور، إلا أنك لم تتبدلِ المغنمَ والمكسبَ بالمبدأ، فسارعتَ من ضمن قلائلٍ بنقد تلك القوانين ، فكتبتَ عِدة مكاتيب مبيِّناً فيها أن ما سنَّ من قوانين لا هي بقانون ولا هي بشريعة بل هي مسخٌ مشوَّهٌ لا نسب له. أيامها دأبتَ على القول " ما عادت القضائيةُ قضائيةً، وما عاد القضاءُ قضاءً، وما عاد القضاةُ قضاةً ولا القوانينُ قوانين".. وحين إكتشفتَ أنك تصرخُ في وادي الصمت قلت قولاً لا أنساه '' البلطجي الأهوج دا مودِّينا النار.. أحسن نشوف لينا شغلةً تانية‘‘ فهرُعتَ إلي تقديم إستقالتك غيرَ نادم..
والدي، ما أظن أنى كنتُ أعرفك حقاً، أتصفّحُ حياتك فأعلم أنني كنت أغبو عن حقيقتها، وأعشُو عن ناصعِ صفحاتها، حتى أنى أتساءلُ من أنت ومن كنتَ؟! أحارُ كيف تمددتَ محبةً في قلوب صحبِك ؟! فأنت دوما تزهوهم كما يزهو الطلُّ الورودَ.. فقد كنتَ بؤرةً تلتقي فيها أشعتهم وهي تسقط في منابعِ جميلِ أحاديثك، فقد كنتَ نسابةً، مؤرخاً، قانونياً، سياسياً، فقيهاً وراوٍ للأخبار، لذا كنتَ تحتلُّ صدرَ محافلهم فتخشع لك أصواتُهم خشيةَ أن يفرُطَ منهم شئٌ مما تقولُ أو يتفلت.. فأحبوك من قلوبهم حباً شهد عليه نحيبُهم يوم أن أيقنوا أنك رحلتَ عن دنياهم؛ الاشياخُ منهم ومن في شرخِ الشباب.. أحبوك لأنك حرصتَ على ألا تكون ممن يبغضهم حبيبك المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم السلام "إنَّ أبغضكم إليَّ المشَّاؤون بالنميمة المفرِّقون بين الأحبة الملتمِّسون للبراء العنت‘‘. ولأنك تتفيَّأ حبَّ من أكثرت الصلاة عليه فتمثلتَ قوله "أحبكم إليَّ أحاسنكم أخلاقاً الموَطَّؤون أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون‘‘.. لقد تأزَّرت السماحةَ فكانت علاقتُك بالأحياء والأشياء حميمةً، ظليلةً وارفة.. كنت نهماً ببناء جسورِ الوِداد.. بل إحتِزتَ على تقانةِ وهندسةِ العلائق الإجتماعية فادأخترت من كل بستانٍ أورقَ أشجارِه، يانعَ ثمره، ناضرَ زهره وعاطرَ وردِه.. إستوى عندك جمالُ من أخترتهم إذ كنت تنفذ إلي دواخلهم فيستوى عندك ساعي مكتبك وسائقُ المحكمة مع قضاة المحكمة العليا وأساتذةِ الجامعات والسفراء، فقد كنتَ سعيداً وأنت تؤاكلُ القاضي الفخم وقيع الله الفكي عبد الله أو القاضي العالم ادأبوعاقلة أبوسن والقاضي الدكتور أحمد المصطفى أبَّشر وذات البِشر والسعادة يهلان عليك وأنت تؤاكلُ ''عثمان‘‘ سائقَ المحكمة..
لقد كنت ترى جوهر الإنسان فيمن صادقتَ وعرفتَ رغماً عن إختلاف مشاربهم فإلتقى في معِيتك المرحومُ علي طالب الله، حافظ الشيخ، علي عثمان ودكتور التاج فضل الله والمرحوم البروفيسور محجوب عبيد ومن هناك الشيخ رحمة الله، حافظ الزين شداد، أبو القاسم سيف الدين وصديق كدودة..وتحلَّق حولك غُلاةُ الوهابية ووصلت كُبَراء السادة الصوفية محمد عثمان الميرغني، عبد الرحيم البرعي، شيخ الجيلي، حسن الفاتح والدرديري الدسوقي جعفر.. إجتمع عندك قضاةُ الشرع أورقُهم الشيخ مجذوب علي عيسى، الشيخ صديق أبو الحسن والراحلان الشيخ صديق عبد الحي وإبراهيم جاد الله في حين ادإمتد وِدادُك للسادة الجمهوريين إبراهيم يوسف، سعيد شايب، محمد الحسن الطاهر وعبد الرحيم محمد أحمد.. كلهم يودونك ويجِلونك وأنت بينهم فردٌ متفرِّد في مدرستك التي أخترتها لنفسك ومع ذلك لم تكن توفيقياً ولا تعصيك جسارةُ الموقف ولا يعوزك الجهرُ بإختلافك مع من تختلف معه بمعرفةٍ تنالُ بها إحترام مخالفك قبل مشايعك.. فكنت بذلك بينهم عالماً وأديباً ذا سماحٍ يُفاد من علمه وصالحاً تُرجى بركةُ دعائه.. لم تتشادق بينهم متفاصحاً ولم تحجهم متنفِّجاً ،بل كنتَ تفاكرهم بالمعرفة والحسنى فلم ينبو عليك أمرٌ ولم يخِب لك سهمٌ عن رمِيَّة ، لذا طاب جلوسُهم في حضرتك ، حضرةً تكاثر أضيافُها وأمُّوها تملياً في وجهٍ خصيبٍ يجودُ بالقِرى ويتصدَّق بالبشاشة والتبسم..
ما عرفتُ لك عمراً أو جيلاً يا أبتاه.. فودادُك لم يقف عند من جايلوك وزاملوك بل تمدَّد إلي من هم أسنَّ منك ومن دونهم ودون دونهم فأنت حميمٌ لمولانا المرحوم بكري بلدو، وإلي م. علي أبوزيد، م. مختار عثمان، الأستاذ عمر صديق، الجنرال صلاح ماجد، د. جعفر عبد المطلب والقاضي السيوطي.. وأنت أثيرٌ عند م. عمر الدقير، د. أمين كوكو، منعم عمر وناصر الحاج بل إنَّ للأطفال متسعاً في كريم صداقتك.. ولم يحدُّك هوسُ الجندر من أن تمتد علاقتك إلي بناتك من النساء فكان في حضرتك العديدُ منهن..
يالها من سماحةٍ لم تخفِ صرامتك، وتواضعٍ لم يسقط بك من ترفُّعٍ محمود، وكأني بك تجمع ما بين الشئ ونقيضه في إنسجامٍ ونسقٍ فريد !!
كم من شاهدٍ علي نيران غضبك وحُمم لفظك حينما يستغضبُك
مما يستغضِبُ له، وكم من شاهدٍ لدمعك وإنطلاق محياك بِشراً حينما ترضى أو تُسترضى، فنهجُك الدائم أثرٌ تردده''من إستُغضِب ولم يغضب فهو حمارٌ ومن أُستُرضيَ ولم يرضَ فهو شيطان‘‘
ومن يراك تحادثُ البسطاء، تجالسهم وتؤاكلهم قد ينكر عليك ترفعك وإستعلاءك على من علا وتكبَّر!! إستعلاؤك ذاك الحميدُ فهو ليس بإستعلاءِ ترفُّع عن خَلق الله بل هو فرادةُ فريدٍ مائزِ الأخلاق وهو سياجٌ وتأطيرٌ لمهنةٍ تستدعي ترفُّعاً، وهو سَمتٌ شخصيٌ لأنسانٍ لا يرضى ذُلاً، وسلوكٌ حياتيٌّ تعالج به أطباعَ الخَلق حين تخرجُ عن الأُطر التي تريدُها..
وما أُزكيك على الله فقد كنتَ حسُن التديُّن، تديناً بلا تنطع ولا مِراء، إذ لا تطلِعُ غيرك على ما لا يعلمُه منك إلا الله.. ولعل الكثيرين ممن عرفوك يجهلون أنك عابدٌ متبتلٌ رطبٌ لسانُك بالذكر آناء الليل وأطراف النهار. وليت كل متدينٍ أو متأسلمٍ يحذو حذوَك..فقد كنت صميماً صمداً، الظاهرُ منه يحكي الباطنَ ويتطابق فكرُك وقولك مع العمل، لذا كنتَ حُرّاً مسئولاً، لا تأتي في سرِّك عملاً تستحي منه علانيتُك.. صالحتَ بين الدين والدنيا في عقيدةٍ سليمةٍ ميسورة وفي تسامحٍ دينيٍ رحْب، وطَّنتَ به موروثاً تالداً في حديثٍ متحضِّر.. تبرُعُ إجتهاداً وتحسِنُ قياساً.. كل هذا وأنت رجلٌ لا تصطنع التدين أو تتنطعُ به.. فلم تتخذ مظهرك أو لغتك أو ما تلبس حمالةً لتدينك ومظهراً له ، فكنتَ مبشِّراً ولم تكن منفِّراً.. فإلتقى عند دَوحتك أهلُ التصوف المخبتين فتحدِّثهم عن (جيلي القوم) وبسطاميهم وعن الإمام الأكبر فصوصِ حِكَمه وفتوحاته المكية، وعن إبن رُشد في تهافت التهافت وبداية المجتهد ونهاية المقتصد وفصلِ المقال والغزالي ومنقذِه من الضلال ويلتقيك أهل الفقاهةِ فتحدِّثهم عن الموطَّأ ومدونةِ سَحنون ومختصرِ خليل ويفئُ إليك أهلُ الإلحاد وأهلُ التطرُّف والشَّطَط فترخي لهم بالك وجنابَك فتحجُّهم بما يقنعهم أو بما يجعلك جديراً بإحترامهم..
تساووا جميعاً في حضرتك وكأنك قلبُ صفيِّك الإمام الأكبر محيي الدين إبن عربي حيث تتوحَّد عنده عقائدُ الناس ومِللُهم ونِحِلُهم :
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ
فمرعى لغزلانٍ وديرَ رهبانِ
وبيتاً لأوثانٍ وكعبةَ طائفِ
وألواحَ توراةٍ ومصحفَ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ
ركائبُه فالحبُّ ديني وإيمانِي
فلا أنت تنبشُ وراءهم ولا تذمُّ ما يبيحون لأنفسهم مما حُرّم أو حُكم عليه بالكراهة ، حين تغويهم شياطينهم وترهقهم عزائمُ الدين والجد.. كلهم جميلون لديك ملحدُهم ومعاقرُ الصهباء منهم وزيرُ النساء والمتبتِّل. ما شغلك أبداً أن تذِم ما سلكوا من سلوكٍ أو إنتهجوا من نهجٍ تلتمس لهم الذرائع في نقيبتهم لحُسن ظنِّك في الله وفي خلقِه خاصةً السودانيين منهم إذ تؤمن أنهم دوماً علي الفطرة السليمة ولو أبدَوا غير ذلك فهم عندك أهل نقيبةٍ مأمونة وطويةٍ حسنة..
والدي.. إن المرء ليعجبُ كيف يتسم زمنك بالبركة ليسعك حتى تختم القرآن كلَّ شهرٍ أربع مرات؟! وتداومُ على أورادِ الطريقة التيجانية، وتزاورُ الأحباب وتتفقدُ الجيران وتجوِّدُ قراءة ما بيدك من كتب الفكر، السياسة والتصوف، النحو والأدب وتقضي الليل قائماً راكعاً ساجداً وفي الأسحار مستغفراً.. تفعلُ كل ذلك رغم ظرفك الصحي ورغم أن جلسات الغسيل الكلوي تستوعب ثلاثاً من أيام أسبوعك!!
أيُّها المخبت: إن داري تحِنُّ إلي صوتك وأنت تتغنَّى بالقرآن، وأسماعَنا تترقبُ صلاة الفاتح وهيللة الجُمَع وأشعةَ الشمس كسلى حين الإشراق.. فقد غابت جوهرةُ الكمال صلاةً علي عين الحق التي تتجلَّى منها عروشُ الحقائق، عينَ المعارف الأقوم، سراطَك الأسقم، إحاطةَ النور المطلسم..
أيُّها المحسنُ حيَّاك الغمام! أقفُ عند آخر درسٍ علَّمتنيه قُبيل دخولك المشفى بيومين.. أذكرُك وأنت تسألني درهماً ونحن نوشكُ أن ندلف إلي حيث نسكن.. مددتُ لك ورقةً من فئة العشر دراهم فرددتها عليَّ مغاضباً: أنا طلبتُ درهماً واحداً، فأعطيك ما طلبتَ درهماً واحداً تخطَّفتَه من يدي لتسرعَ الخطى فيما يشبه الهرولة نحو مسكينٍ كأنه على موعدٍ معك! فعدتَ مستبشراً حَبراً.. '' أنا الليلة ما إتصدقتَ ما لقيت درهم !! شُفتَ يا سيف الدولة -كما درجتَ أن تناديني على غير خلق الله بإسمي كاملاً غير منقوص- داوِم على الصَّدقة يومياً ولو بدرهم.. هسه أنا أصلاً ما بفرِّط فيها‘‘. كنتُ أعلم أنك ممن '' يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‘‘ وأنَّك ممن عناهم الحقُّ عز وجل بقوله ''ومما رزقناهم ينفقون‘‘ إلا أنني لم أكن أعلم أنك إتخذت من العطاء وِرداً يومياً لا ينقطع، وأنت ترد علي درهمي بإصرارٍ (رغم أني كافلُك) مردداً '' قليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثيرٍ منقطع" "وتداوَوا بالصدقات‘‘ و ''خيرُ الأعمال الصالحة أدوَمُها‘‘..
وأما إحسانك يا والدي فيقودُني إلي حديثٍ عن خيرك في أهلك وذويك.. فقد كنتَ للرحم واصلاً وأنت تردد '' من سرَّه أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه‘‘.. وكنت رحيماً بهم، تمدُّ عونك لضعيفهم ونصحَك لطائشهم، وكنت رائداً للتعليم فيهم لا سيما تعليم المرأة.. فمنهم العلماء ومنهن حاملات الشهادات العليا وصاحبات التخصصات الرفيعة وهم يبكونك بما قدَّمته لهم مأثرةً يحفظونها ويحمدونها لك.. وهنا لا أنسى آخرَ وصاياك وأنت على وشك مغادرة الفانية..'' شوف يا سيف الدولة وكلِّم إخوانك.. هلكم من كل الإتجاهات أهلي وأهل أمكم وأيِّ زول بربطكم معاه رحم لازم تواصلوهم وخاصةً الناس الفي القرى والمساكين.. ناس المدن والناس السمحين ديل ما بنفعوكم أوصلوا المساكين.. حِلُّوا مشاكلهم وخلوهم يعلِّموا أولادهم ولو قدرتوا ساعدوهم"...
أراك تهِل عليَّ وأنا جالسٌ إلي جهاز الحاسوب ، أسمع لك بخشوعٍ وأنت تحكي.. وأوزن ما أقوله لك بالقيراط فأنت لا تحب ساقطَ القول أو فضوله.. أتحوَّل من مكاني لأجالسك ولأتجاذب معك أطراف الحديث وحين تبلغ إكتفاءً تختلقُ سبباً لإنسحابك.. '' إنت يا سيف الدولة شكلك ما دايرني أقعد معاك، ما مشكلة أنا ماشي للأحسن منك‘‘ وأنت تردد ''وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ" وقولَ صفيِّك الجاحظ '' الجليسُ الذي لا يطريك، والصديقُ الذي لا يُغريك يطيل إمتاعك، ويشحذ طباعك‘‘ فتنسربُ الي صومعتك حيث كتابُ الله، وحيث صحبتك التي وشَّجت عُرى مودتك معها فهناك منصور خالد، محمود محمد طه، إبن عربي، جعفر حامد البشير، المتنبئ، الطيب صالح، الزرقاني، ومحيى الدين الدرويش وغيرهم من صحاب..
والدي.. يثقبني الحزن حين أعلم أنك رحلت عن دنيانا ولك حلمٌ لم يتحقق.. فقد كنتَ تحلم بعودةٍ إلي وطنٍ أحببته، وحملته بين ضلوعك.. لطالما حلمتَ بوطنٍ ترفرف فيه رايات الحرية، وتسوده قيم العدالة ويتسع لأهله من كل الملل والسحنات.. هذا كان همك وحلمك طوال غربتك.. وكأنك خشيتَ ألا يضمك ثراه فشدَّدت الوصيةَ بأن تُقبر هناك فى ثرىً هِمتَ به وبين أجداثِ من أحببت من أهلك وادأشياخك، فانجزتُ الوصيةَ وحملتك تابوتاً طاهراً إلي حيث أحببتَ ومع من أحببت ، وقبرتُك هناك حيث أردتَ وقبرتُ معك رُفات حلمك الجميل بوطن خيِّرٍ ديمقرطي.. لكنها المشيئة فقد عدت جسداً مسجى والوطن غير ما تمنيته أثخنته الجراح، ونعَق فيه بومُ الخراب إحتراباً وفساداً.. فما درى محبوك أيبكونك أم يبكون حُلمك..
والدي رحيلُك عن دنيانا إنتهاءٌ لوظيفة جسدك بيولوجياً إنتقالاً لسكونٍ أبدي.. إلا أن الحِراك الدائب هو ما تركته فينا من قيَمٍ
ومعارف وسيرةٍ لا مَوات لها.. ولك وعدٌ مني:
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض
فحسبُك منِّي ما تكِنُّ الجوانحُ
وما أنا من رُزءٍ وإن جلَّ جازعٌ
ولا بسرورٍ بعد فقدٍك فارحُ
إبنك سيف الدولة أحمد خليل..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.