مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في مذكرات البروفيسور قرشي محمد علي: معلم من طراز فريد .. بقلم: عوض محمد احمد/جامعة نجران
نشر في سودانيل يوم 21 - 10 - 2017

جامعة نجران
المملكة العربية السعودية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الكتاب و الكاتب: عين الطائر
صدرت في الفترة الآخيرة مذكرات البروفيسور قرشي محمد علي استاذ علوم التشريح و إستشاري الاشعة التشخيصية و مؤسس الجامعة الوطنية (و قبلها كان من جيل الأساتذة المؤسس لجامعتي الجزيرة و الأزهري)، تحت عنوان "على أكتافهم: سيرة ذاتية و تاملات". صدرت المذكرات في طبعة ورقية فاخرة بورق صقيل و طباعة ملونة و سعر (حنين) و "حنين" هذه بصيغة التصغير المحبب من باب مجاراة الكاتب الذي يكثر من استعمال هذه (الوحائد) اللغوية البديعة مما سيأتي علي ذكره لاحقا. صدر الكتاب عن دار الجامعة الوطنية للنشر و مطبوعا في تركيا في في 289 صفحة في ثلاثة عشر فصلا، إتخذ لها الكاتب عناوين ساحرة، تتدرج حسب مراحل دراسته و وظائفه. الطبعة تكاد تخلو من الأخطاء الطباعية إلا فيما ندر. إتبع الناشر سنة مهنية راقية في طباعة الكتب بإثبات تصنيف الكتاب في المكتبة الوطنية. ربما لو إحتوى الكتاب في آخره فهرسا و لو لأسماء الأعلام و المدن و الجامعات لسهل الرجوع لبعض مواضيعه. لم يشأ الطابع مخالفة سنة أهل السودان في اغفال تاريخ طباعة الكتاب. ساعد على جودة المذكرات ذاكرة الكاتب القوية التي لا تفوت كبيرة او صغيرة حتى حادثات أيام الطفولة (رأينا من تلك الذاكرة الاعاجيب أيام الطلب في جامعة الجزيرة)، و تجاربه الواسعة خارج و داخل البلاد و في جامعات عديدة (طلبا و أستذة) و في تخصصين طبيين مختلفين يمسكان بعلوم الطب من طرفيها هما علم التشريح و علم الأشعة التشخيصية، علاوة على تجربة في الخدمة المدنية ببروقها و زوابعها.
ولد الكاتب في قرية "مناقزا" بمنطقة الحلاوين الواقعة شمال ولاية الجزيرة في عام 1950م. و تلقى العلم و التدريب في أحسن ما كان متاحا لجيله من معاهد العلم الاساسية و العالية (مدرسة حنتوب و جامعة الخرطوم وجامعات بريطانيا و مصر)، منجزا مراحلها في زمن قياسي (دون الثلاثين) مما لا يتاح عادة الا للقلة من اولي العزم (العلمي). تمتد المذكرات على مدى زمني واسع يزيد عن الستة عقود بقليل، هي عمر الكاتب وقت كتابتها، شهد خلالها عهود سياسية متباينة و ثورات في كل المجالات. أيضا ساعد على جودة المذكرات معرفة الكاتب العميقة بطبيعة الشخصية السودانية و المام واسع بدقايق المجتمع (المتاح و المسكوت عنه). ساعدت مقدمة عالم كبير هو البروفيسور حسن مكي على اضاءة جوانب من المذكرات خصوصا انه ظل صديقا قريبا من الكاتب لقرابة الخمس عقود و نيف، و لا يزال.
الجرح و التعديل
تواضع الكاتب و (حقانيته) تدفعه لقول كلمة الحق و بذل الكلام الطيب بأريحية عمن إلتقاهم في مسيرة حياته المتنوعة، أهلا و أساتذة و زملاء و تلاميذ و مرؤسين. و أنصف حتى محاربا حمل السلاح ضد (ناسه)، و كان كما عاصرناه ايام الطلب شابا رقيق الحاشية لولا تصاريف مقلب القلوب لما صدق المرء إن مثله يمكن أن يحمل عصاة لصرف كلب، نسأل له الرحمة و الغفران. خلق العرفان و شكر الاخرين نادر جدا وسط
الإنتلجنسيا السودانية التي ظل دأبها منذ أيام كلية غردون هو الحفر و التغريق و الردم و الدسايس للأقران مما لم ينج منه الا القليلون (و لا حول و لا قوة إلا بالله). بيد أن الكاتب في الوقت عينه لا يتردد في قول ما يراه بشيء من الحدة ان رأي ما يظنه سلبيا لكن بطريقة رقيقة لا تجرح و لا تسيل دما، لكنها توصل اليك رأيه بكل وضوح. و تتمثل شجاعة الكاتب، مثلا، في رأيه السلبي في مدينة ام درمان (في سابقة ربما لا مثيل لها منذ قصيدة د. محمد الواثق الشهيرة في ذم ام درمان التي نشرها في أوائل السبعينات)، حيث أن (البقعة) هي أحد (أصنام) العصر في بلادنا و يكاد الوالهون بها، و هم رهط غير قليل، يخرجون من لا يرى رأيهم فيها من الملة نفسها. و يبدو لي إن أمر هذه المدينة (المتريفة) أشبه بلابس قميص فرعون الذي أوهمه به بعض حاشيته (سجن سجن، غرامة غرامة).
الجزيرة (الولاية) و السياسة
حرص الكاتب على إنصاف منطقته (الجزيرة) التي تكاد تضيع هويتها وسط فسيفساء الجماعات الكثيرة التي هاجرت اليها في أزمان و من أماكن و لأسباب مختلفة. و لم يكونوا كلهم ممن يرعون (الود)، و ربما شاب تعامل بعضهم جفاء و تعال على أهل المنطقة (الأصليين). يجري من باب (الاستهبال) اطلاق اوصاف على الجزيرة مثل (السودان المصغر) و (أرض التسامح) و هي أوصاف تستبطن غمطا لحقوق أهلها، فيندر أن ياتي منهم وال أو وزير او حتى صاحب منصب لصيق بالجزيرة مثل محافظ مشروعها الزراعي. الكاتب أظهر حساسية عالية تجاه هذا الامر حتى أنه ربما وجد العذر لأصحاب (الكتاب الاسود) الدارفوريين الذي شكوا بمرارة (العاشم) من التهميش رغم موارد اقليمهم الهائلة بشرية و مادية و اتهموا في كتابهم الذي فرضت عليه مؤامرة صمت حين صدوره في أواخر التسعينات جهة جغرافية معلومة بالاستئثار ب (خير) البلد، رامين الفتات لغيرهم. و ربما لو تم التعامل مع ذلك الكتاب ببعض الحكمة و (الدبارة) لأمكن تفادي اشتعال الحرب الطاحنة في دارفور بعد حوالي خمس سنوات من صدور الكتاب. و حقيقة يشعر المرء بوجود ملامح من التمييز الجهوي يعاني منه ابناء الجزيرة في المركز، بصورة اقل بما يحصل مع بعض الجهات، لكنه تمييز على اي حال و يثير الغباين و الأحباط. لن يستمر طويلا هذا النهج غير القويم لذا من الحكمة معالجته مبكرا.
يغوص الكاتب عميقا في (تشريح) بعض الجوانب الاجتماعية الحميدة و غير الحميدة في البلاد عموما و مجتمع الجزيرة خصوصا. على سبيل المثال، طبيعة العلاقات القوية و نظام الاسرة الممتدة التي توفر مجتمعا (اشتراكيا) يتيح التكافل بين أفراده الا أنه ربما يكون عايقا لتميز الافراد. مثلا ارتباط العاملين في المدن الكبيرة من أبناء الجزيرة بأهلهم أدى بهم لعدم اتخاذ مساكن في المدن احتاجوا لها لاحقا و لات حين مناص. كما ان ترددهم الكثير على قراهم أدى لأشكال من التسيب المهني و أثر على تطورهم و ترقيهم المهنى، كما ادى لنفور اصحاب العمل من توظيفهم و هم يشيعون عنهم تشنيعات حامضة، كذبا أم حقا، مثل ان ابن الجزيرة يغادر مكان عمله في الخرطوم ظهيرة الاربعاء و يعود صباح الاثنين. ينعي الكاتب على الشخصية السودانية عدم اطمئنان السوداني الا "للطريق السالك المطروق"، يقلدون بعضهم بعضا، بهامش ضعيف للابتكار و التميز. فان افتتح أحدهم متجرا للحلوى و نفقت سوقه، فستجد الشارع كله بعد حين مكتظا بحوانيت الحلوى.
لا يمكن أن تخلو هذه المراجعة من حديث في السياسة، خصوصا ان الكاتب قد عرفه الناس لوقت طويل كناشط كبير في الصفوف الأمامية من الحركة الاسلامية بمختلف مسمياتها. واضح من ثنايا المذكرات ان الكاتب يعيش منذ نحو العشرين عاما احباطا كبيرا مما آل اليه حال (جماعته) نتيجة لاخفاقات تجربتهم في الحكم و لملابسات المفاصلة أو قل الانشقاق الكبير وسط الاسلاميين (1999م). أدى به الاحباط الى الزهد في تنظيمه السياسي (بل في مبدأ التحزب نفسه) و الأوبة لجبل الاستقلال أو الحياد مع الاحتفاظ لنفسه بان يكون له رأيه في الشئون العامة. و هذا أمر حسن حيث ان مما لا يبعث على الارتياح وسط من يقولون بالحياد وسط مثقفينا 0و هم الأكثر عددا) هو اعتزالهم و هجرهم للاهتمام بالشئون العامة برمتها تاركين الحل و العقد للجهلاء و الانتهازيين. بيد أن العين لا تخطيءرؤية عدم ارتياح، بل قل بغض واضح من الكاتب نحو اليسار بمختلف مدارسه، و هذا ربما يعود لملابسات الصراع الحاد بين اليساريين و الاسلاميين في الستينات و السبعينات و هي فترات عاشها الكاتب في الدراسة الثانوية و الجامعية بانتماء و نشاط سياسي في أروقة الاسلاميين. الا أن هذا الاستقطاب بين الطرفين لم يمنع الكاتب من انصاف من ورد ذكرهم في المذكرات من أهل اليسار الذين كانوا منتشرين في اروقة الاكاديميا السودانية قبل ان يطوف عليها طائف الاسلاميين فيشرد الجميع (في كل واد) بمن فيهم بعض من كان على توجههم.
و حديث عن اللغة
أما اللغة فأمرها عجب في هذه المذكرات. بداية نقول أن للكاتب محبة تقترب من الوله للغة العربية و منذ عهود الصبا الباكر كما ورد في قصة استشهاده ببيت من غريب اللغة لتأبط شرا و هو في المدرسة الوسطى بحيث ربما احتاج مدرسه للرجوع لأحد الكتب لفهم معناه. نبتدي أولا باستنكاف الكاتب من الحاق لقب (البروفيسور) الأعجمي الرنان الثقيل الوزن باسمه و استبدال الترجمة العربية (الاستاذ الدكتور) به، و رغم عجمة كلمة "الاستاذ" أيضا الا أن العهد قد طال بها بين ظهراني العربية منذ زمن العباسيين فصارت من (أهل الدار).و الحمد للذي لا يحمد على مكروهةسواه، فقد اظلنا زمان نشهد فيه المستحق و غير المستحق يجر معه هذا اللقب في أي مكان حتى في بيوت الافراح و (البكيات) و حوانيت الخضار و القصابين، في وقت يجب ان يظل هذا اللقب محصورا في مظان العلم و البحث العلمي كما يفعل الفرنجة (اهل الجلد و الراس). و الغريب ان الوله بلقب الاستاذية قديم في التراث العربي. فبطانة كافور الاخشيدي، مثلا، كانوا يلقبونه في غدوه و رواحه بالاستاذ و لا يعرف له الناس أستذة و لا تلاميذا و لا مدرسة.
المذكرات مكتوبة بلغة رفيعة للغاية يأتي فيها الاسهاب و الايجاز في مواقعه، و لم تغب روح (المعلم) عن اي من فصولها، حيث يحرص الكاتب على شرح أي كلمة يظن بها صعوبة او تقادم عهد او ايغال في المحلية مراعيا بدقة لفروقات الوقت، خصوصا في هذا الزمان حيث صار ثلث سكان البلاد بين مهاجر و مغترب و مولود خارج السودان مما تحتاج الكتابة لهم أحيانا لترجمان! الكاتب يقترب من أن يكون له اسلوب كتابي خاص به بحيث تكاد لا تحتاج مرة ثانية لرؤية اسمه لتعرف انه كاتب هذا المكتوب أو ذاك، و هذه ميزة لم تتاح الا لقلة من أئمة الكتابة في سوداننا (مثل جمال محمد احمد و عبد الله علي ابراهيم و حسن الترابي و علي المك و الصادق المهدي). و الأمر من معدنه لا يستغرب. فالكاتب عضو في مجمع اللغة العربية و هو (مظن) يندر ان تجد فيه غير علماء اللغة او دارسي العلوم الانسانية و الدينية و هم (حراس أشداء) لحوزتهم و يندر أن يتيحوا رفقتهم الا للمستحقين.
ترى في ثنايا المذكرات تعابير نحتها الكاتب و بعضها نفض الغبار عنها مستدعيا اياها من المعاجم القديمة او كتب التراث غير المطروقة. مثلا نحت الكاتب كلمة عجيبة هي (صيحمان) و هو من يرتفع صوته صايحا، مع لغة الاشارة لافهام ضعاف السمع، و (تعاصت العضلات) للتنويه عن ضعف العضلات كأحد لوازم الشيخوخة، و (مصفوفة الحكمة و الفلاحة)، و (رجال لهم شعاع) في مدح ذوي الفضل، و (ما طاب و عاب) في وصف مباهج المدينة و سحرها الحلال و غير الحلال. و يضيق الكاتب بالحشريين فينحت لهم تعبير (اختلال معايير الخصوصية عندهم)، و وصف الشخص الموسوس بكلمة (وهام) بتضعيف الهاء و هو كثير التوهم (يستعمل شباب هذه الايام كلمة وهمة او موهوم لمن لا يرتاحون له من تصرفات او اشخاص)، و استعمل كلمة (الانملاس) لوصف ما يطرأ على الجلد من نعومة نتيجة الحياة الناعمة المرفهة، ومثلها ايضا كلمة (الممرع) كوصف لمثل هذا الشخص. ايضا استعمل الكاتب كلمة عجيبة هي (جوجوي) لمن يتصرف بلامبالاة تقترب من الاستهتار، و في جيلنا درجنا على الحاق كلمة (جو) باسم مثل هؤلاء الاشخاص، كقولنا (احمد جو) و قد هجرها الناس هذه الايام لكلمة (وهمي)، و ورد ايضا تعبير (تفارق الصديقان باحسان او بشيطان).
يتمتع الكاتب بروح السخرية التي لا تجارى مبثوثة في ثنايا المذكرات و كانت مدهشة خصوصا لجيلنا الذي رأي فقط جانب الاستاذ الجاد في الكاتب في شبابه الاول. طبعا ساعدت معرفة الكاتب و اجادته لفنون الكتابة في هذا الجانب. مثلا، يسخر الكاتب من رتابة الحياة السودانية و ايقاعها البطيء الدوار بقوله ان السودان (بطيء و حران) و حران هذه بتضعيف الراء تعني الوقوف بلا حركة في وقت الحوجة لها، و هي صفة تلازم أحد الحيوانات ذات السمعة السيئة. و أيضا قوله أن (الرياضة لا تضر مع الكراهية) و هو يصف تضجره من الرياضة الاجبارية في مدرسة حنتوب الثانوية. غيرأن الذي أضحكني و لا يزال، طلب أحد المزارعين منه في القرية و طائرته تنتظره على مبعدة بضع ساعات للسفر للبعثة اللندنية أن ينجز له أحد العمليات الزراعية (التي يتقنها) في حقله (حواشته).
التعليم العالي: الوعود والرعود
في عقد السبعينات من القرن الماضي بدأ في عدة دول ظهور نوع جديد من التعليم الطبي شكل أول (ثورة) فيه منذ ظهور تقرير فليكسنر في أوائل القرن الماضي. على نقيض التعليم التقليدي الذي كانت و لا تزال لحد بعيد تمثله جامعة الخرطوم. يقوم التعليم الطبي الجديد على مبادئ جديدة مثل التكامل بين العلوم الأساسية التي تدرس نظريا و في المختبر و المشرحة، و العلوم السريرية التي يجري التدريب عليها في المستشفيات، و يقوم ايضا على جعل المجتمع و الوحدات الصحية الأاصغر ككل موضوعا و مكانا لتدريب الطلاب جنبا الى جنب مع المستشفى، كما يقوم على تبني و تشجيع الطلاب على الاطلاع الذاتي و تدريبهم على اكتساب المعلومات بانفسهم بعيدا من اسلوب المحاضرات التقليدية. اقتضى اعتماد هذا النظام تغييرات جوهرية في المناهج وسائل التقويم و مواعين التدريب و تدريب الأساتذة و حتى مدة الدراسة في كليات الطب. كانت كلية طب الجزيرة من أوائل من تبنى النظام الجديد في زمن عميدها الثاني (بروفيسور بشير حمد)، بينما اعتمد العميد المؤسس (بروفيسور نصر الدين احمد محمود) نظاما هجينا بين التقليدي و المبتكر لكنه اقرب للتقليدي. بعد ملابسات مطولة أفاض الكاتب في سرد تفاصيلها في المذكرات، اضطر لتقديم استقالته من جامعة الخرطوم و الانضمام لجامعة الجزيرة في اوائل1981 وسط حفاوة باينة من قبل ادارتها في ذلك الزمان. قدر للكاتب الانضمام لكلية الطب بجامعة الجزيرة في عامها الثالث من تأسيسها و قد لاقى نظامها المبتكر هوى في نفسه و افاض في ذكر محاسنه و ذكر مساوئ النظام التقليدي الذي نعى عليه انه ألقى في (مهالك) الفقد التربوي المئات من اذكى طلاب السودان راحوا ضحية أنظمة تقويم ثبت فيما بعد مجانبة بعض جوانبها للصواب.
للكاتب رايء قاطع و مثير للجدل حول مجانية التعليم العالي داعيا لالغائها و مقترحا تطبيق ما جرى عليه العرف في امريكا و اوربا باعطاء الطالب قرضا (حسنا) يتم سداده بعد تخرج الطالب من عائد عمله بضمانات من البنوك او المحليات. للاسف لا يوجد لمصارفنا افق يتسع لمثل هذه المبادرات النبيلة (حتى رجال الاعمال و هم يملكون ضمانات قوية يجدون صعوبة في الاقتراض من مصارفنا فما بالك بزغب الحواصل). هناك مشاكل (فقهية) في ضروب و صيغ التمويل المصرفي المسماة اسلامية مما شكى منها الكاتب مر الشكوى و كاد أن يدعو للعودة لصيغ الفائدة التقليدية. كما ان التدهور المتسارع في سعر العملة يقف عايقا في وجه هذه المبادرة. لهذا يظل حلم الاقراض بعيد المنال. اذن لا مناص من الابقاء على مجانية كاملة او جزئية حتى لا يصير التعليم العالي (دولة) بين الأغنياء الذين لن يذهب أولادهم للعمل خارج العاصمة. و هذا ما تعاني منه الخدمة الطبية حاليا. فرغم أن عدد الخريجين يعد بالالاف الا أن مظان الخدمات الصحية في الارياف و حواشي المدن تكاد تخلو من المطببين، في حين أن الوضع كان أفضل حين كان الأطباء الخريجون يعدون بالمئين قبل نيف و عشرين عاما.
ينتقد الكاتب و بمرارة العديد مما يعده ظواهر غير حميدة في مسار التعليم العالي. مثلا ينتقد مما جرى العرف بتسميته (شرف البورد) و هو منع مراجعة نتيجة الطالب في الامتحانات بعد نشرها في البورد (و هو سطح خشبي يعلو قوائم تلصق به اوراق تحوي نتايج الامتحان). غير أن هذه الديمقراطية النبيلة يقابلها رايء قوي من قبل الكاتب بخصوص جنوح طلاب الجامعات للشغب الذي وصل في العقود الأخيرة لمسارات خطيرة مثل الاعتداء الجسدي على الاساتذة ووصل حتى الاعتداء بالسلاح ناريه و ابيضه (في حوادث مشهورة). لم يتردد الكاتب و هو على رأس احد الجامعات من اجتراح عقوبات قاسية بمثيري الشغب وصلت للفصل النهائي من الجامعة، و لم يستجيب لاهل الجودية الضارة من (ناسه) للتراجع، و هيهات ان (يلقوها) من مثله (طبع الحلاوين الوعر).
للكاتب و رغم الولع بالعربية رايء يمكن ان نقول انه غير (محبذ) لتعريب التعليم العالي، خصوصا الكليات الطبية و الصحية و له بالطبع خطوط دفاعه في هذا الأمر الشائك. لا شك ان تجربة تعريب التعليم العالي لم تكن موفقة (في الطب و غير الطب)، و لم هناك أي داع لها خصوصا انه كانت توجد اكثر من جامعة توفر التعليم باللغة العربية لمن يرغب فيه من عشاق (التأصيل). عزل التعريب جامعاتنا عن التواصل مع المجتمع العلمي الدولي و قلت فرص توظيف الخريجين السودانيين خارج البلاد و ضعفت مقدراتهم في انجاز الدراسات العليا في الجامعات ذات السمعة الاكاديمية الجيدة. اضطر أصحاب القرار بعد سنوات قليلة الى غض النظر عن التدريس بالانجليزية في كليات الطب الا أن باقي الكليات بما فيها باقي الكليات الطبية و الصحية قد (تدبست) بالتعريب و صار أمرا واقعا.
أورد الكاتب رأيا جريئا في جدوى المعرفة الموسوعية ، حيث يرى أن التقدم المادي للامم لا يتحقق الا بالمعارف التخصصية و فوق التخصصية الضيقة، لا الموسوعية التي لا تتيح التعمق في مجال معين و ان كانت تعين على حصد اعجاب العامة و نسج الاساطير حول الموسوعيين و في البال عدد منهم ظهروا في بلادنا في المئوية الاخيرة. بل و يدعو الكاتب لمراجعة سياسات القبول للجامعات، متسائلا عن جدوى دراسة الرياضيات لدارس علم الاجتماع، او حتى جدوي تشريح الصراصير و دراسة مسائل الرياضيات و قوانين الفيزياء في كلية الطب. الا ان هذا الرأي يخالف حاليا ما ذهبت اليه كثير من كليات الطب في العالم باضافة مقررات قصيرة من علوم الانسانيات ذات الصلة بالطب. دفعهم لهذا تشعب الممارسة الطبية و بروز قضايا طبية جديدة تحتاج لرؤية أبعد قليلا او كثيرا من مبضع الطبيب و مسماعه، مثل قضايا القتل الرحيم و اخلاقيات الممارسة و البحوث الطبية و الفتوحات الماثلة الناتجة من علم هندسة الجينات و الاخصاب باستخدام الأرحام المستأجرة و العنف الاسري و غيرها، و هي قضايا متشعبة تعيد للأذهان مقولة نابليون بان الحرب أخطر من ان تترك للجنرالات وحدهم. يوجد حاليا مقررات مملة و ملئية بالثغرات تسمى (مطلوبات الجامعة) تدرس في لكل طلاب الجامعات تستهلك نحو عامين فيما لا طائل وراؤه حيث تدرس اللغة العربية بصورة تقليدية و كذلك تدرس التربية الاسلامية بصورة تكرر ما درسه الطلاب في المدارس. كان يمكن الاقتصار في تدريس اللغة العربية على مهارات الكتابة و القرأءة و أنماط الاخطاء الشائعة و تصحيحها. فيما يمكن في التربية الاسلامية تدريس الفقه الديني المرتبط بالممارسة الطبية.
خاتمة
لم أقرأ مذكرات بمثل هذا الشمول و الصدق و الأحاطة الا في حالة مذكرات الشيخ بابكر بدري مع فارق العمر، حيث أن (ود بدري) كتب مذكراته و هو صنو التسعين، بينما الكاتب لا يزال على رأس عمله و انجازاته. كما ان تجارب الكاتب اكثر تنوعا، بينما لم يتجاوز الشيخ محطتي المحارب ثم المعلم. احترم الكاتب قراءه كامل الاحترام بالعناية (المركزة) بلغة كتابه (صياغة و نحوا و صرفا و املاءا) و بطباعته البهية و بسعره (المتهاود). يبدو كأن الكاتب قد اقسم ان يقول كل شيء، فيورد كل ما رآه مهما، مفصلا بالتواريخ و الاسماء و الامكنة الا ما كان فيه حرج لشخص ما. لم يقتصر الكاتب على تدوين (الحادثات) فحسب، بل حرص على أن يتبع كل حادثة بتحليل واف و أحيانا بمقترحات لتجنب ما يظنه عثرات، خصوصا ان الكاتب كثيرا ما تناول أحداثا لا تزال ساخنة و قيد التداول في دهاليز التعليم العالي و الخدمة المدنية مثل قضية التعريب و (شرف البورد) والى تأثير الحكم الفيدرالي على الخدمات الصحية بتنازع السلطات بين الولايات و المركز مما تم تفصيل بعضها أعلاه. لا نبعد النجعة ان اقترحنا ادخال الكتاب خصوصا الفصول الاولى منه حتى فصل الابتعاث الى (لندرة) كمقرر قراءة للناشئة في المدارس الثانوية مع بعض التنقيح، فهو أقرب لأن يثير فيهم روح الحماس و رفع المعنويات خصوصا في هذا الزمان الذي تحاصر فيه الملهيات و الصوارف حتى الرضع و هم في صدور امهاتهم. لو تم تخييرنا بتخير صفة واحدة للكاتب لقلنا انه التجويد و التعب في طلبه. حتى في مجال بعيد عن تخصص الكاتب مثل منصب وكيل وزارة الصحة بدأ الكاتب و كأنه نشأ منذ نعومة أظافره عاملا في دواوين الخدمة المدنية، خبيرا بأزقتها و بمكائد افنديتها و لا يستنكف عن طلب (الدبارة) حتى ممن هم اقل درجة وظيفية منه، فغادرها دون أن يصيبه غبار أصاب غيره. نأمل ان يستمر الكاتب في النشر فقد طال عهدنا بمثل هذا النهج النادر من التأليف الرصين و الممتع في ذات الوقت، بحيث لن تستطيع أن تتوقف من قراءة الكتاب الا عند آخر كلمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.