بسم الله الرحمن الرحيم التاريخ : 27/1/2010م [email protected] موضوع الضيوف في الحقبة السابقة وقصصهم ومواقفهم وطرائفهم وأحزانهم قضية لا تنتهي بكتابة مقال عنها أو كتاب حتى ، فهي مليئة بالكثير من الشجن والذكريات لن تنمحي من ذاكرة من عاشوها ضيوفاً ومضيفين ، كثيراَ من البيوت كانت محطات وعلامات بل ومنارات في مجال الضيوف مما أهلها أن نطلق عليها بيوت خبرة إذا جاز التعبير، عاشت الكثير من التجارب والمحن والذكريات مع الضيوف بعضها مضحك وآخر مبكي ، ولكنها بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً مع تعاقب الأجيال واندثار قيم الضيوف وأدبياتهم وطرق التعامل معهم ،ولم يتبق من آثار أولئك الضيوف سوى ما نقشوه من مواقف وذكريات و(شخطبات) على جدار وجدان أهل تلك البيوت النبيلة ،كما كنا نفعل على جدران عنابر (الداخليات) ونحن نغادرها لمرحلة تالية ( تذكرونا فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان ) . كل من استوطنوا المدن باكراَ لهم ملفات ذاخرة بمواقف الضيوف و( الزنقات ) التي تحصل في كل شيء ، ضيق الامكنة ، وضيق ذات اليد ، لم تكن هناك رفاهية في ذلك الزمان ولم تكن هناك تقنية ، كان مسلسل الثامنة المصري هو فاكهة اليوم يتسمر حوله أهل البيت وضيوفهم وبعض جيرانهم الذين لا يملكون تلفزيونات آنذاك، وكانت الحياة عسيرة وشاقة وليس فيها تساهيل اليوم من وسائل اتصالات وغيرها ،ولكن كان الناس يتمتعون بصبر جميل اندثر معهم ومع زمنهم الذي كان رائعاً كروعتهم . كان الضيوف يُستقبلون بحفاوة كبيرة وترحاب غير عادي من قبل المضيفين وكان هذا التصرف مع أنه وجداني ولا يمكن تمثيله لكنه كان في خانة الإلزامي لكون الضيوف لا يقبلون بأقل من ذلك بل يعتبرونه الحد الادنى الذي يجب أن يعاملوا به ، وإلا ستحدث ( النبيشة ) و(شيل) الحال وتأتيك الأخبار من البلد وتسمع كلمات مثل ( زولك باطل ) والله ( زولك مافيه فايدة تب ) ، لذلك كل من سكن في المدينة ومن باب الحفاظ على سمعته في البلد التي هاجر منها وحفاظاً على مشاعر جماعته وبقية شمله هناك الذين يتلقون أخباره من الضيوف العائدين من رحلات العلاج والدراسة وغيرها هناك، لا بد أن يبذل كل ما في وسعه لإرضاء من يصعب رضاهم . ويتحمل تعليقاتهم وأنانيتهم وتصرفاتهم المخلوطة بين البساطة احياناً والسذاجة احياناً أخرى، فتجد بعض الضيوف بعد أن يتغدى ويشرب الشاي والقهوة و( يحكر سفته ) ينظر الى سقف الغرفة ويبادر صاحب البيت بقوله ( والله عارف يا فلان عرش بيتك ده كعب تب ، والشقيقة دي لازم تتغير ) مما يرفع ضغط صاحب البيت ويتمتم مع نفسه ( من وين يا حسرة )، ويقول في نفسه ( زولك شبع ومزاجه راق وعايز ينظر لي في حياتي وخرطة بيتي وسقفه ) وتجد آخر بعد ( ما يشبع ويوزن رأسه ) يقول والله يا فلان ( بيوتكم دي كعبة وضيقة خلاص ما عارفكم قاعدين فيها كيف) متناسياً أن هذه البيوت الضيقة الحارة هي التي آوته ووفرت له السكن في المدينة ، ويزيد بقوله ( يا زول ما كان أخير لكم معانا هناك والله الهواء ضارب مش أحسن ليكم من المراوح دي ودفع قروش للموية والنور ) هنا يفيض الكيل بصاحب المنزل الذي كان يتوقع كلمة شكراً على قيامك بواجب الاستضافة وما سببناه لك من تعب وتكلفة ، وتجد آخر ( يمعر ) في الرغيفة وأثناء رفع اللقمة الى فمه يقول ( والله الرغيف ده مسيخ خلاص أنتو بتاكلوه كل يوم كيفن ) ويسال آخر ( إنت يا فلان كيلو اللحم بي كم ) وهو في هذه اللحظة يرفع عظماً كبيراً وبينما هو كذلك يقول ( والله نحنا اللحم ده زاتوا ما بندروه كل يوم ) وينسى اللهفة التي يتناول بها معظم ما يحويه الصحن من لحم باعتباره ضيف وأن كل ما أحضر من أكل لإكرامه ومن حقه التمتع به لوحده دون مراعاة لأصحاب المنزل الذين احضروه في الأساس لنفسهم ولم يرسلوا له دعوة للغداء معهم . الناس في ذلك الزمان كانوا يهملون حتى أبنائهم ودراستهم ومستقبلهم من أجل إرضاء الضيوف وكثيراً من البيوت تعج بالضيوف لدرجة تجعلك لا تفرق بين أهل البيت وزائريه من كثرة الأريحية ونظرية البيت بيتك التي يتمتع بها الضيوف ، الأبناء الصغار هم خدم مطيعين للضيوف ويقومون على خدمتهم بكل طاعة ورضا وإلا فالويل لهم من عقاب أهلهم قبل عقاب الضيوف الذين يتدخلون ويشاركون صاحب المنزل في كل شيء حتى في تربية أبنائه وحثهم على الرجولة والنخوة مثلهم هم الذين يعتبروا أنفسهم رعاة الخير والفضيلة والقيم التي يسعون بكل ما يملكون لزرعها في جيل الأبناء الذين هاجروا من الريف ويريدون منهم التعامل معهم بحيوية و( ضكارة ) ويجردون أنفسهم ووقتهم لخدمتهم . دون تقديم أي شيء لهم . ضيف تلك الحقبة كان يأتي حاملاً مشاكله ويلقيها بكل ثقلها على مضيفه ، ينتظر منه توفير السكن ، والإعاشة ، وخدمة التوصيل للاماكن التي لا يعرفها ، وإكمال قروشه الناقصة ، وتنويره عن المدينة ومعالمها الرئيسية وطريقة حياتها والذهاب معه لمنتزه المقرن العائلي وقطع التذاكر ودفع تكلفة المواصلات ، والذهاب معه لزيارة المعارف الآخرين بالمدينة لكونه سيلام إذا لم يصلهم في بيتهم من أجل نقل أخبارهم وظروفهم ووضعهم بالكامل لذويهم بالبلد ، وهناك ما يعرف بضيوف ( الوتد ) أي المقيمين على مدار العام ولا يعودون الى أهلهم إلا في المواسم والأعياد وربما لا يعودون أصلاً ، وهؤلاء شريحة الطلاب الجامعيين الذين لم يجدوا فرصة بالداخليات و( العايدين )، الشخص من أولئك يأتي برفقة والده لمرة واحدة لتسليمه لأقربائه بشنطة الحديد ونسيانه بل شطبه ما قائمة التزاماته ويتركه ( يدعبس ) و( يدافر )مع ناس الخرطوم ويأكل ناره الى أن يتخرج ويشتغل حتى يقوى عوده ويكّوّن نفسه فيعود والده مرة أخرى بعد طول غياب ولكن هذه المرة لأخذ الحصاد بعد أن (تخلل) لعدة سنوات وصار جاهزاً للأكل والمسكين كان منسياً الى أن حان وقت قطافه ، فيتزوج ويفتح بيتاً ويحمل جزءاً من العبء ويشيل شيلته ولكن بطبيعة الحال بأداء اقل وصبر أقل وعطاء أقل ولن يكون مثل الأصلي فيكون به بعض التمرد وبعض ( الرخرخة ) والتملص ولكنه بالحد الأدنى يمسك أهله المباشرين ويخفف الضغط قليلا على الجماعة . تحول الحال من جيل الى جيل ، من جيل الصبر والتضحيات والبيوت المفتوحة ، كانت بيوت أهلنا في ذلك الزمان ليس لها كوالين ولا تقفل أبوابها ليلا ، وتترك مواربة لطارقي الليل ، كانت الكثير من البيوت تستقبل ( لواري ) تقف أمامها ليلا ينشد ركابها العشاء والحمام والنوم والأغطية والشاي ومعها الابتسامة والمجاملة والسهر ، كانت النساء تشمر سواعدها ( للعواسة ) ليلا لصعوبة الرغيف ، كثيرا من البيوت والأسر كانت تدخل في حالة طوارئ عندما يباغتهم لوري مستف بزوار قادمين دون موعد بطبيعة الحال ، ذاك يريد ( الجبنة ) ويريد أن ( يشم ريحة القلية ) وآخر (عايز صعوط) والمحلات قفلت ويريد من (يشحدوا) له من جارهم النائم ، وثالث لا يحب ( الملاح ) ليلا ويريد أن يتعشى ( بلبن ) الضيوف كانوا مكلفين وجريئين وطلباتهم لا تنتهي ويعتبرون سكان المدن يملكون فانوس سحري لتلبية هذه الطلبات المستحيلة، كان الاجتهاد والصبر والجسارة هي سمة الناس آنذاك فهم يحاولون بكل ما يملكون إرضاء ضيوفهم وتلبية جميع مطلبهم دون من أو أذى . وتعاقبت الأجيال وتغيرت الأحوال وبدأت ظاهرة الضيوف تقل شيئاً فشئياً لعدة عوامل حتى كادت أن تتلاشى ، صارت الأجيال الجديدة لا تحترم الضيف ولا تعطيه وقتها ولا تقدم له أي خدمات فالكل صار مشغول بنفسه وبظروفه الخاصة وبأولاده ودراستهم ونجاهم ، حتى ربات البيوت الحديثات صارت لهن اهتمامات مختلفة وشطبن الضيوف من قائمتهن تماماً، زمان كان الناس يؤخرون وجبة الغداء بحجة ( يمكن يجي زول متأخر ) هذا الزول غير محدد ولكن ربما يهبط بعد انتهاء مراسم الغداء ، الآن لو كان وصل فعلاً قبل موعد الغداء ممكن ما يفتحوا ليه الباب أو يقال له ( أنت مجنون دي مواعيد تجي فيها ) زمان كان أول ما يدخل زول ومهما كان الوقت متأخراً يقدم له الغداء دون سؤاله ، والآن يقدم له البارد حتى لو الغداء جاهز ، يؤجل تقديمه حتى يخرج عكس ناس زمان الذين يؤخرونه حتى يحضر . أحد أصدقائنا وزملائنا الحناكيش في حقبة الثمانيات ، كان يأتي أحياناً مرة أو أثنين في كل عام متأوهاً ومرهق و( يتوحوح ) ، وبسؤاله خير يا أستاذ ؟ يتنهد ويقول ( والله امبارح كان معاي ضيوف في الغداء ) فيخفي زميلنا الثاني (الخنشور) شعوره بالسخرية لأنه ليه سنة كاملة ما رقد في سريره وأمبارح بايتين معاهم ثمانية أشخاص وحضر معهم الغداء ضعفهم ، ولكن لطيبة وصبر الناس آنذاك كانوا يعتبرونه واجب ولا يجب التذمر أو الشكوى منه ، الى أن اتى جيل التسعينات المتمرد وبدا يطلق عليهم لقب أهل العوض وبدءوا في السخرية منهم وتشتيتهم وأغلقت في وجههم الأبواب أو البوابات وصار هناك أقفال للبيوت ومواعيد للنوم وخصوصية وكراسي جلوس وقل عدد السراير بالبيوت ، فصار أهل العوض يأتون من قراهم ومدنهم ويعودون في نفس اليوم كي لا يقل حسابهم وتجرح كرامتهم ومافيش حد فاضي ليهم أو مرحب بهم في عصر العولمة والنت والسرعة والاتصال وعهد الرفاهية ، وعلى الرغم من ارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الخير وفائض الطعام ، نلاحظ قلة في الكرم وقلة في العطاء وقلة في إقامة ( العزومات ) إلا من باب التفاخر والصداقات و(البرستيدج ). فهل العيب في مواطن المدينة الذي يعتبر أن وقته من حقه أن يقضيه في هدوء مع عائلته وأصدقائه المقربين وحياته الخاصة ، أم العيب في أهل العوض الذين أخذوا كثيراً و( بهدلوا ) وأزعجوا ولم يقدموا شيئاً يستحقون التضحيات من أجله ، وهناك آراء تقول أنهم عندما يحدث العكس ويسافر أهل المدن لهم بقراهم يقابلونهم ببرود و( تملص ) ولا تسمع منهم سوى ( يا زول أنت في بلدنا دي من متين ) ، أو النميمة مثل ( يا جنا زولك ده طول كده ماله نعال ما رفتوه أو قلبته المدينة ) وسمعت كثيرون يشتكون من ناس بذلوا من أجلهم كل غالي ورخيص وعندما زاروهم بقراهم لم يدعوهم لتناول كباية شاي حتى . لكن في النهاية كل منا مر بمرحلة أهل العوض أي حصل له حالة ( استعواض ) فأهل العوض هم أهله الذين أرسلوه للمدنية كي يتعلم ويتنور ،وعوض الأهل هو ابنهم الذي خرج من جلباب العوض والبسه بقية أهل الحلة الرجعوا وشالوا معاهم جركانة العسل من غير رجعة .