مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسمار! .. بقلم: الدكتور الخضر هارون
نشر في سودانيل يوم 18 - 03 - 2018

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(5)
ونستريح من وعثاء السفر في تلافيف الذاكرة العجوز رفقاً بها وبنا وحفاظاً على ما تبقي منها، نلتقط الأنفاس ونتزود بما يشحذ الهمم مجدداً ويبعث في الروح الإقبال النشط والمثمر علي الحياة. والزاد في معناه العام هو إعداد العدة لكل أمر جليل قبل الشروع فيه. فالرؤية تسبق التنفيذ وبعد إفراغ الجهد ينتظر المؤمن دعم ومباركة السماء كأنه يروم التناغم كسائر المخلوقات مع حركة الكون الفسيح. جاء في التنزيل" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"(البقرة 197). وقد وردت الآية الكريمة في شأن الحج :" الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج ...." قال أهل العلم إن الناس كانوا لا يحملون معهم الزاد إذا ما حجوا يقولون جهلا وتواكلا: "نحج إليه ولا يطعمنا؟!" فينتهي بهم المطاف وهم يتكففون الناس فنهوا عن ذلك وأمروا بحمل مؤونة السفر (الزوادة). إنها دعوة لأخذ الزاد عند الترحال والسفر وهي كذلك كناية عن ضرورة التمسك بالأسباب في الحياة الدنيا واعداد العدة لكل عمل يراد له أن ينجز لا الركون للأمنيات وانتظار غيث السماء من الذهب والفضة وهو ما لا يقع مع التذكير بأن خير الزاد هو تقوي الله بادخار الأجر للحياة الأبدية بالاستقامة والإتقان والتماس الخير، كل الخير للخلق والأحياء. ذلك شبيه بما جاء في شأن اللباس " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سواتكم وريشا ولباس التقوي ذلك خير."(الأعراف 26) فقد كانت قريش تطوف البيت عارية من الثياب ثم أمروا باللباس ربطاً للستر بالكرامة الإنسانية والسير علي الطريق المفضي للنعيم الأخروي .
والزوادة كلمة رنانة عندما تقرع آذان (ناس السكة (والسكي) بإمالة الشايقية). أي أولئك الذين شط بهم النوى من أعماق الريف فاتخذوا البنادر والمدن سكنا لهم. ذلك أن الزوادة كانت من طقوس السفر المحببة للكبار والصغار عندما كان السفر شاقاً يستغرق الأيام. يعمد أهل المسافر في الشمال إلي عتود حنيذ ( والعتود من فصيح اللغة وهومن أولاد المعزي وهو ما قوي وأتي عليه الحول) فيذبح ليلا ينال منه المودِعون الذين جلسوا حلقاً علي قيزان الرمل المحيطة بالدور، عشاء دسماً ثم تخبز كسرة التمر وهي من طحين القمح يخلط بالتمر ويمسح بالسمن ويلف اللحم المحمر فيه ويعبأ (برطمان) بالُدقة وهي خليط من الكمون (الشمار) والملح لزوم الغموس! تلكم هي الزوادة تكفي لقطع رحلة (البابور) ثم القطار من كريمة الي الخرطوم وإن نفدت ففي عطبرة الفول المميز وفي شندي الطعمية وسلطات الباذنجان ولا بد من الإبقاء علي شييء من قراصة التمر لمن بقوا في المدينة يتذوقونها فتوقد في دواخلهم جذوة الحنين إلي الجذور، إلي مسقط الرأس ومساكن الأحباب. ويتفنن سكان غرب السودان في صنع مزيج من الدخن والتمر فعال في إطفاء حرقة الجوع في السفر وهو أيسر حملا من زوادة أهل الشمال ولعله أكثر نجاعة. وفي الجزيرة الخضراء تكون الزوادة غالب الحال هي الآبري الأبيض. ومن الخرطوم إلي الأصقاع جميعاً كانت الزوادة علباً من الحلوى الطحينية (الطحنية) من حلويات سعد والمربي والرغيف الذي كان حسنا يومها والباقي يكمل من حصاد المحطات! وكنا قد درسنا في مواد الآنثربولجيا مقارنة بين أغذية الشعوب فكان غذاء الطوارق في الصحراء الكبرى شبيها بغذاء أو بزوادة السودانيين في كردفان ودار فور. علقت الدراسة بالقول إنه أكثر فائدة بما لا يقاس من غالب طعام الأمريكيين الذي وصفته الدراسة بالمشبع بالدهون المشبعة والأملاح والسكاكر قليلة الفائدة عظيمة الضرر!
وقد بدا لنا ضرورة التخفيف والتحلل من الرتابة بهذه الاستراحة، حتى رتابة السرد الجميل الأخاذ فى ظن من أحسنوا الظن بنا وعبروا عن ذلك كتابة نذكر منهم بالخير الأديبين اسحق أحمد فضل الله والروائي الكبير عيسي الحلو وكثير من الأحباب علقوا مشكورين بطرق أخري فالدكتورعبداللطيف سعيد رأي فيها شبهاً بمحاضرات أستاذهم علي المك، رحمه الله في مدرجات الجامعة. ورأي فيها صديقنا العالم الأديب حسين علي محمد إبراهيم ما رآه في كتاب العلامة عبدالله الطيب "التماسة عزاء بين الشعراء". وكل ذلك من حسن ظنهم بارك الله فيهم. وكنت قد استسمحتكم معاشر القراء والقارئات في مبتدأ هذه السلسلة أن أكتب عفو الخاطر في حل من كل قيد. وقبل أيام وأنا أعيد مطالعة كتاب هام للدكتور طه حسين عن صديقه الروحي الضخم صاحب المعرة أبي العلاء الشاعر الفيلسوف، وقفت علي التماس مماثل لطه حسين لقرائه تحدث في مقدمته عن طبيعة الكتاب الذي كتب . قال فيه إنه لا يكتب كتابا في النقد الأدبي عن أبي العلا وأنه لو فعل لاقتضته الضرورة العلمية الإشارة إلي مواطن الضعف والقوة في شعر أبي العلا بغير تحامل ولا محاباة. قال إنه يكتب عن الرجل كصديق يحبه ويجله بخلاف ما لو أنه كتب عن البحتري والمتنبيء. قال مهيئا القاري لما سيأتي : " إنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجي نفعه ولا يتقي شره ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق. أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي والتي تكتب لرضا الأصدقاء واتقاء لسخطهم؟ ألم يجهدك هذا السفر المتصل في هذه الطريق الطويلة الملتوية، طريق البحث العلمي والنقد الأدبي؟ ألست في حاجة إلي أن تعرج علي هذه الواحة الخضراء لتستريح لحظة في ظل الحب النقي الكريم؟". ولعلي أراكم قد سئمتم أنتم أيضا من ثقل الجد واشتقتم إلي فضاء حر قد انعتق من كل قيد! وجدت مثل اعتذار الدكتور طه حسين لدي الدبلوماسي الدكتور الهندي( ساشي ترور) وهو يكتب كتابا هاما عن الزعيم الهندي الشهير ورئيس وزرائها "جواهر لال نهرو" بعنوان: "اختراع الهند: قصة حياة جواهر لال نهرو" ترجمه إلي العربية دكتور حبيب الله خان وهو رجل متمكن من العربية كان سفيرا للهند لدي دولة الإمارات العربية المتحدة ولعله عمل كذلك في المملكة العربية السعودية. وقد ربطتنا به صلات طيبة أثناء عملنا في الهند. وهو أكاديمي يدير مكتبة عربية ضخمة تضم أمهات المراجع العربية والإسلامية بجامعة ميللي الإسلامية في نيودلهي أسستها للجامعة بتبرع سخي، دولة الكويت. أما الدكتور (ساشي ترور) فهو دبلوماسي أممي عمل لثلاثين عاما هناك حتي تقلد منصب وكيل المنظمة إبان عهدة كوفي عنان وقد أهدي إليه هذا الكتاب الذي ألف غيره كتبا عديدة. وقد ترشح لمنصب الأمين العام ولم يظفر به. عاد ليخوض غمار السياسة نائبا عن إحدى دوائر عاصمة ولاية (كيرلا) ليعين وزير دولة للخارجية وكنت قد وجهت إليه دعوة باسم الخارجية لزيارة السودان لكن لأن اختصاص الدول العربية كان لدي زميله وزير الدولة رئيس الرابطة الإسلامية، حليفة حزب المؤتمر الحاكم، السيد إي أحمد فكان هو الذي زار السودان. حدثني د. سأشي ترور عن معرفة لا بأس بها بالسودان وكان قد زار كسلا والقضارف في إطار عمله في المنظمة الدولية وهو حاليا، لعله رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان (غرفة النواب "لوك سابحا"). يريح المؤلف نفسه من عويص الكتابة ليتحرر مثل طه حسين من كل قيد فيقول: " إن كتاب (نهرو اختراع الهند) ليس من الأعمال العلمية ولا يقوم علي بحوث جديدة في سجلات محفوظات غير مكتشفة ولا توجد فيه حواش أو هوامش......... بدلا من ذلك، فهو عبارة عن إعادة تفسير- لحياة غير عادية وسيرة مهنية وللإرث الذي خلفه (نهرو) لكل هندي. لقد أسبغ نهرو على لفظة "هندي" من المعاني ما يجعل استعمالها مستحيلا دون الإقرار بدَيْن: إن جوازات سفرنا تجسد المثل التي آمن بها. من أين أتت هذه المثل؟ وهل وضعها منشؤها موضع التنفيذ؟ وإلي أي حد تبقي قابلة للتطبيق في وقتنا الحاضر؟ هذه هي موضوعات هذا الكتاب." وقد خلص الكتاب إلي أن نهرو هو الذي اخترع هذه الهند التي نعرفها: ديمقراطية تعددية تسع الجميع بعد أن قاوم تيارا يمينيا سعي لتسمية الهند باسم قديم يمثل الهند القديمة وثقافتها الهندوسية "بهاراتا" فقط فقد أبقي في الدستور اسم الهند إلي جانب الاسم القديم. وبهاراتا هو الاسم الذي يحمله الحزب الحاكم اليوم (بهاراتا جاناتا ). والمؤلف وجل ومتخوف من إنزلاق الهند إلي ما كان يخشاه نهرو من الحفاوة بميراث يمثل فرعاً واحدا وحيدا في الثقافة الهندية، هو الثقافة الهندوسية أو ما يعرف ب (هندتفا) Hindutva وقد تبني الحزب الحاكم هذه الثقافة كايدولوجية منذ العام 1989. دافع التأليف إذن هو الحب، حب نهرو مثلما أن دافع طه حسين هو محبة شيخ المعرة.
وهذان الكتابان هما استراحتنا هذه المرة قبل استئناف المسير في دروب هذه الأسمار مبتدأها ومنتهاها في أمريكا وفي غيرها.
أما وقد استغرقنا هذا الاستطراد فقد تبقي القليل مما تسمح به مقالة في صحيفة سيارة فسنوجز ما وسعتنا الحيلة ايجازا لا يخل بما نهدف إليه. وأبدأ بما كتبه الدكتور طه حسين عن أبي العلاء في الكتاب المشار إليه آنفاً وله كتاب آخر عنه هو "صوت أبي العلاء". وهو كتاب كما أشرنا خصص للدفاع عن أبي العلاء الذي اتهم بالزندقة والإلحاد قديما وحديثا. وهو كتاب دفاع وتبرئة لساحة الرجل ككتاب بنت الشاطىء الذي دافعت فيه عن أبي العلاء والملوحي في كتابه "دفاع عن أبي العلاء". وعندي أن دفاع طه حسين المستميت عن أبي العلاء بالإضافة إلي أعجابه الشديد بشعر الرجل وبعمق معرفته باللغة العربية، إنما هو دفاع عن طه حسين نفسه والذي ثار حوله الجدل مثل صاحبه ولحقت به تهم التجديف والزندقة والالحاد بعد كتابه في "الشعر الجاهلي" المنشور عام 1926 ونلاحظ أن كتاب طه حسين " مع أبي العلاء في سجنه" موضوع هذا الحديث قد نشر بعد أكثر من عقد كامل بعد كتابه في الشعر الجاهلي في عام 1939 فكأن الرجل يرد عن نفسه تهم الهرطقة والتجديف في سياق دفاعه عن إيمان أبي العلاء. وأغلب الظن أن سبب ما يراه البعض من زلة وقع فيها طه حسين بتأليف كتاب في الشعر الجاهلي هي أن الشيخ الأزهري كان مفتونا بالثقافة الفرنسية لأول العهد به في باريس إلي الحد الذي جعله يتعجل تطبيق شك ديكارت (الكوجيتو) علي الشعر العربي قبل أن ترسخ قدمه في فلسفة ديكارت. وتتابعت بعده كتابات الرجل في التاريخ الإسلامي كأنها كان تكفيراً عن ما جاء في كتاب الشعر الجاهلي. وكان قد فصل من الجامعة لآرائه التي عدت ضربا من الكفر. ومثلما تصدي هو للدفاع عن أبي العلاء فقد تصدي علي شلش للدفاع عنه في كتاب مهم هو "طه حسين مطلوب حيا وميتاً". المحير حقا أن أبا العلاء من أشد المعجبين بأبي الطيب المتنبىء بينما كان طه حسين من أكبر مبغضيه. واعترف أن الدكتور قد رافع عن أبي العلاء مرافعة رائعة تفضي بالمنصف إلي أن يمنح أبا العلاء صك البراءة من الكفر رغم أبيات له من الشعر وأسطر في النثر مفعمة بالشكوك هي من أحاديث النفس ، لحظات التردي والضعف البشري تهجم فجاءة فلا يسطرها الحصيف في قرطاس بل يسارع المؤمن للاستغفار. عاش أبو العلاء في زمان ومكان كثرت فيه الفتن و تعددت فيه النحل خاصة في تلك البقعة( المعرة) من بلاد الشام، فقد انتشرت هناك مذاهب الإسماعيلية والدرزية و العلوية مع غارات الروم المتكررة علي المنطقة مع ما تحمل من رؤي وأفكار ثقافة أخري. وعند المضاهاة بين ما قال في الإيمان واليقين وما قاله متشككاً في البعث والنشور والنبوة ، في نظمه ونثره ، نجد كفة إيمانه أرجح وأكثر جلاء وهو في ذلك مثل طه حسين الذي قال عنه الأستاذ اسحق في تعليقه علي المقالة الأولي من هذه السلسلة أنه لم يكن يقرأ في أخريات أيامه سوي القرآن الكريم . تأمل أبيات ابي العلاء التاليات:
ففض زكاة مالك غير آب
فكل جموع مالك ينفضضنه
و أعجز أهل هذي الأرض غاو
أبان العجز من خمس فرضنه
وصم رمضان مختارا مطيعا
إذ الأقدام من قيظ رمضنه
وقوله:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه
فيخرج من أرض له وسماء
ولما تشفع لقومه لدي أسد الدولة الأمير صالح فصرفه عن غزوه لديارهم ، تواضع لله فرد فضل ذلك إليه لا إلي نفسه قائلا:
نجا المعاشر من براثن صالح
رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألبسهم جناح تفضل
والكتاب مشوق جدا وعندي أنه مرآة صادقة لرؤي ومعتقدات الدكتور طه حسين نفسه، رحمه الله.
أما كتاب ساشي ترور عن نهرو فكتاب مليء بالعظات والعبر في بناء الدول ودالة علي نجاح في العصر الحديث لقيام الدولة وتحررها من الاستعمار باستلهام قيمها الروحية لا بالقطيعة معها كما هو الشأن في عقيدة الحداثة التي لا تري في تأسيس الدولة العصرية من سبيل إلا بهدم الموروث في مجمله. فنهرو هو تلميذ المهاتما غاندي. والمهاتما لقب أطلقه عليه شاعر الهند العظيم طاغور وهو لقب ذو مغزي يعني الروح العظيمة أو روح الأمة. فغاندي الهندوسي كان متصوفا بحق زاهدا لكنه قاد الكفاح اللا عنيف فحرر الهند من بريطانيا. أما جواهر لال نهرو، وجواهر لال وتعني "الجوهرة العظيمة"(واضح الأثر العربي علي الهندية أو قل الأثر المتبادل بين اللغتين والثقافتين)، كان علي النقيض غربي النزعة والسلوك شديد الإيمان بالحداثة علي الفهم الغربي لكنه اتخذ غاندي أباً روحياً فنزل من علياء الأرستقراطية التي ترعرع في سوحها إلي بسطاء الناس وخالطت وجدانه روحانيات غاندي فأقام ديمقراطية فاعلة تحمل سمات وروح ومزاج الهند والشرق. كان غاندي قديساً بحق تقرأ ذلك في سيرته الذاتية التي كتبها بيده ، متسامحاً ألهم مارتن لوثر كنجق جونير معني وطرق الثورة التي تدفعها الروح والإيمان فقد كان غاندي حريصاً علي وحدة الهند ولاستيعاب المسلمين في صفوف حزب المؤتمر. وقف بصلابة مطالبا بالإبقاء علي الخلافة العثمانية في تركيا عشرينيات القرن العشرين مساندة للمسلمين الهنود الذين اعتبروا السعي لإلغائها مؤامرة استعمارية ولما قام الهندوس بمجازر ضد المسلمين عند الاستقلال صام المهاتما احتجاجا ولزم بيته في كلكتا وأعلن أنه ذاهب لباكستان فاغتاله هندوسي متعصب. ولما اشتدت الوطأة علي المسلمين بعد وفاة غاندي تولي نهرو شخصيا حمايتهم. ويقول ترور إن بقاء المسلمين في الهند بعد قيام باكستان سببه نهرو. لكن كتاب وزير الخارجية الأسبق،" جوزوات سينك، الذي عنوانه: "محمد علي جناح" والذي استعرضناه نحو عام 2010 عند صدوره، يؤكد أن تعصب نهرو للدولة المركزية علي النمط الأوروبي، آنئذ هو الذي دفع المسلمين إلي الإنفصال خوفا من أن تعزلهم تماما الأغلبية الميكانيكية للهندوس من المشاركة في الحكم. وفي مقالة نشرتها الفاينانشيل تايمز يوم الجمعة 9 مارس الحالي 2018 تحدثت عن سعي رذيس وزراء الهند اليميني الحالي، ناريندرا مودي، لتكريس قوة حزب(باهاراتا) الحاكم الانتخابية إشارة إلي أنه ومنذ وصوله للسلطة غدا الحزب الحاكم يسيطر علي حكومات 21 ولاية من أصل 29
ويعبر شاسي ترور عن مخاوفه في كتابه هذا الذي سبق وصول اليمين إلي الحكم بسنوات عدة، علي تراث نهرو العلماني بالزوال بالقول:" ولا يمكن أن تكون هناك إشارة أقوي لنهاية السياسة النهروية، من أن بعد مرور خمس وخمسين سنة علي تقسيم البلاد والاستقلال، أصبح الدين مرة أخري من العوامل الرئيسة المحددة للهوية السياسية في الهند." وذلك أمر يجعل العلمانية في الهند هي مطلب المسلمين والمسيحيين وأتباع الديانة البوذية وغيرها كالبارسيين (عبدة النار الذين هاجروا من فارس قبل أكثر من ألف عام خوفاً من غلبة الهنديتفا علي حقوقهم كمواطنين.
وبعد ... ترانا استرحنا وأرحنا أم أوغلنا في التثاقل! نرجو المعذرة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.