بسم الله الرحمن الرحيم يا استاذ محمود، قد وفقت ايَّما توفيق في قراءتك للانشودة و سبر اغوارها... اعجبتني سياحتك التنويرية - علي طريقة بروفسيور عبدالله الطيب - مع زرياب و معبد و نثر التجاني... اضافة زرياب للوتر الخامس للعود اثارت انتباهي مثلما أدهشني نثر التجاني و يكاد المرء لا يصدق أنَّ من خطَّ ذلك الكلام هو فتى يافع في العشرين!! أتفق معك إجمالاً في أنَّ التجاني كان يحدث نفسه عن نفسه في القصيدة.. و كان يريد أن يسمع " الاعراب " تلك المناجاة المدوية! في تقديري لا يمكن التعاطي مع اثار التجاني الادبية بمعزل عن حالته الشخصية... فمن كان في مثل وضع التجاني لابد ان تكون حالته الشخصية و معاناته مسيطرة عليه تماما و تاخذ بتلابيبه ايما ماخذ... لنا ان نتذكر دائما ان التجاني قد كان شابا صغير السن جدا، متقد العقل جداً، في مجتمعٍ محافظٍ جدا... و هكذا سرعان ما حدث الانفجار... اتهموه بالزندقة و التجديف والكفر، فجندلوه وقذفوا به خارج اسوار المعهد الذي أحب... ثم ارسلوه للعمل الهامشي بائعاً للوقود... و مع مصيبة الفقر التي لازمته فقد داهمته ايضاً افة الدرن اللعين... ثم اجهز عليه القوم بالعزلة... فكيف بربك لفتى "طريراً" ان يواجه كل ذلك وحده و يتحمله؟ عاني التجاني من عدم فهم قومه له او تفهمهم اياه... قطعة النثر التي كتبها واوردتها انت في شرحك تبدو وكأنَّها جزء من القصيدة -من حيث الموضوع- و ايرادك لها كان نباهةً شديدة منك ولا أدري كيف لم يربط النقاد بينها وبين القصيدة من قبل!!. كتب التجاني "...نسال من سلط عليها الشمس المحرقة ان يكتب لنا منها الجلاء فلا يهزنا اليها شوق ولا يدفع بنا نحوها حنين"...وهكذا فبعد ان حلَّق طرير الشباب في البيد والغاب وغشي حِقب التاريخ مغنياً باكياً نافراً هارباً من قومه وبلادهم المحرقة فانَّه يعود اليهم... يعود الي " الاعراب" علَّهم يسمعون هذه المرة ليخبرهم انه مفارقهم و الي الأبد... فبعد ان امتنع عنه الجلا عن ارض الشمس المحرقة فانَّه يحس بانَّه مفارقاً قومه ودنياهم مرة واحدة.. و انه سيغني ويغني حتي يجف شراب الاعناب التي عصرت له و ملأ " بها دنه "علي حافة الكاس" ...ولعمري إنَّه الموت. كان الرجل الشاب يرثي نفسه... و الاعراب هنا ليسو هم العرب... اراد التجاني بالاعراب حالة ذهنية وسلوكية و ثقافية معينة... حالة الجلافة و اللؤم والقسوة والجدَب... هكذا كان الشاعر يحس أنَّ قومه قد عاملوه... عاملوه باشد القسوة، وتجاهلوه وعزلوه بلؤم، ولم يراعوا طرارته وعبقريته واحاسيسه بكل جلافة، وقد جدبت ارضهم أن تقدم له شيئاً... و حين ابى عليه الجلاء علم أنَّه سيغادر دنياهم وأنَّه يحدثهم أنَّه سيفعل ذلك بشجاعة ساخراً منهم... فيغني و يغني و يسكب من كأس الشعر حتي "يجف الشراب في حافة الكأس" فيموت شامخاً حاملاً مزماره وهو يلفظ آخر أنغامه..... انشودة الجن هي في الواقع مرثية... كان الرجل الشاب يرثي نفسه بحرقة و جمالٍ وشموخ... اعادة قراءتها ذكرتني بقصيدة/اغنية العمرابي "اندب حظي ام امالي"....