حدثان سياسيان متناقضان ومتزامنان، والتناقض والادهاش سمتان ملازمتان لمسرح السياسة في السودان. الحدث الأول بدا وكأنه عملية تدجين للحزب الشيوعي السوداني، والثاني بدا وكأنه خسارة تعدل خسارة فريق كرة قدم أحرز أهدافاً في مرماه، حيث اتخذ جهاز الأمن إجراءات جنائية ودوّن بلاغاً لدى نيابة أمن الدولة ضد رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي وهو الذي يبدو في أحيان كثيرة أقرب لحالة التماهي مع النظام. فيما يقف الحزب الشيوعي وحكومة الرئيس البشير على طرفي نقيض أيديولوجيا وسياسيا، ولو أن الحكومة استوعبت كل مكونات المعارضة السودانية في حوار سياسي سيجد المرء أن الحزب الشيوعي عصيا على ذلك بسبب ذلك التباين والعداء المستحكم. بدون مقدمات، عُقد لقاء بين قادة الحزب الشيوعي المعتقلين انضم إليهم السكرتير العام للحزب، مع رئيس جهاز الأمن والمخابرات بمباني الجهاز بالخرطوم. وعلى غير العادة سارع الحزب بالاعلان عن مخرجات اللقاء واستخدم لغة تصالحية معتدلة، وبدا الحزب العجوز وكأنه ناطق رسمي باسم جهاز الأمن في نظر بعض الساخرين الذين فاجأتهم هذه التطورات. بيان الحزب الشيوعي ذكر أن رئيس جهاز الأمن قدم لهم رؤاه الجديدة، وعزمه على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين كافة، استهلالاً لعهد جديد، تتاح فيه الفرصة للجميع للمشاركة في حل أزمة السودان. ورغم أن الحزب الشيوعي أعلن تمسكه بشعار "إسقاط النظام" باعتبارها ممارسة ديمقراطية، إلا أن الجديد الذي كسبه النظام هو إعلان الحزب أنه اختار طرح إسقاط النظام عبر الوسائل السلمية، وأنه ضد انتهاج العنف. ولم يسبق للحزب الشيوعي أن أعلن ذلك بهذه الصراحة والوضوح. إذ ظل يدعم الحركات المسلحة في دارفور، بل وكان داعما أساسيا للحركة الشعبية في جنوب السودان التي كانت تقاتل الحكومة قبل توقيع اتفاقية سلام في 2005 ومن ثم فصل الجنوب. وبُعيد ذلك اللقاء كان الرئيس البشير قد شدد في خطاب له أمام البرلمان على أن القوى السياسية المتحالفة مع الحركات المسلحة تملك خيار حمل السلاح، وهو ما سنواجهه بالحسم اللازم، أو العمل السياسي الذي يتطلب إعلاناً صريحاً وواضحاً بنبذ العنف وترك السلاح والانخراط في العملية السياسية. إن ما قام به جهاز الأمن تعدى المهام الأمنية البحتة إلى القيام بعمل سياسي، مما يعتبر اختراقا سياسياً مهماً يمكن التعويل عليه لفك الاختناقات السياسية. ومن قبل نجح رئيس جهاز الأمن الذي أعيد تعيينه في هذا الموقع قبل نحو شهرين، في إدارة حوار مع ما يفوق الثمانين حزبا تصنف معارضة، وكاد ذلك الجهد أن يؤتي أكله لو لا ما حدث فيما بعد من تحركات دراماتيكية ألقت به في السجن متهما بتدبير انقلاب عسكري. لكن ما قامت به الحكومة تجاه الصادق المهدي لا يبدو مفهوما، فالرجل لا يحبذ تغييرا شاملا يزيل نظام الحكم الأمر الذي قد يمكّن لاطراف متهورة من المعارضة المسلحة وقليلة الخبرة ولا تستوعب حساسية النسيج الأمني والقبلي والاجتماعي في السودان. ولذا يظل النظام الحالي خيارا مقبولا لدى الصادق المهدي مع ضمان مشاركته في الحكم بشكل يرضي تطلعاته مع إجراء تعديلات دستورية يراها ضرورية. والصادق المهدي ليست لديه قوات عسكرية، وربما ليست لديه قواعد شعبية بالمقارنة مع آخر انتخابات شارك فيها حزبه 1986 وحصد فيها حزبه الأغلبية، لكنه يملك تأثيرا معنويا على الصعيدين الاقليمي والدولي ومشاركته في الحكومة أو حتى معارضته من الداخل تعني قيمة مضافة لاستقرار الاوضاع السياسية في السودان في نظر الخارج. ولا يبدو أن اتهام الصادق المهدي بتشجيع العمل المسلح بسبب اجتماعه مع حركات دارفورية في اطار ما يعرف ب "نداء السودان" متماسكا إذ ظل يؤكد معارضته لاسقاط النظام بقوة السلاح. ومع ذلك يبدو أن النظام قد نجح إلى حد ما في إحكام الحصار على الداعين لاسقاطه بقوة السلاح، بيد أن تصويب السهام نحو الصادق المهدي بمثابة ترك الفيل والطعن في ظله. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ////////////////