حوار حول مشروع قانون مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية لسنة 2020 مشروع قانون مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية من أكثر مشروعات التشريعات التي أثارت جدلاً في الآونة الأخيرة، وذلك لمقاربته لأكثر الأجهزة حساسية في دولاب الدولة وهو السلطة القضائية، وللمضامين التي اشتمل عليها والتي اختلفت الرؤى حولها. وكان صوت مولانا عبد القادر محمد أحمد هو الأعلى في الدفاع عن المشروع، حيث كتب عدداً من المقالات في ذلك، بما فيها رد على مقال كنت اعترضت فيه على مشروع القانون بعنوان (إنشاء مجلس القضاء العالي هو السبيل لاصلاح السلطة القضائية وليس المفوضيات غير الآمنة). وفي هذه المداخلة أسعى للرد على الحجج التي رفعها مولانا عبد القادر سواء ما أثاره رداً على مقالي أو تأسيساً لمنطق يدعم به المفوضية المزمع إنشاؤها بموجب ذلك المشروع. أولاً: مسودة هذا التشريع ليس ببعيدة عن عدم العلمية والنهج غير المؤسسي اللتين تطبعان مجمل إدارتنا للفترة الانتقالية، فقد ظهرت بغتة وتسربت إلى وسائل التواصل الاجتماعي دون أن تتبناها جهة محددة، ثم من بعد ذلك اتضح أنها أخذت طريقها إلى ردهات وزارة العدل لتسير في خط الانتاج التشريعي. ويذكر مولانا عبد القادر في رده على السادة القضاة الذين اعترضوا على مشروع القانون بأنه أتى من جهة لا شأن لها بالسلطات العدلية، أنه من حق أي مواطن أو كيان أن يقترح من النصوص أو القوانين ما يرى أنه يحقق استقلال القضاة ويدفع به للجهات المختصة. وفي تقديري أن أس العلة في هذا الأسلوب من التفكير ليس مسألة الأحقية في إعداد مسودة التشريع، وإنما مخالفة الاجراءات المهنية الصحيحة في الصناعة التشريعية، وهي أن تسبق وضع التشريع دراسة قانونية وفنية وافية تقوم على المقارنات المعيارية مع النظم المتقدمة والتجربة المحلية السابقة، وتوضح مدى الحاجة للتشريع وقدرته على تحقيق الهدف المطلوب على نحو كاف، ومدى التعارض بينه وبين القوانين السارية، وتقيس الأثر الناجم عن إصداره وتبين المخاطر التي تترتب عليه في حالة إصداره أو عدم إصداره، ثم الاستهداء برأي الجهات ذات الصلة بالتشريع لتسديد المعايب التي يمكن أن تظهر قبل إصداره. وللتأكد من هذه الآلية العلمية لابد أن يمر التشريع عبر الوحدة المركزية للمراجعة والضبط التشريعي وهي قسم التشريع بوزارة العدل لضمان جودته قبل اعتماده. فالتشريعات لا تصنع في جلسة أنس أو لحظة سمر، أو تتنزل على عقول صائغيها إلهاماً، وإنما هي عمل علمي دؤوب لتحقيق الغايات المطلوبة من إصداره. وقد حادت الاجراءات التي اتبعت في وضع هذه المسودة عن هذا الطريق العلمي ومن ثم كانت مخرجاتها غير علمية وغير منطقية. ويظهر عدم المهنية في إعداد وثيقة هذا التشريع عند النظر إلى مسودتها الأولى التي تسربت إلى أسافير التواصل الاجتماعي في نوفمبر 2019 ومقارنتها بالنسخة المعدلة التي ظهرت في العام 2020. حيث اختلفت مضامينها اختلافاً جذرياً فاستبعدت بعض مكوناتها من خضوعها لمنظومة الاصلاح بما في ذلك كليات القانون والمحاماة، كما قيدت بعض صلاحيات المفوضية بما في ذلك اختصاصاتها بالتعيين وإعادة التعيين والاعفاء وإعادة ترتيب الاقدميات والدرجات، وأزيل القيد الذي قضى بنهائية قرارات المفوضية. وهذه التعديلات الجوهرية ليست فضيلة تحسب لصالح تطوير مسودة مشروع التشريع بقدر ما تعكس العجلة وعدم المهنية في الإعداد وعدم الاستناد لأي دراسات مسبقة. فلا يزال جوهر المعايب التي أثيرت بشأن المسودة الأولى باق في المسودة الأخيرة. ثانياً: ميز مولانا عبد القادر بين مفوضية إعادة بناء المنظومة العدلية والحقوقية من جانب ومجلس القضاء العالي من جانب آخر بحجة أن مهام المفوضية المقترحة هي إعادة بناء القضاء وتطويره ضمن المنظومة العدلية وهذا أمر ليس له علاقة بإدارة القضاء. إلا أن هذا القول يحتاج إلى مراجعة، فبالنظر إلى المهام التي حددت للمفوضية المقترحة في مسودة التشريع فيمكن أن يمارسها مجلس القضاء العالي بما في ذلك وضع التصورات التي تهدف إلى تطوير السلطة القضائية وإعداد الدراسات التي تعين على هذا التطوير، ومراجعة تعيينات القضاة والتوصية بعزلهم وتعيينهم، وابتدار التشريعات التي تنظم العمل العدلي وعلاقات الأجهزة العدلية المختلفة. وأقترح للذين يرون أن ما يمكن أن تقوم به المفوضية خلاف ما يمكن أن يقوم به مجلس القضاء العالي، إجراء دراسة مبسطة على نظم مجالس القضاء العليا في دول الاتحاد الأوربي على سبيل المثال باعتبارها أكثر تقديساً لمفهوم استقلال القضاء وتطويره، للتحقق من مدى اتساع نماذج هذه المجالس في إدارتها لشأن السلطات القضائية ودورها في تحديث هياكلها القضائية رغم اتفاقها جميعاً على مبدأ استقلال السلطة القضائية. وقد أجرى الاتحاد الأوربي نفسه دراسة بعنوان يمكن ترجمته (تحليل مقارن على المجالس العليا للسلطات القضائية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي والحصانات القضائية) وتوصلت إلى عدم وجود نسق واحد من الصلاحيات وإنما تباين جوهري في صلاحيات التطوير وتجديد البناء القضائي بين دول الاتحاد. فالدرسات المقارنة تؤكد أن المهام التي منحت للمفوضية المقترحة يمكن أن تندرج ضمن مهام الجسم الإداري الذي يقوم على إدارة وإعادة بناء القضاء ويحفظ استقلاله وهو مجلس القضاء العالي وليس جسماً غريباً عنه. وربما مد لمولانا عبد القادر في فهمه ما ذكره في مقاله (يتكون مجلس القضاء من عناصر قضائية بحتة وليس من عناصر قضائية وغير قضائية) وهذا قول حالم يجافي مقتضيات وضرورات الواقع العملي. فلا خلاف في مركزية استقلال السلطة القضائية وأن مجلس القضاء العالي هو الضامن لهذه الاستقلالية، إلا أن مفهوم استقلال القضاء لا يعني النظر إلى السلطة القضائية باعتبارها جزيرة معزولة في محيط الدولة العام، وإنما الموازنة على نحو دقيق بين هذه الاستقلالية وضرورة وجود عناصر من غير القضاة لتيسير أداء عملها وتنسيق علاقاتها مع أجهزة الدولة الأخرى. فوجود العنصر الغالب من القضاة أمر حتمي، ولكن وجود عناصر من خارج القضائية ليس على أساس سياسي وإنما تنسيقي أيضاً أمر ضروري. وبالنظر لنسبة القضاة في مجالس القضاة في أوربا تتأكد هذه الحقيقة (بلغاريا 14 من 25) (كرواتيا 7 من 11) (بولاندا 15 من 25) (اسبانيا 12 من 21) (بلجيكا 22 من 44) (الدنمارك 5 من 11) و (البرتغال 8 من 17). وفي تقديري أن تطوير التجربة السودانية باضافة وزير العدل والنائب العام ونقيب المحامين وعميد كلية القانون ووزير المالية لمجلس القضاء العالي أمر ضروري لتحقيق التنسيق المطلوب، مع الاحتفاظ للقضاة بالعدد الأكبر من مقاعد المجلس لتحقيق هذا التوازن. ثالثاً: يرى مولانا عبد القادر أن مسودة تشريع المفوضية المقترحة يقوم على البند (1) من المادة 39 من الوثيقة الدستورية الذي نص على إنشاء مفوضيات مستقلة. والنقص الذي يكتنف هذه الرؤية هو تفسيرها لنصوص الوثيقة الدستورية بنهج انتقائي، يأخذ من بنود المادة 39 المذكورة ما يتفق مع الغرض الذي يبتغي تحقيقه ويغض الطرف عن بقية البنود. والنصوص الدستورية لا تفسر باستقلال عن بعضها وكأنها وحدات لا رابط بينها، على طريقة الشاعر أبو نواس وهو يسعى لقلب مسلمات التعاليم الدينية في وجوب الصلاة وتحريم الخمر، حين قال (ما قال ربك ويل للألى سكروا * ولكن قال ويل للمصلينا). صحيح أن البند (1) من المادة 39 من الوثيقة الدستورية نص على إنشاء مفوضيات مستقلة يرشح لها من الخبراء شخصيات مشهود لهم بالكفاءة وتحدد اختصاصاتها وفق القوانين التي تنشؤها. إلا أن المادة 39 لم تقف عند هذا الحد وإنما أوضحت في البند (2) الشروط الواجب توفرها في المرشحين لعضوية هذه المفوضيات، ثم حددت في البند (3) من بين هذه المفوضيات ما يشترك مجلس السيادة ومجلس الوزراء في تعيين رئيسها وأعضائها، وما ينفرد مجلس الوزراء بتعيين رئيسها وأعضائها. ومن غير المقبول عقلاً أو تفسيراً فرز أحد هذه البنود الثلاثة وقراءته كوحدة مستقلة بمعزل عن بقية النصوص الأخرى. وإنما تقرأ كافة البنود سوياً كنسيج يكامل بعضه بعضاً. ويؤدي هذا الفهم إلى النتيجة الصحيحة وهي أن المفوضيات المستقلة التي عنتها الوثيقة الدستورية هي التي ذكرتها في البند 3 من نفس المادة، وليس من بينها مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية. فالقول إنه تم النص عليها في البند (1) قول يفتقر إلى الدقة في قراءة نص المادة (39) من الوثيقة الدستورية قراءة كلية. ويظهر عدم جدوى المنطق الذي اتبعه مولانا عبد القادر إذا طبق على بقية بنود المادة 39 نفسها التي استند عليها. فالبند الثاني إذا قرأناه على استقلال فإنه يحدد شروط المرشحين لعضوية المفوضيات دون أن يذكرها بالاسم. وهذا النص وحده ليس له أي معنى مفيد لأنه يتطلب النظر إليه مقروناً مع البند (1) لمعرفة معناه ويتطلب ربطه كذلك مع البند 3 أيضا لتحديد المفوضيات التي عناها صائغ الوثيقة. وعلى نفس النسق فإن البند (1) الذي أسس لإنشاء المفوضيات المستقلة فإنه يقرأ مع بقية البنود التي فرعت هذه المفوضيات وحددت أحكامها . فالبند (1) من المادة 39 بهذا المعنى ليس مادة مستقلة، وإنما مطلع لمادة لها أحكام أخرى توضحها وتحدد المفوضيات التي يتم إنشاؤها. هذه الرؤية الاستبعاضية في النظر لنصوص المادة 39 هي أيضاً ما ورطت مولانا عبد القادر في الاقتصار على فهم الغرض من ذكر المفوضيات في الوثيقة الدستورية على (تحديد مستويات الانشاء). صحيح أن تحديد مستويات الإنشاء هو أحد أغراض ذكرها، ولكنها لا تقف عند هذا الحد وحده وإنما تشمل أيضاً (حصر) المفوضيات التي يجتمع المجلسان على تعيين أعضائها، وما ينفرد به مجلس الوزراء. وليس أدل على هذه الحدود والحصرية في إنشاء المفوضيات مما ورد في ختام المادة 39 المذكورة التي سمحت لمجلس الوزارء بإنشاء مفوضيات في حدود ضيقة قيدتها بقيد الضرورة. فإذا صح ما قال به مولانا عبد القادر من أنه يجوز إنشاء مفوضيات دون قيد استناداً للبند (1)، فلماذا قيدت سلطة مجلس الوزراء في إنشاء المفوضيات بحدود الضرورة؟ النتيجة المنطقية لذلك أن إنشاء المفوضيات مقيد ولا سبيل للتوسع فيه، وفي حالة الرغبة في إنشاء أي مفوضية أخرى فإن ذلك لابد أن ينشأ على قاعدة الضرورة. ومما لا شك فيه أن المفوضيات المذكورة في الوثيقة الدستورية جاءت لتحقيق أهداف خاصة ضمن آليات الجهاز الحكومي، وانتزعت الصلاحيات والمهام التي أوكلت لها من صلاحيات مؤسسات الدولة القائمة، من بينها الوزارات الحكومية، وذلك لتجويد الأداء وتنفيذ مخرجاتها على أحسن الوجوه وفي أسرع وقت، وبهذا الفهم فهي وضع استثنائي في الأداء المؤسسي اقتضته ظروف خاصة، والأصل في الاستثناء تقديره بقدره وعدم التوسع فيه. وإضافة مفوضية جديدة غير منصوص عليها مثل مفوضية إعادة بناء المنظومة الحقوقية والعدلية هي توسع في الاستثناء غير مبرر في ظل إمكانية إنشاء مؤسسات الدولة المستدامة التي يمكن أن تؤدي الدور المطلوب على أحسن الوجوه. ومن الغريب في أمر هذه المفوضية والذين سعوا إلى إنشائها، هو العجلة في إصدار مسودة تشريع لها وتأسيسها رغم عدم النص عليها، وفي ذات الأوان تجاهل مفوضيات لها علاقة بالعمل القانوني ذات أهمية بالغة في تحقيق أهداف الفترة الانتقالية ونصت عليها الوثيقة الدستورية اسماً ورسماً وأوجبت إنشاءها، مثل مفوضية الإصلاح القانوني، ومفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة، ومفوضية العدالة الانتقالية. فأيهما أولى بالانجاز والتدافع على التنفيذ، هل هو ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من مفوضيات، أم مفوضية لا تستند إلى أساس واضح وتكتنفها مخاطر حقيقية تتعلق بعدم الدستورية؟ رابعاً: لا شك أن مشروع قانون المفوضية المقترحة حتى في نسخته الأخيرة خلق وضعاً لا يتناسب مع استقلال القضاء بأن جعل على رأسها رئيس القضاء وأعطاه صلاحيات تنفيذية بشأن أجهزة عدلية أخرى، ولا يخفف من غلواء هذا الوضع ما ذكره مولانا عبد القادر من أن الجوانب العملية وتوصيات العزل والتعيين تترك للجان الفرعية وأن دورالمفوضية أن ترفع عبرها هذه التوصيات. فما ذكره مولانا عبد القادر لا ينفي أن تكون التوصيات التنفيذية بما فيها العزل والتعيين في الأجهزة الأخرى خلاف القضائية هي في الحقيقة توصيات المفوضية ويمررها رئيس القضاء، وهذا هو الوضع الغريب الذي يفقد القضائية حياديتها ويخل بوضع رئيس القضاء كضامن لحقوق الأفراد من تغول الأجهزة التنفيذية. إن المخاطر العالية التي يتضمنها مشروع المفوضية المقترحة توجب السير في الطريق الآمن الذي حددته الوثيقة الدستورية بإنشاء أجهزة الدولة المستدامة ومنها مفوضية الاصلاح القانوني المعنية بالدراسة المتأنية والمتعمقة للتشريعات بما في ذلك التشريعات التي تعبد الطريق لتنظيم علاقات الأجهزة العدلية وتطوير بنيتها المؤسسية والبشرية، وإنشاء مجلس القضاء العالي والمجلس الأعلى للنيابة باعتبارهما حجر الزاوية في عملية الاصلاح القانوني للأجهزة العدلية، وعدم إهدار مزيد من الوقت في غير طائل. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.