رغم كل ما ذكرناه سابقاً من مظاهر القصور والعجز والفشل في تحقيق، ولو الحد الأدنى من أهداف الثورة ومطلوبات التغيير، مما سبق وأسلفنا في الحلقة الثانية: " بسب الوثيقة الدستورية المعابة، والشراكة غير المتوازنة، وضعف الحكومة، وتشاكس مكونات حاضنتها المدنية، وغموض نوايا الحركات المسلحة، وتدخل بعض الأصابع الخارجية في توجيه مسار الشأن السوداني الداخلي". إلا أن اليأس والإحباط والقنوط لم يساورنا لحظة، والشك في حتمية بناء سودان جديد لم يخطر لنا على بال. بل على العكس تماماً كان تفاؤلنا يزداد يقيناً بعد كل هبة شبابية وانتفاضة مطلبية تعتري جسم الثورة، تؤكد وعيه ويقظته واستعداده التام لاستئناف عملية الثورة المستمرة لمن نسي أو تناسى أو تغافل في مكونات السلطة الانتقالية بمستوياتها الثلاث وتفرعاتها – سواء في المجلسين السيادي والحكومي التنفيذي أو في الحواضن المدنية والمسلحة – عن الأهداف الاستراتيجية للثورة وشعاراتها المعلنة منذ انطلاق شرارتها. ولو أحسن قادة المرحلة الانتقالية "المؤقتة" الإصغاء لأصوات الشباب، لتبين لهم أن مسألة الضائقة المعيشية لم تكن على رأس مطالبهم رغم قسوتها، ولم تكن هي همهم الوحيد، فمبادئ العدالة والقصاص للشهداء والحرية وتحقيق السلام ظلت هي عصب احتجاجاتهم ودافع حركتهم الأول. وإذن لتعلموا من الشياب درسهم الثوري الأول: إن الشعوب التي تثور فقط من أجل "لقمة العيش" غير جديرة بالحرية والرقي والعظمة، واستبانت لهم البلاغة في قول المسيح عيسى (عليه السلام): "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". وأن الشعب السوداني الذي يدفع بأرواح بناته وأولاده لم يكن يعاني من الجوع. فالمن والسلوى كانت تتنزل على المعتصمين أمام القيادة العامة في ميدان الاعتصام، وكانت تتناثر ماء وخبزاً من أبواب البيوت التي تمر أمامها مظاهراتهم في كل الأحياء. (2) ويوم يدرك هؤلاء "المؤقتون" سقف طموحات هذا الشعب، سيرتقي شعورهم يقيناً بحجم المسؤولية والأداء المتوقع منهم، وكفوا أنفسهم مشقة هذا الصراع العبثي الصبياني على قطعة "حلاوة قطن" يحسبونها كيكة يتقاسمونها وكل منهم يمني نفسه بنصيب الأسد منها. إنهم بحاجة لمن يذكرهم كل حين، وليس حيناً بعد حين بأن: - السلطة في المرحلة الانتقالية .. مؤقتة وليست دائمة - أن اقتلاع النظام الإسلاموي ليس نهاية الطريق .. وإنما هو مجرد خطوة أولى. - أن محطة الثورة "ما قبل الأخيرة" هي تأسيس سودان جديد تتحقق فيه مبادئ الثورة: حرية سلام وعدالة ..مدنية خيار الشعب. - أن ضامن تحقيق المبادئ الكبرى ليس الأشخاص، وإنما المأسسة والمؤسسات. هذا هو سقف طموحات المرحلة الأولى .. وهذه هي محطة قطار الثورة ما قبل الأخيرة. وتنتهي المرحلة "ما قبل الأخيرة" عندما يحتل السودان – بعد بعثه وإخراجه من مكامن الوجدان السوداني إلى الخارج – موقعه المستحق كدولة عظمى، سيداً بين الدول. يؤهله لهذا الموقع موقعه الجغرافي السياسي، وكنوز موارد أرضه الثرَّة المعطاءة المتنوعة. وسماؤه كمعبر بين القارات يشدها إليه للترابط والتواصل، وفوق هذا وذاك يؤهله لذلك الموقع والدور تنوع أجناسه وثقافاته. وإنسانه النبيل البسيط المتواضع، الذي لا أجد أبلغ من كلام سيِّد الشهداء محمود محمد طه في وصفه للسودان عام 1951 بأن: " عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض، بأسباب السماء". فهل بين قادة اليوم "المؤقتين" هؤلاء من يطال مدى رؤيته هذا الأفق، ومن يرقى سقف أحلامه لذرى هذا الطموح؟. (الله أعلم!). ولكن هذا مدى رؤية هؤلاء الشباب وسقف طموحهم الذي ما بخلوا في سبيل تحقيقه بأرواحهم، وبدمهم وعرقهم ودموعهم بكل أريحية وكرم وشجاعة ونبل. (3) لقد ظل السودان طيلة تاريخه يتمتع بهذه القدرات والإمكانية لأن يلعب دوراً محورياً في العالم كدولة عظمى، وقد لعب هذا الدور مرة في عهده الكوشي عبر ممالكه النوبية ففي نبتة ومروي، وكان مسرحه ومجاله الحيوي فيها منطقة حوض وادي النيل العظيم إلى البحر الأبيض شمالاً، وتخوم الصحراء الكبرى غرب الساحل الأطلسي. ومنذ انهيارها، وتغلغل النفوذ العربي والإسلامي قامت فيه ممالك ودويلات وسلطنات لم تستطع واحدة منها أن تلملم هذا الكيان العظيم في دولة مركزية، بل كانت كياناته تتعرض للمزيد من التشرذم والتفتت والانقسام، إلى أن قيَّض لها القدر مستعمر يجتاحها ويفرض عليها الوحدة المركزية في دولة واحدة مع "المملوك" محمد علي الذي كان يحكم مصر وقتها. انتفاضة الجسد السوداني الذي يعاني من حساسية مزمنة ضد الآخر الذي يحاول فرض إرادته، استطاعت أن توحده مع ثورة المهدي ليطرد الجسم المملوكي/ المصري الغريب، إلا "الدولة" التي تأسست على منجز "الثورة" تحت حكم الخليفة عبد الله سرعان ما أدت سياساتها إلى عودة التشرذم والتفتت داخل كيان الجسد، الذي اضطرت بعض مكوناته إلى الاستغاثة بالأجنبي ليأتي مرة أخرى من شمال الوادي، ولكن بريطانيَّاً هذه المرة، وعلى ظهر نفس الحصان المصري ليفرض الوحدة المركزية على الكيان الذي أوشك على الضياع من خارطة العالم. بعد الاستقلال من الحكم الثنائي أتيحت للكيان الذي دخل إلى المسرح العالمي كأكبر دولة مساحة في أفريقيا وبتنوع هائل في موارده وأجناسه البشرية، ما جعله مع كندا وأستراليا من الدول الواعدة تنموياً بقوة، أهمل قادته السياسيين والعسكريين مهمة ترسيخ وحدته الوطنية وتنميته وراء ظهورهم وانشغلوا بالصراع على سلطة حكمه وتحقيق مطامعهم الذاتية – شخصيةً وحزبية وقبليةً وجهوية وأيديولوجية – مهدرين الفرص التي أتيحت لهم مرتين إثر ثورتين شعبيتين رائعتين، كانتا كفيلتين لتعرفهما على جوهر الشعب الذي يتصارعون لبسط سلطتهم عليه وحقيقة مطالبه وسقف طموحاته. وها نحن الآن نواجه نفس التحديات، وقادتنا لم يتعلموا بعد درساً من وقائع تاريخ الكيان السوداني وتجاربه المريرة. فأي غباء هذا بحق الإله؟!!. (4) وفي هذه "اللفة" التاريخية الضيِّقة يواجهنا السؤال مرة أخرى: هل نحن ودولتنا إلى ضياع واندثار؟. ثمة درس صغير تجده متناثر في مقرر كتب تاريخ الأمم والدول، ولكن فات على قادتنا استذكاره: إن الأمم الجديرة بالبقاء والعظمة ربما تتعثر وتمر بأقسى التجارب، ولكنها مثل طائر الفينيق (العنقاء) تنهض من تحت الرماد حيَّة حين تشرق شمس يوم جديد(1). والشعب السوداني واحد من أكثر الشعوب حيوية، وتكفي نظرة خاطفة لتاريخه المعاصر تؤكد لك بأنه الشعب الوحيد في محيطه الإقليمي غير الراضي بواقعه، والمتطلع دائماً إلى الممكن، إن لم نقل إلى المستحيل. وكما ذكرت في غير هذا المجال أن الشعب الذي نال استقلاله في عام 1956، أي منذ 64 عاماً أشعل ثلاث ثورات شعبية أطاح فيها بثلاث ديكتاتوريات عسكرية ومختلطة غير الانتفاضات الشعبية المجهضة والانقلابات العسكرية الفاشلة. وتأخذ للمقارنة أقرب دول الإقليم (مصر) تجد أنها أشعلت ثورة شعبية (مجهضة) في سنة 1919م، وأما حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 فلم تكن ثورة – وإن تسمت هكذا – وإنما كانت انقلاباً عسكرية قام به صغار الضباط. هذه الحياة السياسية المضطربة القلقة في السودان لا يمكنك أن تطلق عليها صفة الاستقرار، ولكن من الذي يطلب الاستقرار على أيه حال؟. إذا لم يحقق الشعب دولته المثال التي بها يحلم، الدولة التي ترضي طموحه، فإن استقرار حياته السياسية في هذه الحالة إنما هو موت غير مُعلن، لا يمكن أن يحسده عليها شعب يتطلع للكمال. اللهم إلا إذا كنا نحسد الأسد المستسلم في قفصه على انتظام وجباته التي يوفرها حارس حديقة الحيوان، على الأسد العصي على الأسر والاستسلام في غاباته حراً، حتى وإن عضه الجوع وعزَّ الصيد أحياناً. لأن الاستقرار الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا بتوازن العلاقة في معادلة: الخبز والحرية. وأي اختلال في هذه المعادلة يثبت ميزان إحدى الكفتين ويمحو وينفي الأخرى لا يمكن أن ينشأ عنه استقرار، لا على المستوى النفسي للفرد، أو على مستوى السلام الاجتماعي، ولا على مستوى الوحدة الوطنية للدولة. وبهذه المثابة يكون توازن العلاقة بين كفتي الخبز والحرية، تحدٍ وجودي حقيقي. نكون أو لا نكون؟. وما مصدر تفاؤلنا؟. تابع. هوامش (1) تختلف الروايات حول هذا الطائر الأسطوري الذي يبعث حيَّاً كل ألف عام من موته. وأما أول وصف لخلود طائر الفينيق phoenix فنجده في القرن الأول الميلادي لدى المؤرخ الروماني الشهير بليني الأكبر في قوله إن طائر الفينيق يعيش في شبه الجزيرة العربية 540 عاما وبعد ذلك يموت في عشه وتنبعث منه رائحة عطرة، ومن نخاع عظامه تخرج دودة صغيرة يظهر منها طائر فينيق جديد.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.