لا زلنا ننهل من معين حقيبة الفن الذي لا ينضب ولا زال بعض الكتاب في الجانب الآخر يذمون الحقيبة لأنهم يرون فيها احتفاء بالجسد المخفي والإشارات له حتى من دون ذكرها صراحة .وفي خضم فوضى الأحكام المعممة نتج ما نسمعه الآن مما لا يُفهم ولا يُستساغ. كثير ممن كتبوا عن هذا الرأي الأخير لم يتمكنوا من أن يخرجوا لنا بدراسة كتلك التي كتبها علي المك "مقدمة ديوان خليل فرح" والذي حققه ونشرته دار جامعة الخرطوم عام 1977م . أو كما كتب د. عبد الهادي الصديق "نقوش على قبر الخليل". واخترت خليل فرح لأنه النموذج الأروع من شعراء الحقيبة وملحنيها ، ولأنه امتلك الموهبة وعمل على تجويدها كما أن له يعود الفضل في إدخال الألحان المميزة على أغنيات الثلاثينيات من القرن الماضي ،ليس هذا فحسب وإنما يعود له الفضل أيضاً مع ابراهيم العبادي وصالح عبد السيد أبوصلاح ، حيث عمل ثلاثتهم في ذلك الزمان على ثورة في عملية تهذيب الأغاني السودانية . لخليل فرح كثير من الأغنيات أشهرها فلق الصباح ، عازة في هواك ، الشرف الباذخ ولكن تظل "في الضواحي وطرف المداين" من أجمل ما كتب ولحن حيث سكب فيها عصارة حبه للطبيعة . عند سماعك للأغنية بصوت وأداء عثمان الشفيع ، مصطفى سيد أحمد ، منال بدر الدين ونانسي عجاج ،لن تحس أن أياً منهم شذَّ عن قاعدة خليل الأولى والتي احتفظ فيها للأغنية بما جاد على قريحته من كثافة الشعر وحركة الفن الدرامي وسرعة إيقاعه . ففي الأغنية كلمات ولحن حاول خليل فرح أن يصنع منهما برزخاً للمعاني لتتقاطع حائلة دون تمكين الضعف والإسفاف الذي اعترى أغاني ذاك الزمان ثم حولها إلى قوة وصفية نالت منها الطبيعة القسط الأعظم وكان الوطن ممثلاً في كل تفاصيل أغنياته وحروفها وألحانها . المستمع إلى أغاني الحقيبة يستطيع أن يدرك تميزها بالطابع الدرامي الذي طبعها بشكل واضح ، فمعظم تلك الأغنيات تتميز بوجود عناصر رمزية معادلة للعناصر الحقيقية في العملية الفنية الغنائية. ولهذه العملية التحولية مدارس ومفكرين يتناولونها بشكل أكثر إجادة . أما عن البيئة التي ساهمت في صقل موهبة الخليل المولود بجزيرة صاي بجهة عبري مديرية حلفا عام 1892م، فإنه عند بزوغ نجمه كانت الصراعات الفكرية والثقافية والاجتماعية في بذرة تناميها ، فكان أول ما قام بتطويره هو لغة الشعر الغنائي حيث عمل على إدخال بعض تجارب اللغة الفصحى وهي على ندرة استخدامها بسبب انحصارها في فئة المتعلمين والمثقفين إلا أنه استطاع في فترة وجيزة أن يسمو بالغناء السوداني ، ولم يكتف بذلك بل أدخل رمزية أخرى وظفها في مناجاته للحبيبة وقصده من وراء ذلك الوطن . لست مع تعييب أداء الاغنيات الخالدة بأصوات المغنين المحدثين ولكن أن تكون ضمن شروط المحافظة على قواعد الأغنية لغة ولحناً . ففي ظل طغيان الموجة الهجينية في عالم الغناء انقسم المستمعون السودانيون إلى تيارين . تيار قديم محافظ ينادي بألا تُمس الأغنية بأي شكل من الأشكال حتى لو توفرت للمغني الحديث كل شروط الأداء ، وتيار آخر لا يؤيد القديم ويتبع الغناء الحديث ويرى ألا ضرورة للعودة إلى أغنيات ارتبطت بزمانها . وبين هذين التيارين أصوات أظن أني من مؤيديها، وهي تلك التي تنتقي من القديم ما ظل خالداً ويمكن تأديتها بالتوزيع الموسيقي الحديث إذا توفرت الموهبة ، فلا تصمد أذني الموسيقية عند سماع " في الضواحي" عندما تؤديها نانسي عجاج ، أو "غصن الرياض" عندما يؤديها محمود عبد العزيز . ولكن يظل الخليل هو ما حدثنا عنه علي المك في كلمات أكثر بلاغة حين قال:"خلود خليل فرح من خلود وطنه ، هذا أمر محتوم ، لكون خليل يذكر حين يذكر الوطن ". عن صحيفة "الأحداث" moaney [[email protected]]