تمت المصادقة على اتفاقيات سلام جوبا وإدراجها ضمن الوثيقة الدستورية بموجب قرار صادر عن مجلسي السيادة والوزراء، رغم الأصوات القانونية العديدة التي ارتفعت بضرورة أن يتم الإدراج من خلال المجلس التشريعي الذي يتعين تشكيله، باعتباره صاحب الحق الأصيل في تعديل الوثيقة الدستورية والمواءمة بينها وبين اتفاقيات السلام، وذلك تفادياً لانتهاك جديد للوثيقة الدستورية. ولم يتم حتى كتابة هذا المقال نشر القرار الصادر بالموافقة على إدراج اتفاقيات السلام ضمن الوثيقة الدستورية لمعرفة مدى التعديل الذي أدخل عليها. وكان يتعين أن تتم المسارعة بتوضيحه للرأي العام وبيان التعديلات التي تمت من خلال نشر قرار تعديل الوثيقة واتفاقيات السلام المبرمة حسب الأطر الرسمية للنشر، فالتعديلات على الوثيقة والقواعد التي تضمنتها اتفاقيات سلام جوبا ليست مسألة صفوية، وإنما هي هم عام يتعلق بجمهور الشعب السوداني ويتعين إشراكه فيه. منذ أن تم التوقيع على الوثيقة الدستورية في نسختها الأولى في أغسطس 2019 برزت عديد من الأصوات من بين القوى السياسية المختلفة والأكاديميين والقانونيين صوبت سهام نقدها عليها، ودعت إلى إصلاحها بما يتوافق مع مقتضيات الفترة الانتقالية. وقد أشارت هذه الأصوات إلى أوجه ضعف محددة في الوثيقة الدستورية، وكان أوضحها وأكثرها إلحاحاً في الأيام الأولى من توقيع النسخة الأولى من الوثيقة، هو إخفاقها في توضيح آلية تعيين رئيس القضاء والنائب العام بصورة عاجلة تناسب الحاجة التي تطلبتها ظروف الأيام الباكرة من عمر الفترة الانتقالية، وهو ما تم حسمه بنشر وثيقة معدلة، دون مراعاة لمقتضيات التعديل الدستوري المطلوب، ومن ثم نشر الوثيقة المعدلة. مع مرور الفترة الانتقالية برزت من خلال الممارسة العملية حجج عديدة لإصلاح الوثيقة الدستورية ومعالجتها بما يخدم المدة المتبقية من عمر الفترة الانتقالية. وعلى سبيل المثال فقد نصت الوثيقة على أحقية مجلس السيادة في تعيين رئيس القضاء والنائب العام إلى حين تشكيل مجلس القضاء العالي ومجلس النيابة الأعلى، إلا أنه لا يوجد نص واضح يمنح مجلس السيادة الحق في إقالتهما رغم ارتفاع أصابع عديدة طالبت بمثل هذا الأجراء. وتم التوافق على ضرورة وجود جهاز للأمن الداخلي يوازي جهاز المخابرات العامة المنصوص عليه في المادة (37) من الوثيقة، ولكن لا يوجد نص دستوري يدعم هذا الاتجاه ويحدد طبيعة علاقة جهاز الأمن الداخلي والجهاز التنفيذي من جانب والمجلس السيادي من جانب آخر. كما ثار جدل قوي حول عدد أعضاء مجلس السيادة وضرورة أن يكون مجلساً رشيقاً قادراً على التصدي لمخاطر المرحلة وواجباتها. ومثل هذه الاصلاحات على الوثيقة الدستورية وغيرها مما هو ضروري لتصحيح مسار الفترة الانتقالية، تتطلب نقاشاً موسعاً بين القوى السياسية، وتوافقاً عليها قبل أن يتم تضمينها في الوثيقة الدستورية، ولا تتم بإجراء أحادي من قبل مجلسي السيادة والوزراء، خاصة بالنظر إلى وقائع أساسية من بينها: 1- شهد الملعب السياسي دخول لاعبين جدد بعد التوقيع على اتفاقيات السلام، هم القوى الموقعة على اتفاق سلام جوبا، ولا يجوز غض النظر عن رؤيتهم في مراجعة الوثيقة الدستورية، أو عدم منح اعتبار لآرائهم في المضامين الجديدة للوثيقة الدستورية، 2- تم الاتفاق على تمديد الفترة الانتقالية المحددة بموجب الوثيقة الدستورية، بزيادتها عاماً آخر حسب الاتفاق الموقع مع قوى السلام. ومن ثم فقد أصبحت الفترة الانتقالية دورة حكم كاملة مقدارها أربع سنوات، مما يتطلب وجود أساس دستوري يدعم طول هذه الفترة، متوافق عليه بين القوى السياسية الفاعلة. 3- لا يملك مجلسا السيادة والوزراء حق تعديل الوثيقة الدستورية، فقد أوضحت الوثيقة الدستورية بلسان ناطق في المادة (78) أن صلاحية تعديل الوثيقة الدستورية منوطة فقط بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي، وليست أي جهة أخرى. ومن غير الممكن الاعتماد على نص المادة (25) من الوثيقة التي تعطي مجلسي السيادة والوزراء صلاحيات المجلس التشريعي في حالة غيابه، لأن ممارسة المجلسين مقيدة بالصلاحيات التشريعية ولا تمتد للمساس بهيكل البناء الدستوري للفترة الانتقالية. تم تداول نسخة غير رسمية تمثل مشروعاً لتعديل الوثيقة الدستورية لتضمين اتفاق جوبا لسلام السودان في الوثيقة الدستورية واعتباره جزءاً لا يتجزأ منها، إلا أن هذه النسخة اشتملت على تعديلات أخرى لا تتعلق باتفاق السلام ، وإنما تضمنت تغييرات على جوهر الوثيقة الدستورية. وإذا صح أن مجلسي السيادة والوزراء قد أجازا هذه النسخة فإنهما بذلك يكونا على تعديا على الحق الأصيل للمجلس التشريعي والقوى السياسية في إصلاح الوثيقة الدستورية وتعديلها بما يتماشى والتوافق السياسي المطلوب. تضمنت النسخة المتداولة عدداً من التعديلات على الوثيقة الدستورية إلا أن أخطرها هو تعديل كيفية تعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، حيث أن التعديل جعل التعيين من مهام مجلس السيادة إلى حين تشكيل مجلس القضاء العالي بدلاً عن النص الأصلي الوارد في الوثيقة وهو أن يتم التعيين من قبل مجلس القضاء العالي. ورغم أن تعيين مجلس القضاء العالي التزام دستوري كان يتعين القيام به منذ بداية الفترة الانتقالية تفادياً لأي إشكالات تتعلق بفراغ قضائي إلا أنه رغم مرور ما يربو على خمسة عشر شهراً منذ التوقيع على الوثيقة وبداية الفترة الفترة الانتقالية فلا يزال هذا الجسم المؤسسي بكل أهميته يشكل غياباً غير مبرر. ويمثل العجز عن تشكيل مجلس القضاء العالي مخالفة دستورية، ووضعاً غريباً ما كان يجب الوقوع في فخه، وتسعى التعديلات الجديدة إلى تكريس الوضع الشائه بتغييب مجلس القضاء العالي، وتحويل صلاحياته في تشكيل المحكمة الدستورية إلى مجلسي السيادة والوزراء. وتبدو خطورة هذا التعديل بشأن تشكيل المحكمة الدستورية في أن المحكمة الدستورية هي المنوط بها النظر في تصرفات مجلسي السيادة والوزراء وتقرير مدى مخالفتها لأحكام الدستور، فلها حق تقرير عدم دستورية القوانين التي تصدر عنهما، بما ذلك التشريعات التي قاما بإصدارها بحكم الواقع بعد انقضاء فترة التسعين يوماً التي حددتها الوثيقة الدستورية لتشكيل المجلس التشريعي صاحب الاختصاص الأصيل في إصدار التشريعات. ومن ثم فإن تعيين رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية من قبل المجلسين يفقدها الاستقلالية المطلوبة لممارسة صلاحياتها في إصدار أحكامها، ويجعلها رهينة لهما ومن ثم يصم كل أحكامها بالانحياز. على وزارة العدل المسارعة في نشر التعديلات التي جرت على الوثيقة الدستورية، وتوضيح أوجه التغييرات التي تمت عليها وفق آليات النشر الرسمية، لتنوير الرأي العام بما تم عوضاً عن إبقاء الوضع في غرفة مظلمة تثير كثيراً من الشكوك والأسئلة الحائرة. د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.