تزوير الانتخابات في دول العالم الثالث أمر معتاد فللحكام أو الأحزاب الحاكمة في هذه الدول مبررات ودوافع عديدة لتزوير الانتخابات حتى تستمر في السلطة خاصة تلك الأنظمة ذات الخلفيات الشمولية أو الدكتاتورية أو الاستبدادية وما أكثرها في هذا المحيط ولسنا هنا بصدد رصد هذه الدواعي والأسباب ولكننا بصد رصد الأسباب التي سهلت على المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم في السودان) الفوز بالانتخابات دون الحاجة لتزويرها وهو ما يعتبر استثناءا في دول العالم الثالث. ومنها: 1/ ضعف الانتماء الحزبي والتنظيمي. تعمق الانتماءات الحزبية شعورا بالكره والعداء تجاه الحكومات ، فالحكومات قد تضايق المواطن العادي ولكنها أكثر تضييقا للعناصر المنتمية للتنظيمات السياسية هناك فصل من الخدمة واعتقالات واغتيالات ومحاكمات تطال النشطاء السياسيين وأكثرهم أعضاء في احزاب وهناك أعمال عدائية ضد الحكومات من مؤامرات ، اغتيالات ، محاولات انقلابية ، عمالة ، تدمير ، إشعال حروب ، اختطاف طائرات ..الخ يقوم بها هؤلاء النشطاء ، الذين في السلطة قالوا (من تحزّب فقد خان) ويمكن لأعضاء الأحزاب ان يردوا بقول (من تسلط فقد خان أيضا) جاءت الانتخابات السودانية في وقت ضعفت فيه الانتماءات الحزبية ووصلت إلى أدنى مستوياتها ، هناك من التحق بالحكومة ، وهناك من اعلن انضمامه صراحة للحزب الحاكم ، وهناك من احتفظ بوطنيته ولكنه ظل داعما موقف الحكومة كلما احتاجت لدعمه ، ولقد صوّت كثيرون من هؤلاء الحزبيون المتقاعدون لصالح الحكومة ومؤتمرها الوطني رغم وجود أحزابهم القديمة في القوائم الانتخابية. 2/ انشقاق الأحزاب السياسية. شهدت سنوات الإنقاذ العشرين أكبر عدد من الانشقاقات الحزبية هناك من يحمل المؤتمر الوطني (الحكومة) مسئولية هذه الانشقاق وهناك طرفة تقول (لو أن شخصا واحدا اقترب من الحكومة لشقته لنصفين) ولكن كل الأحزاب السودانية تحمل في طياتها عناصر الانشقاق ولم تكن محتاجة لعوامل خارجية لإحداث انشقاق داخلها وإن استفادت الحكومة (المؤتمر الوطني) من هذه الانشقاقات إذ لجأت أكثر هذه الأحزاب التي تكون عن انشقاقات للتحالف مع الحكومة لإكساب بعض الشرعية الحزبية التي يحاول نزعها منها أحزاب الأصل ولقد اسهمت هذه الأحزاب في دعم ترشيح البشير لرئاسة الجمهورية ونسقت مع المؤتمر الوطني في بعض الدوائر الانتخابية. 3/ تشرذم المعارضة وضعفها وتشتتها فهناك 81 حزب والذين شاركوا في الانتخابات 71 حزب كلها لا ترتقي لمستوى (حزب واحد كبير) يمكن أن ينافس المؤتمر الوطني فمعظم قيادات هذه الأحزاب كانوا قواعد في أحزاب أخرى ، خرجوا منها ليؤسسوا أحزاب متوسطة ثم انشقت هذه الأحزاب المتوسطة وخرجت قواعدها لتؤسس أحزاب صغيرة ، ثم تشظت هذه الأحزاب الصغيرة لتخرج قواعدها لتؤسس أحزاب أكثر صغرا وها هي الأحزاب التي لا ترى بالعين المجردة (قيادات بلا قواعد) لم تستطع ان تتوحد في حزب واحد يخوض الانتخابات ضد المؤتمر الوطني ، كانوا ينتظرون الجولة الثانية ليتوحدوا بصورة قسرية وهم أضعف من أن يحوجوا المؤتمر الوطني لجولة ثانية. 4/ تحالف التيارات الإسلامية والتي كانت في عداء مع الحكومة قبل احداث الحادي عشر من سبتمبر ولكنها اضطرت للتحالف معها خوفا من وقوعها تحت طائلة قوانين الإرهاب الأمر الذي يعرضها للحل والملاحقة القضائية مثلما حدث لتنظيم القاعدة في السودان ، ولقد حققت هذه التيارات مكاسب كبيرة إذ ابتعد عنها شبح الملاحقة وفتحت أمامها قواعدها مؤسسات العمل في جميع مستوياته وحققت الحكومة مكاسبها أيضا من خلال دعمها من قبل هذا التيار الذي يملك قواعد عريضة ومنتشرة في جميع أنحاء السودان إضافة لإمكانات إعلامية متنوعة ووسائل دعائية متطورة ، ولقد بلغ ولاء هذه التيارات للحكومة مبلغا بعيدا افتت بحرمة التصويت للمعارضة رغم أن هذه التيارات كانت لديها ملاحظات سالبة وتحفظات ذات طبيعة شرعية على الانقاذ في أوج التزامها بمشروعها الحضاري. 5/ ابعاد الدكتور الترابي عن السلطة وتحميله جزءا كبيرا من سوءات الإنقاذ وتحسن الأداء بعد إخراجه والعناصر الموالية للسلطة؛ وقد قال أحد القيادات بشرق السودان عندما سئل متى دخلت المؤتمر الوطني (عندما رفس البشير الترابي). ولا ندري كم مليون مواطن انضموا للمؤتمر الوطني أو تعاطفوا مع الحكومة بعد هذه (الرفسة) الموفقة. 6/ الاستثمار الأمثل لحوادث الاثنين الاسود وحادثة المهندسين ومغامرة خليل إبراهيم وغيرها من تحرشات الحركة الشعبية وحركات دارفور وأوصلت العرب والمسلمين لقناعة بأن وجودهم بات مرهون بموجود المؤتمر الوطني في السلطة ومتى ما زالت هذه السلطة يمكن أن يتعرض العرب والمسلمون لتصفية عرقية إبادة جماعية وعدد كبير من المتدينين والمسلميين العاديين صوتوا لصالح الحكومة خوفا من القادم الأسوأ. 7/ المؤتمر الوطني حزب قوي جدا استطاع خلال عشرين سنة أن يسيطر على مفاصل الحياة في السودان فهناك أعداد مهولة من عضويته الملتزمة في الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وجميع أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني ، حتى إذا أفضت الانتخابات لإزاحتهم عن السلطة فلن يعجزوا عن استعادتها متى ما حاول الإدارة المنتخبة الاضرار بمصالحهم سواء عن طريق الانقلاب العسكري أو الحرب أو الثورة الشعبية ولو صبروا لمدة أربعة سنوات لعادوا للسلطة بانتخابات قادمة. 8/ الديمقراطية باتت صراع مادي يكسب فيها من يجمع أكثر وينفق مالا أكثر ، ولا حزب يستطيع أن يجمع أكثر مما يستطيع المؤتمر الوطني ولا حزب يستطيع أن ينفق أكثر مما ينفق المؤتمر الوطني ، فقد سيطروا على البلاد أكثر من 20 سنة منهم من حاز على تسهيلات ربح من خلالها ملايين الدولارات ومنهم عين في وظائف قيادية عليا بمرتبات وحوافز خرافية ومنهم من مد يده صراحة لخزائن الدولة ونهب منها ما نهب تعددت طرق ثرائهم ولكنهم توحدوا على شيء واحد وهو دعم الحزب في هذه الانتخابات وخلال ساعة واحدة جمع البشير أكثر من مليار جنيه و70 سيارة لدعم حملته الانتخابية وقد كلفت حملته الانتخابية وحدها حوالي 7 مليارات جنيه وللحزب أكثر من 700 مرشحا في جميع الدوائر ومن خلال هذا العدد نستطيع أن نتعرف على حجم القوة الشرائية لهذا الحزب الثري جدا. 9/ عدم وجود إرادة للتغيير لدى الإدارة الأمريكية لو رغبت الولاياتالمتحدةالأمريكية في الاطاحة بالحكومة السودانية لفعلت من خلال الدعم المادي السخي للأحزاب المعارضة وكما أسلفنا سابقا فالمال هو سيد الموقف في الديمقراطيات المعاصرة ولكن كما يرى محللون سياسيون أن الإدارة الأمريكية تريد الاحتفاظ بحكومة قوية حتى لا يتحول السودان إلى افغانستان أو الصومال مما يعني بروز التنظيمات الإسلامية المتشددة وهو أمر يهدد مصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة أكثر مما يفعل المؤتمر الوطني والذي بات يصنف في الدوائر الغربية على أنه حزب برغماتي (عديم المبادئ) كل ما يهمه هو الاستمرار في السلطة لأطول فترة ممكنة وتستطيع الإدارة الأمريكية التعايش معه والاستفادة منه ويمكن من خلاله إقامة دولة مسيحية في الجنوب بكل سهولة ويسر. 10/ الحكومة ليست خيارا مقبولا للمواطن السوداني العادي فقد مثلت نموذجا سيئا لتضافر السلطة والمال الهادف لإيذاء الشعب وقهر الناس ، وجمعت بين سيئات لم تجتمع في حكومة في العالم إذ تعتبر الحكومة الأكثر إنهاكا للشعب ماديا والأكثر وضعا للعراقيل والعقبات في طريق المواطنين وكسب رزقهم ، ومع ذلك اضطرت جموع غفيرة من المواطنين للتصويت لصالح الرئيس البشير وكثير من مرشحي المؤتمر الوطني خوفا من حكومات أخرى قادمة قد لا تكتفي بالإرهاق المادي والابتزاز الاقتصادي، وقد عبر بعد الكتاب والصحفيين عن هذا الخوف بقولهم (حكومة تنزع مالك وتبقيك على قيد الحياة ولو لتجمع لها مزيدا من المال أفضل من حكومة تنزع مالك وتزين جبهتك برصاصة مجنونة...). Jamal Fqiry [[email protected]]