الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن أحاديث الأدب والسياسة: نسبية الحكم الأخلاقي وموضوعية النقد (2) ... بقلم: السموأل أبوسن
نشر في سودانيل يوم 10 - 06 - 2010

لن يكون من المناسب طالما تناولنا هذا الشأن، شأن الأدب وقلّته، أن نمر عليه دون أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة صارت تميز كتابات الكثير من كتابنا يمكن أن ندرجها ضمن ما يعرف في حقل النقد الأدبي ب"النقد الأخلاقي". و "النقد الأخلاقي" برغم محاولات التأصيل له ضمن إطار فني يمنحهخصائص مميزة كمنهج نقدي، إلا أنه لم يفلح في معالجة الأدب بأدوات الأدب وذلك لأنهقائم في الأساس على نفيه لشرط الحرية وتعاطيه للقيمة الأدبية من خلال منظار الأخلاقبكل ما فيه من نسبية.
يرتدي كُتّاب النقد الأخلاقي لَبوس القيِّمين على الأخلاق في قراءة النصوص. ويمارسون النقد الأخلاقي بمفهوم «الفزعة» عند بعض القبائل السودانية حين ينهض الجميع ارتجالا لأداء واجب يتطلب السرعة والإنجاز، كإنقاذ شخصمن خطر محدق أو مواجهة كارثة أو غيرها، وصار المثل السوداني يقول حين يفشل الأمر،ويصير تأثيره سلبياً "جابوه فزعة بقى وجعة".
ولا تقوم ممارسة النقد الأخلاقي على القراءة التاريخية في التحليل والإستبانة، وإنما تنتزع الأشياء من سياقهاالتاريخي والاجتماعي وتزرعها في سياقات مغايرة. بل أكثر من ذلك يتحول النقدالأخلاقي في كثير من الأحيان إلى ممارسة سلطوية تجريمية، وانتقائية لا تحكمها القواعد أكثر مما تحكمها المزاجية وموقع من يَكتُب مما أو ممن يُكتَب عنه فيموازنات القوى وتجليات السلطة المتعددة. في ظل وضعية النقد الأخلاقي هذه يصبح من الصعوبة بمكان الحديث عن شروط الحرية في الكتابة. وتصبح أمزجة الناس قوانين حاسمة،ويغرق بالتالي الموضوعي في الذاتي، والعام في الخاص، والمجرد في المغرض.
وددت بهذه المقدمة النظرية أن أتجاوز سخونة الحديث المباشر، وأن أتجاوز أيضاً فخ الدوافع الذاتية التي قد تستغرقنا، بما لا يفيد تعضيد الفكرة ولا يصيب منها القارئ معرفة. وفضلت أن أفتح أشرعة الحوار لممارسة النقد والنقد الذاتي. ولمزيد من المسئولية تجاهالكتابة وتجاه الكلمة التي نسطرها، وليس خافياً على أحد ما تقود إليه الكلمةالمكتوبة.
السياق التاريخي وأهميته في التحليل:
واحدة من أكبر إشكاليات تفكيرنا المعاصر تتمثل في غياب القراءة التاريخية للظواهر والأحداث، ولا يخفى علىالقارئ المنصف ما يؤدي إليه ذلك من ضعف التحليل وتهافت النتائج. ويغفل كثيرٌ منكتابنا، أهمية السياق التاريخي حين يوغل كثيراً في إطلاقاته وحين يحاكم بمعاييراليوم نصوصاً كُتبت في سياق مختلف تماماً عن الذي نعيشه الآن. ويغفل أيضاً عنالتراجع الكبير الذي حدث لمجتمعاتنا بما يشابه الردة الحضارية وضمور الوعي الجمعيوغلبة ثقافة التكميم و التحريم و الإقصاء على مجمل حركتنا الثقافية. حُجبت كتابات شكلت جزءاً كبيراً من عافية الوعي في حقب الخمسينات و الستينات تحت مزاعم مخالفةالدين والأعراف. وأزيحت مؤلفات هامة جداً من أرفف المكتبات بدواعي المحافظة علىالأخلاق. غابت و شُوِّهت كتب مثل، الإسلام وأصول الحكم للشيخ علي عبد الرازق، وكلمؤلفات الشهيد محمود محمد طه والشعر الجاهلي لطه حسين، وألف ليلة و ليلة وأولادحارتنا وغيرها من الكتب التي كانت في يوم غير يومنا هذا تتوسد أرصفة شوارع المدن لافي العاصمة الخرطوم وحدها بل في أقاصي الشرق والغرب وبقية مدن السودان وأنحائه البعيدة، ولو أنك سألت عن أمر كهذا اليوم لصار أمرك عجباً. وصارت إجازة إصدار الكتب الأدبية والعلمية تصدر من تحت قفاطين وعمائم رجال الدين. وتدريجياً انداحت لوثة التحريم و إفتئات غير ذوي الصفة على كل شئ حتى صار من الطبيعي أن يفتي من لا يعلم في ما لايعلم فيه، وصرنا نرى فتاوى دينية في مسائل علمية تطبيقية جداً تخص الطبوالفلك والعلوم. وانتقلت حالة التخويف من كونه سلوكا تمارسه فئة بعينها على الآخرين إلى رقيب داخلي يمسك بتلابيب الأفراد ويفسد عليهم حتى أفراحهم الصغيرة.
وقد تنبه مؤلف كتاب «المجذوب والذكريات» في كتابه لهذا الأمر بحساسية بالغة حيث ذكر:
" الحديث عن المجذوب في ظل الحالة العقلية الراهنة للمجتمع السوداني والمجتمعاتالعربية عموماً في الثمانينات والتسعينات (ولاندري إلى متى؟) صعب للغاية. فالمجذوبعاش في عصر الحريات العامة. في عصر كان الإنسان العربي ينتمي فيه إلى المجرى العام للتاريخ الإنساني. أما الآن و بعد أن وجدت قوى التخلف فرصتها لفرض أولويات القرنالسابع الميلادي على القرن العشرين، فستجد الأجيال الحالية صعوبة كبيرة في فهم المناخ الإجتماعي الذي سمح للمجذوب بأن يتغنى بالطريقة التي تغنى بها في شعره، والتمرد الذي جاهر به في حياته». علي أبوسن، المجذوب والذكريات الجزء الأول ص 14.
وهذا الإستدراك، لمن يعتبر، يؤكد أن المؤلف حين كتب عن المجذوب كان شديدالحساسية تجاه الأمر، ولكن يظل من الطبيعي جداً اختلاف الناس في صحة أو خطأ تقديره ثم قراره بنشر مذكراته بصورتها التي نشرت بها. ولا يمكن بأي حال من الأحوال قبول أنيكون خلاف كهذا غير محض خلاف موضوعي. على أية حال، في وضعية كمثل التي أشار إليهاالمؤلف، أضاع كثيرٌ من المثقفين أهم عناصر قوتهم، وهي المقدره على الوقوف على مسافةبعيدة من الظواهر والأحداث بما يمكنهم من حسن القراءة والتأمل واستقامة التخريج،وهو ما يُحتِّمه عليهم التزامهم تجاه أنفسهم وتجاه مجتمعاتهم. فالمثقف الحقيقييستفتي ضميره قبل كل شئ.
اختطاف المجذوب (صورة المجذوب بعد المذكرات وقبلها):
إن أحد أهم الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها في سياق الموضوع الذي نتناوله، هوعن مدى الإضافة التي أضافها كتاب الذكريات للباحثين والنقاد والمبدعين في تعزيزالصورة الذهنية للمجذوب كمبدع رافض وساخط عظيم. ومدى نجاحه في إلقاء الضوء على شخصية هذا الشاعر العملاق، والكيفية التي عكس بها روح المبدع القلق المتمرد الرافض. هذا شأن موضوعي ومبحث ستحفل به الأوساط الثقافية والأدبية كثيراً في سودان الغد،بعد أن يهدأ غبار النفوس الذي عتّم صفحة الحياة الأدبية والسياسية السودانية،ويلتفت الناس إلى الأهم. قدمت المذكرات المجذوب وغيره من الشخصيات العامة بما فيهاشخص الكاتب نفسه كأناس عاديين. بضجة أرواحهم وضجرها، بأحلامهم الصغيرة والكبيرة،وبسقطاتهم وتجلياتهم. المؤلف لم يوفِّر نفسه من كل ذلك بل كان جزءاً وهو يحكي عن نفسه مثلما حكى عن الآخرين. فهل ما زلنا نعتقد أن رموزنا السياسية والثقافية ومبدعينا ومفكرينا هم مجموعة قديسين أصفياء أنقياء لا سقطات لهم ولا أخطاء؟ وهل مازلنا نعيش وهم أن كون هذه الرموز و هؤلاء المبدعين سينقص من مقدار منجزهم العام،كونهم قد أصدروا تعليقات هنا أو هناك أو ألفاظاً بعينها؟ اللهم إلا إذا حُشِرنا حشراً في «كستبانة» النقد الأخلاقي واستغرقنا عرّابوه؟
بالنسبة لأي محلل منصف ستكون فصول الكتاب التي إقتربت من شخصية المجذوب ورصدت ردود أفعاله التلقائيةوالعفوية ومقدرته الكبيرة على تحليل الواقع الإجتماعي والسياسي ثم طرح محصلاته في تعليقات عابرة ذكية ساخرة وساخطة، ستكون مداخل لمقاربات جديده لشعره ومنجزه الأدبي. ولنكون أكثر دقة سنقول إن تمرد المجذوب وسخطه لم يكشفه كتاب الذكريات لمن عرفالمجذوب وقرأه، وإنما ساهم الكتاب في إجلائه من زوايا مختلفة وجديدة، وأعطى مدخلاًفريداً لقراءة المجذوب الإنسان داخل المبدع بصورة لم تكن لتتوفر من مداخل أخرى.
ستظل محاولة إدانة الكتاب من باب كونه أفشى أسرار المجذوب أو أساء إليه، في حقيقتها محاولة لإختطاف المجذوب المبدع الرافض، من فضاء الحرية التي كان شديد التوق لها، لإدخاله ضمن منظومة الفهم الإنتقائي للأخلاقي واللا أخلاقي بحسب رواد "الفزعة".
إن الضعف البين في حجة البطل والاضطراب الواضح في مقاله الأخير «بعيداً عن الأدب وقلته» الذي لم نصِب منه غير مواصلة الكاتب في إطلاق التعميمات بلا إستيثاق ولا تبصُّر، جعلنا في حيرة من أمرنا مما إذا كان البطل الذي قبل أنيفرغ من الكتابة عن الذكريات فتح مبحثاً جديداً ليتناول فيه موضوعاً آخر لعلي أبوسن، يهدف إلى تناول الموضوع، أم إلى تشويه الذات؟ ذاك باب من الكتابة المغرضة كما ذكرنا في مقالنا السابق لن يكون من السهولة إستيعاب دوافعه أو وسمها بالموضوعية. ومع ذلك يبدو الاضطراب بيناً في استشهاد البطل بحيث يصعب على القارئفهم ما إذا كان البطل يشيد ب «أبوسن أم يدينه!!
يقول البطل تعليقاً على الكتاب الآخر الذي اسمه «رسائل الترابي والحركة الإسلامية الحديثة» وليس كما أسماه البطل- مواصلاً عدم دقته- «مراسلات الترابي» (نقول ان مبادرة إبي سن بنشر تلك الرسائلالحقت بالشيخ الترابي أفدح الاضرار إذ ألقت بظلال سالبة على مصداقيته الشخصية وكفاءته الخلقية واستقامته الفكرية. وبعض هذه الرسائل تكشف عن شخصية ميكافيللية، لاسيما تلك التى يشرح فيها ويبين مُرامه من كونه اختار جماعة الاخوان المسلمين، مع ضآلة شأنها مجالاً لحركته التنظيمية وفضاءً لطموحه السياسي عقب عودته من فرنسا في النصف الاول من الستينات، خلافاً لغيره من شباب المثقفين من أنداده الذين اختاروا الانضمام الى الاحزاب الوطنية الكبرى. وقد أصاب الترابي عين الثور، كما يقولالفرنجة، وهو يسطر بعض تحليلاته واستنتاجاته ورؤاه لما عسى ان تنداح عنه عجلة الزمان ، اذ صدقته الايام وكان محقاً تماماً في غالب ما ذهب اليه، لكأنه كان - وهويكتب تلك الرسائل- يحدق بعينيه داخل كرة المستقبل البلورية. بيد ان مصدر الازعاجالوحيد هنا هو ان ما جاد به الترابي في بعض رسائله لصديق شبابه، على حدة ذكائهوبراعته، يعكس في جوهره حالةً ذهنية متمركزة حول الذات، تطغى عليها روح الأنا، وتدور في مدار التطلع الشخصي والطموح الذاتي الانتهازي المحض، فتنحسر عنه «الفكرة» ويغيب عنه «المبدأ». فتأمل!
وما عرفنا البطل يستشهد بمقالة الدبلوماسي والكاتبجمال محمد إبراهيم ليثبت صحة فرضيته أم ليثبت بطلانها حيث يقول الدبلوماسي الأستاذ،جمال محمد إبراهيم، الذي تناول كتاب «المجذوب والذكريات» وكتب بحس وفطرة سليمين، فيخاتمة مقاله وبعد عدة استشهادات من «المجذوب والذكريات»:
«فما أدعانا، إذاً لأن نجدّ حثيثاً لنجمع هذا الإرث البديع لشاعرنا الراحل المجذوب، فليس في الأمر نبشفي سيرته الشخصية، أو تقصي لاعترافات فضائحية، بل هو حرص على جميل إبداعه، والنضيرمن كتاباته التي تنزلت من فطرة قلمه، منسابة بلا تكلف ولا احتراز ولا تقية!»
ليت «الأحداث» تستجيب لمناشدة البطل بإعادة نشر مقال الدبلوماسي الأستاذ جمال محمد إبراهيم ففيه من الإمتاع ما يقينا شرور النفوس، أغراضها وأمراضها.
لا أحدكان سينكر على البطل قوله حين يقول ]وانما أردنا أن نُفصح عن عقيدتنا، وأن نسندها بالبراهين الناطقة والحجج الناهضة على أن أبا سن أخفق إخفاقا مزرياً في عرضه للثروةالمهولة التى وجدها بين يديه، من رسائل المجذوب اليه والى السيدة الانجليزية روزميري، وان معالجته لامر هذه الرسائل اتسم بالفجاجة والركاكة وضعف الحساسية، ولانقول الخبث[.
نقول ألا أحد كان سينكر على البطل الإفصاح عن عقيدته رغم فسادها البين، فهي عقيدته! أو أن يعرض ما شاء من حججه وبراهينه، رغم ضعف الاستدلال فيها،أو أن ينشر رأيه في الطريقة التي عالج بها أبوسن مذكراته ورسائل المجذوب إليه. ولاأحد كان سيعيب عليه وصف هذه الطريقة بالأوصاف التي ساقها من «ركاكة، وفجاجة، وضعف حساسية»، لو أنه ناصح نفسه، وبذل شيئاً من الجهد في إثبات مزاعمه قبل أن يتخذ «قلةالأدب» «والتخوين» عنواناً سعياً وراء الإثارة والاستعراض. ولو أنه تبصر قليلاً لجنب نفسه كثيراً من المزالق التي ستخصم من رصيده ككاتب وستضع تساؤلاً كبيراً حولمدى تحريه الدقة ومدى تحققه مما يكتب.
ولو أن البطل ورواد «فزعة» النقدالأخلاقي اطلعوا على كتابات الراحل الكبير الناقد رجاء النقاش، الذي قدم عملاقالرواية العربية، الراحل الطيب صالح للعالم العربي، و الذي ظل اسمه متوهجاً كأحدأهم منارات النقد العربي لعقود من الزمان، وقد كتب عن «المجذوب والذكريات» مجموعة حلقات متصلة في مجلة «الوطن العربي»، أجزم أنه كان ليصاب بالخجل الشديد من نفسه من البون الشاسع في التناول، ولوجد فيها درسًا مفيدا يكشف له عن اللبس التي يعاني منههو وآخرون في تعريف الأخلاقي واللا أخلاقي. وكان سيخجل من آفاق الكتابة والتناولالمتجرد والمبدع لأدب الرسائل وأدب الذكريات. وكان سيتواضع كثيراً من مثل هذا التيه الذي سدر فيه موزعاً إطلاقاته بطمأنينة يحسد عليها.
لم نكن نود أن نفسد للبطل صفاء عطلته السنوية بأن نضطره إلى استبدال مقالاته التي بذل جهداً كبيراً في «تشوينها» بكل ألوان الشتائم والتصغير لكاتب الذكريات. كما لم يكن أبداً هدفنا أن نضيق عليه في مساحات الإعجاب الواسعة التي اعتاد الاستمتاع بتقريظ قرائه له فيها. إلى جانب أن زمننا نفسه لايسمح لنا بملاحقة كل ما يكتب لولا أنه اضطرنا في هذهالمرة اضطرارا لذلك باستهانته بالكلمة والقارئ معاً ومحاولته المريبة تشويه الراحلعلي أبوسن بحزمة من المزاعم الفاسدة التي لا تصمد أمام أي مساءلة أو مراجعة.
وقد حاول البطل أن يجد نسقاً غيبياً ليبرر به خيبته وفشله في أن يدافع عن مقاله المجاني «أحاديث الأدب و قلة الأدب» ، «مصوراً ذلك بكونه إرادة الله حيث يقول «يبدوأن الله كتب في لوحه المحفوظ (هكذا) على ناقدي كل مؤلفات أبي سن، لا ذلك الكتابوحده، أن يشرعوا في النقد ثم يرتدوا على أعقابهم بعد أن يخطوا في ذلك السبيل خطوتهم الاولى.... إلخ)، رابطاً إحجامه عن المواصلة في نشر مقاله، بموقف مزعوم أشار فيه لمقالات للدكتور عبد الله حمدنا الله تناول فيها كتاب «المجذوب والذكريات»، ومقالمزعوم آخر للدكتور محمد وقيع الله كان يود الرد فيه على كتاب «رسائل الترابي،والحركة الإسلامية الحديثة»، لولا أن أثناه الترابي نفسه عن ذلك!!
وذلك باب من «الاستهبال»، غير المجدي ومحاولة مفضوحة للمزايدة في سوق الكلام المجاني سنجدأنفسنا مرة أخرى مضطرين لإثبات زيفها. فالبطل يتحدث عن مقالات مازالت موجودة في سوق «الله أكبر» الإسفيري، كتبها ونشرها في فبراير من العام 2004 د. حمدنا الله وتناولفيها كتاب «المجذوب والذكريات» أي قبل حوالي ست سنوات، وهي المقالات التي زعم البطلأن حمدنا الله أسرّ له بأنه نشر حلقتها الأولى ثم سحب الأخريات لدى علمه بأن علياًكان مريضاً.
فما نجزم به هو أن د. حمدنا الله قد نشر مقالين بصحيفة الصحافة عن الكتاب تحت عنوان «همبتة المذكرات» وقد حدد ترقيمهما من اثنين سلفا (1-2). وبالتالي، فإننا نفهم وحسب أصول النشر أن مقال د. عبد الله حمدنا الله المذكور قدنشر بالكامل، وإلا كنا سنرى نوعاً آخر من الترقيم على صدر المقال يشي عن حلقات لمتنشر! فهذا زعم باطل كغيره من مزاعم البطل لا أدري أين نجد له موقعاً من التبرير.
خلاصة القول، وأياً كانت الأسباب التي حدت بالبطل لأن يحجب بقية مقاله في الحلقتين اللتين أرسلهما كما ذكر للنشر، فإن هذا شأن يعنيه وحده ويعني أصدقاءه الذين لا يَرُد لهم طلب كما قال. ولو أن الأمر لديّ لأثنيته بشده على قراره هذاولشجعته لينشر ماحجبه، لأنني على يقين أنه ليس لديه مايقوله أكثر مما قاله. لن يخرجالبطل من الدائرة العبثية في فهمه للأخلاقي واللا أخلاقي ومن مزيد من التبذُّل فيمحاولته غير الحميدة للإساءة لكاتب الذكريات، وستكون كل مدوراته ومراوحاته للاستهلاك الذي لا يقدم ولا يؤخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.