e-mail:[email protected] و بما أن الوصف هو أداة الشاعر العربي كما أسلفنا للتعبير عما يجول بخاطره من مشاعر و شوق و إحساس نورد هنا بعض النماذج على دقة الوصف و حلاوة المعنى و طلاوة اللغة و عذوبة الحديث لدى شعراء شمال كردفان فمثلا تقول أم كلثوم بت الشريف وهي شنقيطية الأصل من أم سودانية استقرت في منطقة دار حامد: الكوكيتي بقيت نعوفه و قلبي لصق في صفوفه توب عريتنا أبغوفه أرح يا زهيرة نشوفه و الكوكيتي قرية معروفة تقع في دارحامد و "نعوفه" بمعنى أكرهه و ذلك كله شوقا و حنينا لخالها سالم الذي تصفه " بثوب عريتنا" و "أبغوفه" كناية عن زيادة الخير و الفضل لأن الغوفة" هي ما ينبت على جلد البعير من وبر فيزينه و" قلبي لصق في صفوفة " تعبير عن شدة الشوق و الحنين و هذا تصوير رائع لما به من حس معنوي لا يكتفي فقط بالوصف اللفظي بل يتعداه للحديث عن وصف المشاعر. و تقول نفس الشاعرة: ما حشاش كتافي و ما هو الدوب متلافي هاجم الجدي الغافي بسر الفيافي فهو ليس بالإنسان الذي يعتمد على الزراعة لكسب عيشه و لا هو بالذي يحاول الحصول على المال لتوه بل هو صاحب رزق من كل طريف و تالد و كثيرا ما يذهب إلى محبوبته على ظهر بعير يطوي الفيافي لسرعته " سر الفيافي". أما ميرغني ود قيناوي فيصف بعيره بهذه الأبيات الرائعة التي هي دقة في التصوير حتى لكأنك تنظر إلى صورة فوتغرافية لا أجد لها مثيلا إلا في قول أمرؤ القيس: مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من علِ يقول شاعرنا: التبري البواخر كلما جاه عليو قلت ليه واصفوه قالي سوار و مدقوق ليو رقيق من نصه و شبيه لفليو مفند خلقه سمح و حليو فالتبري اسم لجمله الذي لا يثبت الكور على ظهره كلما ارتقى مكانا عاليا لانه ليس له سنام كبير كناية عن أصالته و هو يشبه السوار الذي لا يكبر عن المعصم كما أنه شبيه في خلقته بالمهر أو الفلو و ضامر الحشا أيضا. و وجه الشبه هنا ليس في الألفاظ و لا المعاني و إنما هو في الرسم بالكلمات حتى لأنك ترى الموصوف رأي العين. و مثال آخر على رقة الوصف و حسنه نجده في قول الشاعر محمد إدريس: جدي أمات حقو الغرير من تبا زارق فصو لسع فطاط ما لبا ناعس طرفه القمر في جبينو إتخبا لادن غصنو يتكيه النسيم إن هبا و هو يصف هذه الحسناء بأنها كالجدي و هو الغزال الصغير و "أمات حقو" تعني الظباء ، كما يشبهها أيضا بالغصن الطري الذي لم يستو عوده و لم يقوى بعد و طبعا غرير و ناعس و طرف كلها كلمات فصيحة و لعل قائل هذه الأبيات من سكان المناطق الزراعية لأنه يستخدم صفات ترتبط كلها بالنبات و الزرع " الفطاط" و هو القصب قبل مرحلة النضج. و شبيه بهذا قول الشيخ جامع علي التوم في ذات الموضوع و الوصف مع اختلاف واضح في بيئة الشاعرين: فريع المحلب الفي مقامه عديَل هباله النسيم و أصبح خداره منيل وين الساهي في ضله و ضراه مقيل دانوله الجمال و أصبح فريقه مشيل و من أروع و ألطف ما سمعت تعبيرا عن الحنين قول أم ضي بت البليلة: هميت بقيت نهاتي و الدموع شقاق حراتي ما مضرابي مناتي لدار يابا و خاتي و "هميت" بمعنى اشتقت و " نهاتي" أي يصيبني الهذيان و "شقاق حراتي" أثر الحرث في الأرض و المقصود أن الدموع قد أثرت على خدها بدرجة كبيرة ، و قد بلغ بها الشوق مدى جعلها تشك في أنها ستعود مرة أخرى إلى ديار أبيها و أخواتها و " ما مضرابي" ما أحسبني و الشاعرة تستخدم كلمة " خاتي" و تعني بها أخواتي و لعل الضرورة الشعرية هي التي جعلتها تنحت هذه الكلمة ذات الاشتقاق الفصيح و الدلالة الرائعة. و قد أورد الأستاذ حسن نجيلة في كتابه " ذكرياتي في البادية قول الشاعرة الكباشية التي رحلت عن ديارها فقالت: يا دريجة وا شوقي نوولي بالسوقي بسمع حنين نوقي دايره عرب زوقي و الكلمات تتحدث عن مضمونها ولا أجدني بحاجة لأي مزيد من الشرح و التعليق. و نمضي مع حسن نجيلة في ذكرياته الحلوة و نقتبس مما جاء فيها هذه الرباعية من الجراري أيضا: فرع الدباغ الهش الشايل الشبش ديف أمات ربش برديك ريد ما غش و لعلنا نلاحظ هنا الجرس الموسيقي الحلو و الوشوشة التي يحدثها حرف " الشين"مما يعبر عن صدق المشاعر و جمال الإحساس و كل ذلك يحدث وقعا و أثرا دفينا في نفس السامع. و الدباغ هو ثمار "السنط" الذي ذكره الناصر قريب الله و هو يصف فتاة بدوية بقوله: و فتاة لقيتها ثَمً تجنى ثمر السنط في انفراد الغزال تمنح الغصن أسفلي قدميها و يداها في صدر آخر عالي فيظل النهدان في خفقان الموج و الكشح مفرط في الهزال و يقال في المثل الشعبي " التسويه كريت في القرض تلقاه في الدباغ". و إلى اللقاء في الحلقة القادمة.