عندما تتشكل الدول , حال تكوينها الأول , فإن أول موضوع يتم معالجته بشكلٍ واضح من قبل القادة المؤسسين لهذه الدولة الناشئة ككيان موحد , هو موضوع الهوية الوطنية لهذا الشعب كأمة واحدة , لأن الشعب هو ركن أساسي في أركان تعريف الدولة المكون من ثلاثة أركان وهو الشعب والأرض الذي هو إقليم الدولة وسلطة ناشئة من هذا الشعب تمارس سلطاتها على هذا الشعب في هذه الأرض . وإهمال معالجة موضوع الهوية الوطنية بشكل واضح لهذا الشعب وفقاً لمكوناته الطبيية , يؤدي الى عدم بلورة فكرة المواطنة في دواخل هذا الشعب على حدٍ سواء , بل وينتج عن ذلك هيمنة فئة معينة على مقاليد السلطة والثروة في هذا الكيان الإداري بشكل أناني وإستغلال مطلق.. الأمر الذي يولد الغبن في دواخل الفئات المهمشة , مما قد يقود ذلك الى الصراعات المسلحة , ومثل هذه الصراعات هي في حد ذاتها مطلوبة من قبل هذه الفئة المسيطرة لأنها تتيح لها الفرصة للتخلص من هذه الفئات الغير مرغوب فيها بشكل نهائي .. وتعمد عدم معالجة موضوع الهوية الوطنية حسب الواقع الموضوعي لهذا الشعب من قبل القادة المؤسسين , ليس سهواً أو إعتباطاً وإنما لأهداف لا تتعدى كونها إستعمارية صريحة أو عرقية أو طائفية , وفي كل الأحوال حتى الأسباب العرقية والطائفية في هذه الحالة تعد من اسوأ أنواع الإستعمار.. إذن إن مثل هؤلاء القادة المؤسسين لمثل هذه الدولة إما أن يكونوا قادة من دولة إستعمارية جاءت بجيوشها من خلف حدود هذه الدولة وإحتلت هذه الدولة بقوة السلاح وإستعمرت شعبها , أو أن هؤلاء القادة هم فئة عرقية أو طائفية من هذا الشعب لكنهم مرتبطون بدولة إستعمارية ينفذون لها أجندتها في شعبهم بغية صبغ هذا الشعب بصبغية عرقية أو طائفية الكائنة في دولة الإستعمار . إذن الصنف الأول من القادة والصنف الثاني كلاهم إستعماري , والصنف الأول أرحم لأنه يوحد الشعب في مناهضة الإستعمار أما الصنف الثاني فهو يطمس هوية وثقافة الشعب ويفكك النسيج الإجتماعي لهذا الشعب ويقتل روح الوحدة الوطنية . وعندما نأتي لنبحث عن السودان من خلال الحروبات الأهلية المستفحلة منذ الإستقلال حتى الآن نحد أنها دولة مستعمرة بالوكالة , فقادته سودانيين لكنهم يرفضون القبول لكونهم سودانيين تماماً مثل الملونين في جنوب أفريقيا العنصرية السابقة إذ أنهم يرون بألوانهم الفاتحة هم أفضل من الوطنيين الأفارقة وأنهم أقرب الى الجنوب أفريقي الأبيض منه الى هؤلاء الأفارقة مع أن الإنسان الأفريقي الوطني ينظر إليه كمسخ منبوذ نتج عن علاقة غير شرعية بين الرجل الإبيض العنصري ووطنية أفريقية سوداء وبهذا المنظور أيضاً ينظر إليه المستعمر الأبيض الأمر الذي يولد سلوكاً إنتقامياً في دواخل هؤلاء من الجميع .. فالسودان منذ الإستقلال تعمد قادته عدم معالجة موضوع الهوية الوطنية السودانية حسب المكونات العرقية والثقافية لهذا الشعب , بهدف طمس الهوية الثقافية للسواد الأعظم لهذا الشعب وإعادة صياغته على هوية إنتقائة جديدة , ولهذا عندما تم أستدعاء الأحزاب السودانية الى مصر لمناقشة موضوع سودنة الوظائف في السودان بعد الإستقلال مباشرة ً لم يتم إستدعاء الأحزاب الجنوبية آنذاك وتعمدت الأحزاب الشمالية ضم الأحزاب الجنوبية الى الوفد , وكانوا يدركون أن هذا التصرف سيحدث ردات فعل في الأحزاب الجنوبية لكنهم كانوا يريدون لذلك أن تحدث لأجل إفتعال حرب وإبادة الجنوبيين أو تهجيرهم الى مجاهل أفريقيا وإستعباد من بقي حياً منهم , لذلك أن جميع الأنظمة التي تعاقبت على حكم السودان أدارت تلك الحرب المفتعلة منذ إستقلال السودان حرباً عرقية في المضمون دينية في المفهوم الظاهري , وبإسم الدين الظاهر للعوام أبادت تلك الحكومات ما يفوق المليونين من الشعب السوداني الجنوبي , و لكن عندما طالب الدارفوريون بحقوقهم من إدارة وثروة وطنهم قال الرئيس عمر البشير صراحة من لم يحمل السلاح ضدنا لا حق له ولا نفاوضه , وذلك لكي يدفع أهل دارفور أيضاً الى حمل السلاح لكي يبيدهم كما فعل مع الجنوبيين من قبل لتغيير ديموغلاافية السودان ويظل الأفارقة عبيداً لسادتهم الملونين وهنا فقط إنجلت حقيقة أن الحروبات السودانية الأهلية هي حروبات عنصرية عرقية بحتة وحالات التهميش في جميع الهامش السوداني الهدف منه إثارة هذه الفئات ودفعهم الى مثل هذه الحروبات بغية إبادتهم , فدارفور كانت سلطنة إسامية قبل وجود كل التيارات الإسلاموية الموجودة في السودان ولكن وكما قال الرسول صلى لله عليه وسلم ( كل المسلم على المسلم حرام , دمه وماله وعرضه ) ولكن نظام المؤتمر الوظني الإسلامي إرتكب بحق أهل دارفور المسلمين جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي منظم وجرائم حرب , قتل ونهب وحرق وإغتصاب , فعل النظام كل ذلك ظاهرياً بإسم الدين ولكن في باطن الأمر عنصرية كريهة بغيضة لم يمارسه الصهاينة مع شعبهم و ما زال مسلسل الإبادة جارية و الشعبين العربي والإسلامي يقفون طوال هذه السنوات الست متفرجين فرحين بما يحدث في دارفور من قبل البشير البطل القومي العربي بل ويدعمون نظام البشير في المحافل الدولية ضد ضحاياه , لماذا بفعلون ذلك ؟ الإجابة ببساطة هي أن الذين يقتلهم البشير في دارفور غير عرب ولا يشفع لهم لكونهم مسلمين , لأن أسلام الإنسان الغير عربي هو إسلام تبعية وعبودية وإتقياد للعرب فمن لا يطيع سيده العربي لا يتسحق الحياة , وبعد أحداث غزة الفلسطينية في حربها المشروع مع إسرائيل وقف العرب جميعاً ضد الظلم والعدوان وصاروا يطالبون بمحاكمات دولية للقادة الأسرائيليين لأنهم قتلوا أكثر من ألف وثلاثمائة فلسطيني في هذه الحرب وهذا حق ولكن هؤلاء أنفسهم يعرفون أن عمر البشير قتل أكثر من مائة وخمسون ألف دارفور في غضون ثلاثة أشهر و ما زال مسلسل الإبادة جارية في دارفور ولكنهم لم يقولوا شيئاً , بل صاروا يساندون البشير في الإفلات من العدالة دون أدنى وازع أخلاقي أو ديني . ويبدوا من هذه المواقف أن القادة العرب قد صنفوا المسلمين الى صنفين , المسلمون العرب وهم السادة والمسلمون الغير العرب وهم العبيد , وبناءاً على هذا التصنيف يحق للمسلم العربي السيد أن يقتل ويحرق ويسلب ويغتصب بل وحتى أن يبيع من عبيده ما يشاء لكن الدول الغربية التي لا تفهم جدلية هذه العلاقة بين المسلمين العرب والمسلمين الغير عرب صار يثير هذه القضية الدارفورية ويقف مع العبيد ضد أسيادهم العرب الذين يقودهم في السودان الرئيس عمر حسن أحمد البشير الذي مارس جرائم وسلوكاً عنصرياً لا مثيل لها في التاريخ ولهذا وقف العرب جميعاً مع البشير .. وما حدث مع المسلمين الدارفوريين الغير العرب في دارفور من قبل نظام البشير العنصري , حدث من قبل مع المسلمين الإكراد في العراق حين عمد الرئيس العراقي السابق بطل العروبة والإسلام صدام حسين الى ضرب شعبه الكردي المسلم بالأسلحة الكيماوية ولكن لا دولة عربية ولا إسلامية واحدة أدانت ذاك الفعل الغير مسئول لما يحدث لإخوتهم في الدين ومن هنا السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل الإسلام عند العرب هو مجرد مدخل الى الشعوب الغير عربية لإستعمارهم وتعبيدهم ؟؟ أم هو دعوة الى الله خالصة ؟؟؟ في الواقع من خلال النموزجين الدارفوري والعراقي , ومواقف الدول العربية منهما , يتبين لنا جلياً عندما ينادون بالإسلام في الشعوب الغير عربية ليس المقصود منه الإسلام الداعي الى الله خالصة , ولكن يعتبرون الإسلام وسيلة لإستعمار الشعوب الغير العربية وإستعبادها , ولهذا نلاحظ أن جميع الدول العربية تعتقل في سجونها وتلاحق جميع الإسلاميين الذين يطالبون بإقامة أنظمة إسلامية في بلدانهم ولكن عندما يتعلق الأمر بإقامة دولة إسلامية في السودان أو الصومال أو جيبوتي أو أرتيريا أو تشاد أو أفريقيا الوسطى أو مالي أو النيجر قتجد أن هذه الأنظمة العربية تدعم بقوة الذين ينادون بالدولة الاسلامية في تلك الدول وتتستر على جرائمهم التي يرتكبونها ضد شعوبهم كما يفعلون الآن مع المجرم عمر البشير , فهل خرجت أفريقيا من الإستعمار الغربي ليدخل في إستعمار شرق أوسطي ؟؟ نرجوا أن لا يكون هذا الظن واقعاً وإلا فالمنطقة تنتظرها حروبات طويلة طاحنة لأن الخصلة السيئة لا محالة بائنة والشر نار يحرق صاحبه مهما إحتاط منها .. يعقوب آدم سعدالنور