بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    بعد حضور والده من المملكة.. جثمان التيك توكر السوداني جوان الخطيب يوارى الثرى بمقابر أكتوبر بالقاهرة ونجوم السوشيال ميديا يناشدون الجميع بحضور مراسم الدفن لمساندة والده    شاهد بالفيديو.. الفنانة رؤى محمد نعيم تعلن فسخ خطوبتها من شيخ الطريقة (ما عندي خطيب ولا مرتبطة بي أي زول)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وقفات مع تاريخ و أدب دار الريح ... بقلم: محمد التجاني عمر قش- الرياض
نشر في سودانيل يوم 29 - 09 - 2010


e-mail: [email protected]
وصلتني هذه الرسالة من الأستاذ الماحي عبد الرحيم الرشيد و هو شخصية نشأت في كنف العالم الرباني و رجل القرآن والدنا الشيخ عبد الرحيم الرشيد في قرية الفر جاب وهو له سيرة طيبة و قصة طريفة جداً في حفظ القرآن ربما نتطرق لها لاحقًا. وقد خلفه ابنه الشيخ عالي الهمة مولانا الشيخ المكي عبد الرحيم الرشيد و هو الآن يسير بالخلوة نحو الأحسن بعدما افتتح بها مسجده العامر في السنة الماضية. الأستاذ الماحي الرشيد كذلك درس العلم على يد العلامة الشيخ موسى عبد المجيد إمام المسجد العتيق بالأبيض سابقاً و هو نسابة و ملم بالتأريخ و أنساب القبائل و شخصية لا تخلو من لطف معروف لدى كل من تعامل معه. و قرية الفر جاب نفسها كانت ذات يوم واحدةً من المناطق العامرة في شمال كردفان و بها آثار قديمة معروفة ذكرها ماكمايكل في كتابه عن قبائل شمال كردفان ووسطها. هذه النشأة جعلت من الماحي شخصية ذات ثقافة واسعة و اطلاع كبير بأحداث المنطقة و رجالها و ليس أدل على ما نقول من هذه الرسالة التي نضعها بين يدي القارئ الكريم حتى تعم الفائدة لما حوت من معلومات قد يجهلها كثير من الناس وأنا شخصياً استفدت منها الشيء الكثير لأنها قد أضافت إلي أخباراً ما كنت لأقف عليها لولا اطلاعي على محتوى هذه الرسالة التي تعد بمثابة بحث متكامل عن تأريخ دار الريح و أدبها الشعبي خاصةً في طرفها الشرقي و تحديداً منطقة أهلنا الجوامعة و بني جرار و قد فتحت لدي نافذة جديدة آمل أن تقودني للوقوف على كنوز هذا الأدب الراقي الذي لابد لمن يريد معرفة الأدب الشعبي في كردفان من الإلمام به و نحن نشكر الأستاذ الماحي على هذه الإضافة الحقيقية لما نشر من مقالات عن الأدب الشعبي في دار الريح و في ذات الوقت نتمنى أن يتحفنا بالمزيد من روائع ما لديه.
الأخ الأستاذ/ محمد التجاني
الموقر
13/شوال /1431ه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وكل عام وأنتم بخير.
قيل إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل أنظر مدى حنينه لمسقط رأسه وديار قومه.
وعبر عن ذلك أحد الشعراء القدامى بقوله :
قد يهون العمر إلا لحظة وقد تهون الأرض إلا موضعا
وقال آخر :
بلد صحبت بها الشبيبة والصبا ولبثت ثوب العيش وهو جديد
إذا تمثل في الضمير رأيته وعليه أغصان الشباب تميد
من خلال إطلاعي على صحيفة الراكوبة و سودانايل وجدت لكم مشاركة قيمة جداً بعنوان الشعر الشعبي في دار الريح، وقد سررت جداً لتلك المعاني التي تضمنتها تلك الأشعار.فإنّ تلك الديار تفيض بأدب قل أن يوجد له مثيل في السودان0وحتى البسيط من ذلك التراث الشعبي والذي وجد طريقه لوسائل الإعلام المسموعة قديما عبر عن أصالة إنسان شمال كردفان وجمال مفرداته الأدبية.
وقد أعجبت كثيراً لعرضك لتلك القصائد التي قيلت في الحماسة والشكر لرجال كانوا يستحقونها فعلا في ذلك الزمان وقد أعجبت كثيراً بهذه الأبيات : -
الشجرة الضليلة الما نقرها السوس
فوق رأسها النمر وفي ضلها الجاموس
شن تمشي وتقول لامات قرين مرشوش
وهو وصف غاية في البلاغة وسعة الخيال ، في وصف الدوحة الخضراء وارفة الظلال المليئة بالخضرة والحياة ولا يستطيع السوس إتلافها وفوق ذلك يتسلق أعلى فروعها نمر وينام في ظلها جاموس ، كناية عن شجاعة الموصوف واستحالة هزيمته ودعوة قوية للحماسة من أجل فعل الخوارق. واعتقد أنّ "أمات قرين مرشوش" هن بنات الأهل ولعل القرين المقصود هي ضفائر البنات المدهونة . والأدب الشعبي في ديار الجعليين و الشكرية يشابه كثيراً أدب شمال كردفان، وكثيراً ما يأتي شعر الحماسة من الأنثى وهي نفسها مادة الحماسة عندما يتعلق الأمر بحماية العرض وتشجيع الرجال لركوب المخاطر والصبر على المكاره "غني وشكريه الليلة يا أم قرقدن حتو". و القرقد في شمال كردفان يوصف به قديما شعر الخادمات نظرا لشح الشعر لديهن، أو أن القرقد يعبر به عن شعر البنات عامة؛ وفي كل الأحوال يمدح الرجل النجيب الفارس سواء من الشقيقة أو بنت العم أو بنت الخال أو من خادمته في ذلك الزمان.
وقيل إن إحدى بنات قبيلة الجوامعة الطريفية أُعجبت بعبد الله ود جاد الله ( كسار قلم مكمايكل) وهي حالة شاذة أن تغني بنت قبيلة في شخص خارج الأسرة أو القبيلة في ذلك الزمان:
شدولو وركب فوق الأزرق السوميت
دود الخلا أبو نايباً قرن خرتيت
يا يوم العيد البفتحوله البيت
ود جاد الله كسار قلم موكميك
وخلال فترة المهدية بالسودان قيل كثيرٌ من شعر الحماسة. وقيل إن الجردة المكونة من حوالي ألفي جندي بقيادة على بك لطفي ( الملقب بأبي كوكة )، والتي كان يرافقها السيد/ احمد الأزهري؛ وكما هو معلوم الجردة كانت مشكلة من الأتراك والمصريين والانجليز دعماً لحامية بارا من السقوط ، وقد ذكر نعوم شقير في تاريخ السودان وكذلك يوسف ميخائيل، بأن بارا كان يحاصرها الفكي المنا إسماعيل زعيم الجوامعة بحوالي عشرين ألف مقاتل وكان بها النور عنقرة بعد سقوط اسحف، وفي المنطقة الشرقية كان الفكي رحمة ود منوفل يقود عدداً من الرجال؛ وقد عبر نعوم شقير عن هذه الواقعة بقوله عندما كانت تسير الجردة وعلى مسيرة يوم من بارا في مكان يسمى كو ود جفون اعترضها فكي رحمة و د منوفل يقود عربان الجوامعة وأعمل فيها السيف والرماح – وقضى على الجردة ولم ينجو منها إلا حوالي مائتين استطاعوا الوصول إلى بارا هرباً وكان من ضمن القتلى الشيخ/ احمد الأزهري - وهو كان من خريجي الأزهر بمصر وكان موعوداً برئاسة القضاء الشرعي في كردفان إذا تم الانتصار على الدراويش
(المهدي وأتباعه) في تلك المعركة التي وقعت في ذلك الوادي الذي ظل يحمل نفس الاسم حتى اليوم ( كو ود جفون ) وهو واد يقع شمال قرية الفرجاب الرشيد وغرب البحرية وشرق قرية أم بالجي؛ قيل كان من ضمن أشعار الحماسة التي أطلقتها البنات وكان يرددها المقاتلون أثناء المعركة ،كما سمعناها من عمنا الشيخ/ موسى عبد المجيد الحراني – وهو كان عليه رحمة الله موسوعة في رواية الأحداث التي مرت على كردفان وتاريخ و أصول قبائل كردفان:
نحن أولاد طريف كرم الضيوف عادتنا
والحربة التسيل يوم الدواس حربتنا
والقصيدة طويلة وأولا طريف في الجوامعة هم الطريفية والحرانية فقط.
ولعل ثراء منطقة شمال كردفان بالأدب الشعبي الجميل وخاصة ديار دار حامد والكبابيش والهواوير وبني جرار والكواهلة والبزعة قد يرجع ذلك لمحافظة هذه القبائل على كثير من عادات وتقاليد العرب الأقحاح . وكما هو معلوم فأنّ هذه القبائل آخر القبائل التي تخلت عن مهنة رعي الإبل و الترحال بالبادية رغم إن بعضها لازال يمارس مهنة الرعي و الترحال؛ وهي صفة تركت بصمة متفردة في إنتاج الأشعار الجميلة في كل مجالات الحياة 0ولعل الذي يلفت النظر إن المؤرخ "الفحل" احد أبناء الجعليين النفيعاب ،الذي ألّف كتابه تاريخ و أصول القبائل العربية في السودان وهو رجلٌ باحثٌ ومؤرخ ذو اطلاع واسع وقد عاش في أيام حكومة الخليفة عبد الله التعايشي وكان في مقتبل العمر وذكر أنه كان يحضر مجلس إلياس ود امبرير في أم درمان ومجلس السيد/ المكي إسماعيل الولي بحي مكي بأم درمان. وهذان المجلسان كان يحضرهما كبار علماء السودان في الفقه والتاريخ وسمع منهم الكثير وجمع الكثير من تأريخ قبائل السودان من المؤلفات القديمة في هذا الشأن ومما أخذه شفاهة من المؤرخين في ذلك الزمان وقد طبع كتابه في عام 1975 بأمر من الرئيس جعفر نميري، بعد أن قدم له الدكتور أبو سليم والطيب محمد الطيب وعون الشريف قاسم؛ حيث أفاد بأن الأمير سعد جد قبائل الجعليين قدم للسودان من مصر التي وفد إليها بعد دخول التتار لبغداد وزوال حكم العباسيين حيث جلس في مصر فترة بسيطة ثم علم بأن هناك عربا في بر العجم ( السودان ) واستعان بخبراء الطريق واستأجر الجمال حتى ، نزل بعائلته في منطقة الخيران وعاش هو وأبنائه وأحفاده زماناً بين الخيران ومكان يسمى أببار سرّار حتى توفي وقبر في ذلك المكان وذكر أن هناك مقبرة تسمى مقبرة الملوك بين بارا وخرسي بها عدد كبير من جدود الجعليين قبل رحيل القبيلة إلى جبل العرشكول في زمن الأمير حميدان ومنه إلى قرية شندي التي أسسها ضواب أول من بنا شندي من الجعليين 0 وقد ذكر أن الأمير سعد عند وصوله بر العجم وجد في منطقة الخيران عرباً كرماء أصحاب ماشية وزراعة ورحبوا به وأكرموه وطاب له المقام معهم واقتنى الماشية والغنم حتى أصبح ذا مال وفير. والعرب المذكورون هم قبائل دار حامد لاشك في ذلك. و عاش بها زمناً طويلاً وفيها ولد إبراهيم جعل الذي تنتسب إليه المجموعة الجعلية التي تضم الجعليين و الجميعاب و الجمع و الجوامعة و الجموعية والبديرية و الشايقية؛ وقيل إن الأمير أحمد كردم الفوار بن إبراهيم جعل وهو جد هذه المجموعة مدفون في جبل كردفان 0 بمعنى أن شمال كردفان هي نواة العرب الأقحاح في السودان وتراثها و موروثها الأدبي الشعبي لا يضاهى في السودان؛ ولكن شح الإعلام وعدم اهتمام أبنائها كان سببا في دفن كثير من الدرر تحت تلك الرمال الجميلة 00 ويكفي كردفان فخرا أنها كانت نقطة الانطلاق لأكبر ثورة شعبية في إفريقيا وأسيا ضد الاستعمار الانجليزي الذي كان يحتل البلاد حتى مظلة الأتراك والمصريين ( المهدية رغم اختلاف أهلنا في شمال كردفان مع المفاهيم التي كان يدعيها المهدي، (بأنه المهدي المنتظر وخلافه ) ولكن ناصرها أهل كردفان بدافع وطني كبير - حيث كان عمادها أبناء كردفان بشتى قبائلهم دار حامد والجوامعة والبديرية والغديات والبزعة 0وهم الذين صمدوا في كرري حينما تراجع الكثيرون 0 ذكر نعوم شقير وهو يصف معركة كرري بقوله (عندما حمي الوطيس في كرري ، تراجع الكثيرون عائدين إلى أمدرمان وصمد الرجال الذين حملوا المهدية منذ نشأتها) ومما أثار انتباهي ما كتبه دكتور مختار الأصم أستاذ علم الإدارة بجامعة الخرطوم في صحيفة الرأي العام قبل عامين تقريباً عن أن الفاتح النور صاحب جريدة كردفان رحمه الله كتب مقالة في جريدة كردفان في عهد الرئيس إبراهيم عبود – وهو يستنكر الاحتفاء بكرري وتجاهل شيكان 0 عند احتفال حكومة عبود بذكرى معركة كرري في الخرطوم عام 1962م - قال: عجباً للسودانيين يحتفلون بذكرى معركة كرري التي هزم فيها السودان أمام جيوش المحتل حيث احتلت البلاد من بعدها رغم تضحيات المدافعين عن تراب الوطن ويتجاهلون معركة شيكان التي انتصر فيها السودانيون مما مهد الطريق إلى تحرير السودان كله من المستعمر.
( وذكر أنه بعد هذه المقالة مباشرة اهتمت الحكومة ببناء متحف شيكان وتم جلب أثار المهدية إليه من جميع السودان). وذكر أن أحد لوردات مجلس العموم البريطاني وهو يحدث المجلس بعد هزيمة هكس في شيكان بقوله : منذ أن غرق جيش فرعون مصر بالكامل في البحر وهو يتعقب نبي الله موسى وقومه لم يباد جيش بأكمله كما أبيد جيش هكس باشا في صحاري كردفان – لم يبقى من حوالي عشرة ألاف جندي إلا ثلاثمائة جندي بأعجوبة ، حيث وجد الجندي و هو يغطى جسمه بجثة زميله القتيل حتى يتفادى سلاح الدراويش. هذا التاريخ الناصع لكردفان للأسف لا أحد يعطيه قيمة رغم انه مضى عليه زمن طويل و "الما عنده قديم قالت العرب ما عنده جديد". ولو كان أبناء كردفان يعتزون برصيد أجدادهم الوطني الناصع في تراب السودان لما شكلت حكومة إلا وكان لهم فيها نصيب الأسد ولكن للأسف أكثر الذين وصلوا لمناصب عليا في السودان من أبناء كردفان أصيبوا بالانفصام وتنكروا لديارهم وصدق عليهم مثل الغراب ( حاول تقليد مشية الطاووس فلم يستطيع وحاول العودة لمشيته الأولى فنسيها فأصبح يمشي ينغز شبه أعرج).
ولعل التعايشي، رغم ظلمه وسياسته القمعية، أنصف كردفان عندما شكل أحياء أمدرمان كلها بأسماء أبطال كردفان ، ود نوباوي - شيخ بني جرار - امبدة ود سيماوي - دار حامد - خور أبو عنجه جبال النوبة ، مكي إسماعيل الولي ، حي مكي - خور عمر ، قيل هو عمر حوار الشيخ أبو زمبطو - قائد معركة خور الجفيل عندما نصب كمينا لجيش الحكومة القادم من الأبيض لدعم حامية التيارة خوفا من السقوط في أيدي المنا إسماعيل ورحمة ود منوفل وموسى الأحمر وهي المعركة التي أدت إلى كسب أسلحة نارية كبيرة جدا واستطاع المنا إسماعيل أن يستفيد منها في تسليح قواته التي اقتحم بها التيارة ( قتل عمر حور الشيخ أبو زمبطو في معركة القلابات بين الحبش وجيوش المهدية بقيادة الزاكي طمل ) حيث جلعت نظارة الجوامعة في أبنائه وأحفاده منذ عام 1913م حتى الآن.
وقد ذكر نعوم شقير بأن الفكي المنا إسماعيل شيخ الجوامعة حاصر بارا شهورا حتى أكل الناس مالا يؤكل وأصاب الناس الجوع – وكان النور عنقرة يخرج بجنوده ويشتبك مع الفكي المنا إسماعيل – يقتل في رجاله ويتكبد منهم خسائر في جنوده وعندما اشتد الحصار قام النور عنقرة بإرسال مندوب إلى المهدي في قرية الجنزارة بالقرب من الأبيض يطلب منه إرسال من يستلم بارا طوعا حيث انه لا يستطيع تسليمها إلى المنا إسماعيل الذي بينه وبينه ثارات خوفا من الانتقام – فأرسل المهدي عبد الرحمن النجومي - واستلم بارا 000 فأصبح ود النجومي الذي وجدها جاهزة مستوية أكثر شهرة في السودان من المنا إسماعيل. ثم أرسل المهدي إلى رحمة ود منوفل و المنا إسماعيل للتوجه إلى ضرب حامية التيارة التي كانت بها حامية تركية حصينة – واستطاع المنى هزيمة التيارة بعد معركة طاحنة وقام بعدها بقطع خطوط التلغراف بين الخرطوم و كردفان‘ ثم طلب منه المهدي للانضمام له في حصار الأبيض وكان يعسكر برجاله في منطقة خور طقت حتى استسلم جراب الفول واستلم المهدي الأبيض هذه المرة بدون مقاومة رغم هزيمته من قبل الحكومة في الأبيض في المرة الأولى وقد اتفق نعوم شقير ويوسف ميخائيل في الرواية التي مفادها بأن كردفان لم تبايع المهدي مبايعة كاملة إلا بعد سقوط حامية بارا والتيارة – حيث توافد العشرات من الأبيض إلى عريش المهدي في قرية الجنزارة يتقدمهم إلياس امبرير والشيخ المكي إسماعيل الولي والشيخ/ ود أبو صفية والشيخ/ سوار الذهب - وذكروا أن المهدي عندما علم بسقوط بارا أطلق مائة طلقة مدفع في الهواء استبشاراً بالنصر وتكرر ذات الفعل بعد سقوط التيارة بيد المنا إسماعيل0 مع الاعتذار لهذا الاستطراد عن تاريخ جزء من أيام أهلنا الخالدات في كردفان حيث أتى عرضاً حيث كان موضوعنا هو تراث كردفان الأدبي.
وفي ذاكرتي ونحن أطفالا نستمع لأشعار بنات بني جرار في مناسبات الأفراح وهن يرددن في حلقة الصفقة في الليالي المقمرة :
أ حمد سار ماجانا
عالت بيه الحنانا
رب الحي كان جانا
بتل الشيك جزلانا
وهو تعبيرا عن الغياب زمن النشوق ، الحنانا ( الناقة) وعالت بيه ، كناية عن الترحال بعيداً في البادية في اقصى الشمال ، رب الحي ( أي العام القادم ) وهي أمنية ان يعود الشباب وجيوبهم مليئة بالجنيهات0والاستاذ/ محمد التجاني أعلم بمفردات ذلك الأدب مني ( شرحي له تحصيل حاصل) 0
جقلى الطن حوارك
عقدو الشورة رجالك
كان الغرب ما شالك
شيلي السافل دارك
ومما أذكره من طرائف في تلك الديار ونحن صغار، ما قاله أحد رجال الكواهلة ، وهو يعاتب جدنا لوالدتنا ( محمود محمد زين محمود ) والذي كان يلقب (ود قنج بيه ) قيل إن الكاهلي كان يسقى إبله في بئر قرية تندار دميرة وهي قرية أجدادنا لوالدتنا 0 ونظرا لكثرة الإبل حيث يتطلب شرابها وقتا طويلا ومضايقة الأهالي / قام جدنا بمنع الكاهلي من سقيا الإبل في بئر القرية 0
وكان شيخ بي ايده ( وهو اسم الكاهلي ) يسقى من قبل في نفس البئر حينما كان يتعامل مع جماعة من القرية أشار إليهم في القصيدة وما كانوا يمنعونه من السقيا:
فقال معاتبا جدنا محمود :
ما شفت ود كناتي مع سردوب
وماشفت الزين في أماتو زي جبل حيدوب
أمانا يا ود قنج بيه ما عطشت حميره وعدمتها الطنوب
فما كان من جدنا إلا أن سمح له السقيا في البئر والإقامة بأهله جوار قرية تندار مدى حياته 0ونفس هذا الرجل ( شيخ بي ايده ) وكان طريفا جدا – ذهب للبحرية حيث المحكمة الأهلية هناك – بعدما تم نقلها من إدارة خالنا العمدة أبو القاسم عمر محمود بقرية الزريقة القيزان ) حيث كانت في الماضي محكمة عريقة جدا وكان من أعضائها الشيخ/ الطاهر عبد المحمود نور الدائم والشيخ/ احمد سليمان الأصم وحوالي عشرة عمد يمثلون فروع قبيلة الجوامعة العشرة 0 تم نقلها للبحرية بعد وفاة جدنا عمر محمود سنة خمسين للبحرية ليرأسها الخليفة محمد ادم ( من الجمرية ) و الطرفة التي يذكرها الأهل هي أن شيخ بي ايده ذهب إلى البحرية في قضية وهو كان المدعى عليه. وحوكم بغرامة كبيرة عبارة عن ناقة يدفعها مقابل الخسائر التي لحقت بالزراعة من إبله 0 وصادف أن وجد رئيس المحكمة بالإنابة شخص اسمه ود بحر، وكان الخليفة محمد ادم في الأراضي المقدسة في موسم الحج0 وشيخ بي ايده شعر بالظلم من الحكم ، وتذكر أيام الخليفة محمد ادم ، حيث كان يجد العدل في الحكم وكرم الضيافة 0 فعبر عن ذلك بقوله :
في دار أبو اللمين الخاطي مابجينا
وكفتيرته الكبيرة بالشاي راوينا
رواكيب الكرم والطعام عالية دخاخينا
وقت السنين إتشقلبن جينا
عيل ود بحر يبقى أفندينا
الحديث ذو شجون عن دار الريح كما يقال :
ولعل أبلغ ما سمعت من ديار الجوامعة وحفظته رغم طول السنين ، ونحن يومئذ أطفال؛ صادف آن حدث خلاف بين شباب قرية أم صميمة أولاد ماقا فرع من الجوامعة الطريفية بينهم وبين أهل قرية أم زرزور- وكلهم من نفس القبيلة – وكان الشباب بينهم حساسية شديدة خاصة أثناء حضورهم لحفلات العرس وتلك الصفقة والجراري كما تعلم وقد وصل الأمر إلى "القشاط" أو البطان كما يسمى في ديار الجعليين بسوط العنج في قرية أم صميمة يوما ثم مرت الأيام وبعد عام تقريبا حدثت مناسبة كبيرة في قرية أم زرزور في زواج شاب يدعى حامد ود مختار – وجاء شباب ام صميمة للحفلة – وكان الشباب هنا يتربصوا بهم لجرهم إلى معركة بالعنج أيضاً وقد استعدت البنات بأغاني الحماس لإخراج المسرحية العجيبة وأثناء الصفقة دخل شباب أم صميمة لوسط الحلبة يبشروا العريس وكل واحد يرتدي الثوب الساكوبيس والعراقي الدبلان والسروال أبو تكة حرير وذلك العكاز المضبب والسكين أم جفير مرصع بالفضة وهي بارزة خارج كم العراقي كناية عن الفنجرة وحتى تشتعل نار الفتنة ،أذكر واحدة اسمها أم بله جادت قريحتها بأغنية كلمح البصر تستفز أبناء عمومتها بغرض الانتقام من شباب أم صميمة رفعت بها صوتها و انخفض صوت البنات الأخريات وحفظن مطلع القصيدة وكان مطلعها :
أردب حنضل هوسوه
كضابين ما بتشربوه
زحو منو سياده جوا
فما كان من شباب أم زرزور إلا وهم داخلين الحلبة وكل واحد نزع ملابسه وبقي فقط بالسروال الطويل وهو يحمل ذلك الكرباج المصنوع خصيصا للفنجرة والسكين في الذراع وكل يضرب الأرض بالكرباج لإثارة الخصم للركزة أمام البنات0 ونزل شباب قرية أم صميمة وبدأت مسرحية المشرحة العجيبة تلك في الهواء الطلق - وكانت بحق تصفية حساب عسير. ولعل تقاليد القشاط ( البطان) نفسها تعبر عن خلق رفيع في الانتصار على الخصم بأسلوب فيه شيء من الحلم والحكمة رغم صعوبته في حينه بعيدا عن القتل والتنكيل الذي يؤدي إلى جراحات وثارات لا تنتهي.
ولعلك تذكر القصيدة العريقة التي جادت بها قريحة أحد أبناء قبيلة بني جرار ناس موسى ويقال هم من ذرية موسى ود جلي الفارس المعلوم .هذا الجراري إذا لم تخني الذاكرة سجن بمركز بارا زمنا طويلا في قضية كبيرة في أيام الاستعمار الانجليزي الثاني فبدأ يغني بمفردات كأنما يعبر فيها عن أماني الشعب كله في التحرر من الاستعمار ، وهو يتمنى ان يضرب مركز بارا ويدمر السجن ويخرج المساجين احرارا ويخرج هو ويأتي بجمله الهضليم إلى بارا ليربطه في لبخة المركز المعلومة ويجعل جنينة المفتش مرعى له هذه الأفكار لا يستطيع أن ينظمها في أبيات شعر إلا شاعر من الفحول :
فقال :
المركز ضرب والعساكر ماتو
وأبو طرطور مفقس مرقوا المساجين فاتوا
هضليم الربدة البزوم ويجي في أماتو
تبقى اللبخة مقيلتو والجنينة فلاتو 0
و أبو طرطور هو الحرس الانجليزي
لك تحياتي 00 مع المعذرة إذا أخذنا من وقتك الكثير في ذكريات دار الريح 00
ونسأل الله تعالى أن ييسر لنا جميعا العودة لتلك الديار الجميلة ويجمعنا بكم وانتم والأهل هناك والأسرة جميعا بخير وعافية 0000
الماحي عبدالرحيم الرشيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.