الإمارات.. الإجراءات والضوابط المتعلقة بالحالات التي يسمح فيها بالإجهاض    مستشار الأمن القومي في الإمارات يبحث مع مايكروسوفت التعاون في التكنولوجيا المتقدمة!    الحرارة وصلت 51.. تحرك برلماني لاستثناء صعيد مصر من تخفيف أحمال الكهرباء    ماذا لو فاز؟.. ترامب يضع أهدافا مستقبلية أهمها "ملاحقة بايدن"    لاعب كرة قدم يخطف الأنظار بمظهره "الغريب" خلال إحدى المباريات    إسرائيل: «تجسد الوهم»    الهلال الأحمر القطري يشرع في شراء الأضاحي بهدف توزيعها على النازحين    وسط حضور جماهيري كبير ...منتخبنا يبدأ تحضيراته بملعب بلك    الإعدام شنقاً حتى الموت لشرطى بإدارة الأمن والمعلومات    ما تقوم به عصابات ألأراضي في بحر أبيض لايقل خطورة عن النهب والسرقة التي تقوم بها مليشيات التمرد    دائرة المرور السريع تفوج حجاج بيت الله الحرام وتكمل استعدادتها لتفويج المواطنين لعيد الاضحي المبارك    بعد موسم خال من الألقاب.. البايرن مستعد للتخلي عن 6 لاعبين    السنغال تعمق جراح موريتانيا بعد السودان    ((خواطر …… مبعثرة))    اللعب مع الكبار آخر قفزات الجنرال في الظلام    جون مانو يقترب من اهلي بنغازي    المدير العام لقوات الشرطة يؤكد ان قوات الاحتياطي المركزي قدمت تضحيات كبيرة في معركة الكرامة    البرهان يؤكد عزم القوات المسلحة القضاء على المليشيا الإرهابية وأعوانها    مجزرة ود النورة... هل تسارع في تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية؟    حبس عمرو دياب.. محامٍ يفجر مفاجأة عن "واقعة الصفع"    اتحاد الكرة السوداني يشيد بحكومة جنوب السودان    تحديات تنتظر رونالدو في يورو 2024    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تضع زميلتها ندى القلعة في "فتيل" ضيق: (هسا بتجيك نفس تحملي في أوضة وبرندة وسط 13 نفر وفي ظروف الحرب دي؟)    شاهد بالفيديو.. شاب من أبناء "الشوايقة" يتوعد القائد الميداني للدعم السريع "جلحة": كان فضلت براي في السودان ما بخليك (جاك الوادي سايل أبقى راجل عوم والمطر البدون براق جاك يا الشوم)    انقطاع الكهرباء والموجة الحارة.. "معضلة" تؤرق المواطن والاقتصاد في مصر    نصائح مهمة لنوم أفضل    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    الجزيرة تستغيث (4)    انتظام حركة تصديرالماشية عبر ميناء دقنة بسواكن    "كعب العرقي الكعب" .. وفاة 8 أشخاص جراء التسمم الكحولي في المغرب    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    وفد جنوب السودان بقيادة توت قلواك يزور مواني بشاير1و2للبترول    صدمة.. فاوتشي اعترف "إجراءات كورونا اختراع"    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    من هو الأعمى؟!    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقترح "كولوتود"(*) رافع للوعى: ببعض مفاهيم الحقوق الدستورية .. بقلم: أمين محمد إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 08 - 12 - 2010

فى مقدمة هذا المقال، نبدأ بتعريف لفظة "كولوتود"(*)، وهى كلمة نوبية الأصل، ومعروفة بلفظها ومدلولها، لدى النوبيين من قديم الزمان، وتعنى عند هم، كما عند غيرهم ممن تأثروا بإرث حضارتهم من مجاوريهم، كما سنرى لاحقاً، المضرب المناول فى نظام الري، لسقيا الأراضي العالية أو البعيدة، من مصدر المياه الرئيس، سواء كان مصدر السقيا والرى، هو نهر النيل أم الآبار الجوفية. و استدعت الحاجة الماسة و الملجئة، إلى رفع المياه إلى أعلى مدى، ضرورة رى الأراضى العالية والبعيدة، عن مصدر الرى، أياً كان مصدر الري، إبتداع آلية "الكولوتود" و توظيفها فى الرى. و علة ذلك هى أن المياه التى ترفعها، رافعة الري كالساقية القديمة (أو حتى بدائلها التى حلّت محلها حديثاً كطلمبات الضخ)، من المضرب الرئيس، لا تغطى الأراضي المرتفعة أو البعيدة عن ذلك المصدر.
فالحاجة إذن و هى (أم الإختراع)، هى التى دلّتْ عقول قدماء النوبيين، المبدعة الخلاقة، إلى فكرة "الكولوتود" وآلية تشغيله، وقوامها أن يحفروا مضرباً أو بئراً، فى أعلى مجرى ومسيل مياه المضرب الرئيس، لتتجمع فيه المياه القادمة منه، ثم إنشاء رافعة جديدة أي ساقية بثيرانها قديماً، (أو بديلها طلمبة الضخ حديثاً)، لرفع مياه المضرب المناول "بالكولوتود"، إلى حيث يفرغها فى الجداول الأعلى، التى تغطى الأراضي العالية والبعيدة فترويها بالسقيا.
و يلحظ استخدام لفظة "كولوتود" النوبية، على نطاق واسع بين جيرانهم المشتغلين بالزارعة، فى الشمال السوداني، كالشايقية والمناصير والرباطاب والجعليين وغيرهم. ويدل هذا على أنها انتقلت إليهم، بذات مبناها ومعناها، شأنها فى ذلك شأن كثير، من المفردات وصيغ التعبير النوبية، التى دخلت لغتهم الدارجة على نحو ملفت، كظاهرة من ظاهرات تأثرهم باللغة النوبية ومفرداتها، المستخدمة للتعبير عن مضامين متعلقة، بسائر أنشطتهم الحياتية المختلفة، بحسبانها، أى اللغة، الوعاء الحامل لإرث حضارة أهلها، الموغلة فى القدم، والضاربة فى جذور تاريخ المدنيات الإنسانية.
و سنعرض لمقترحنا، فى سياق الحديث عن ضرورة ترقية و رفع وتائر و معدلات الوعى بالحقوق الدستورية. ولذا يجدر بنا البدء بمحاولة تعريف الدستور تعريفاً موجزاً. فنقول بأن الدستور هو الوثيقة التشريعية الأساس، المقررة للمبادئ والقواعد القانونية الكافلة للحقوق الأسس و المبينة للواجبات و الإلتزامات، و الناظمة للعلاقات المختلفة، بين أشخاص القانون (كما سنفصِّلهم لاحقاً) فى الدولة. وينص الدستور كذلك على إستقلال أجهزة الدولة الثلاث المعروفة، التام عن بعضها البعض، وهى التنفيذية والتشريعية والقضائية، كما يحدد سلطاتها و مهامها وصلاحياتها. و يحدد أيضاً علاقاتها ببعضها البعض، من جهة، و علاقاتها مجتمعة أو منفردة بالمجتمع أفراداً أو جماعات، من جهة أخرى. و يحيط الدستور الحقوق الواردة فيه، دائماً بسياج غليظ و محكم من الحماية و الضمانات، منعاً لأى إنتهاك لها أو تغول عليها، من أجهزة الدولة أو خلافها. ويعيِّن سلطة قضائية عليا، لحراسة هذه الحقوق و حمايتها، هى الدائرة الدستورية فى المحكمة العليا. و الدستور الذى نعنيه هنا هو الوثيقة، المعبّرة عن الإرادة الجمعية للشعب، و من ثم لا علاقة لحديثنا هذا بما يسود السودان، فى الوقت الراهن من تشريعات، أو ما يجرى فيه أحداث، أو ما نشأ من أوضاع و مؤسسات، أو ما يقع فيه من أفعال وتصرفات لا دستورية، و غير خاضعة لحكم القانون، أو أى معايير عدلية أو إنصافية أخرى. ولا تخضع لرقابة القضاء حتى المعيّن من قبل السلطان. فالمحكمة الدستورية مثلاً عيَّنَ أعضاءها وسماهم، بنسب معلومة، شريكا الحكم، حزبا المؤتمر الوطنى والحركة الشعبية.
و فى تقديرى أننا، ونحن نواجه هذه الهجمة الشرسة، على الحقوق الأساسية كافة، أصبحنا فى أمس الحاجة، إلى وعى حقوقنا الدستورية، وعياً عميقاً محيطاً وشاملاً. و لن يتأتى ذلك إلا باستنفار الجهد الجماعى الوطنى، بالكيفية التى سنوضحها لاحقا، للمساهمة الفاعلة، فى ترقية الوعى بالمفاهيم الدستوريه، و ما يضاعف من أولوية هذه المهمة، فى هذه المرحلة ليس فقط هو الغياب المطلق والتام، لأى مظهر من مظاهر، هذه المفاهيم الواردة فى الفقرة السابقة من المقال، فى ممارسات الدولة السودانية، (المحتلة و المغتصبة) للعقدين الآخيرين من الزمان، بل و إضافة إلى ذلك، هو ما تتعرض له هذه المفاهيم، من تزييف و تشويه ممنهج و متعمد، على يد نظام الإسلامويين فى السودان. لا سيما و أنهم قد أو غلوا فى إيهام أنفسهم، بفلاحهم فى غشنا وخديعتنا، بكفالة هذه الحقوق الأساسية المغتصبة، بموجب نصوص و أحكام دستور السودان الإنتقالى، لسنة 2005م، بينما نحن نرى يومياً، انتهاكات فظة للحقوق الدستورية كافة، وفى مقدمتها الحق فى حرية التعبير والتنظيم و حقوق التجمع والإحتجاج السلمى، وحق العمل ... إلخ، ومبادئ حيدة إستقلال و قومية جهاز الدولة، بشقيه المدني و العسكرى، و إستقلال و حيدة و نزاهة القضاء وسيادة حكم القانون ..... إلخ، وكلها تجاوزات وإنتهاكات تقع صباح مساء، و لا تحول دون وقوعها المتوالى والمستمر، بموجب نصوص و أحكام الدستور المذكور، الذي لم يكتف بالنص على كفالة وحماية، هذه الحقوق الدستورية فقط، بل أضاف إليها نصاً، جعل كل المواثيق الدولية، الكافلة لحقوق الإنسان، السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، جزءا لا يتجزأ منه. و مع ذلك فإن ما يحكم السودان اليوم ليست هى نصوص وأحكام الدستور الإنتقالى، بل هى تشريعات الدولة الديكتاتورية، النافية للحقوق كافة المعادية لها طُراً، وأجهزة الدولة الشمولية، البوليسية القامعة لأصحابها والمنكلة بهم جميعاً.
إذن يلزمنا و جوباً، بادئ ذى بدء، النضال الجماعى لإسترداد هذه الحقوق السليبة عنوة و بوضع اليد، ف "ما ضاع حق وراءه مطالب"، كما يقال فيما شاع بين الناس، من قول، مفاده أن الحق الذى يطالب به صاحبه، ويناجزه و يتمسك بملاحق مغتصبيه أو ناكريه و جاحديه، به و لإسترداده، حق باقٍ لا يموت، و يمكن إستعادته، طال الزمن أو قصر. والحقوق الدستورية على إطلاقها، تستوجب التمسك بها و عدم التفريط فيها أو التنازل عنها، و الإستماتة فى مناجزتها و المطالبة بها، بالغاً ما بلغت فداحة الثمن، و مهما كانت جسامة التضحيات، المبذولة فى سبيلها. ويبدأ العمل فى سبيل هذه الحقوق، من كل بد، من معركة ترسيخها و تكريسها كحقوق أساسية لازمة، تكفلها للناس كافة نصوص و أحكام، تشريعات دستورية ملزمة. و نقول ملزمة تحرياً للدقة و الإحكام فى التعبير عن المراد. فقد أثبتت تجارب دساتير السودان للأعوام 1973م و 1998م الموصوفة بواسطة و اضعيها بالدائمة ( و لا دائم إلا الله)، ودستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م، أن مجرّد النص على الحقوق الأساسية فى الدستور، مع القصد المبيّت للتحلل من أى درجة للإلتزام بها، أصبح من ألاعيب النظم الشمولية وخدعها الماكرة، لإستدامة بقائها فى الحكم وقهر الناس ظلماً و عدواناً، مع ضمان عدم مساءلتها و محاسبتها، فى ظلِ سلطة قضائية من صنعهم تابعة للسلطان وخاضعة بالمطلق لإرادته و تأتمر بأمره. إذن فلا فائدة ترجى، من نصوص وأحكام، تكفل حقوقاً دستوريةً، فى دولة قائمة أساساً على اللاشرعية و اللادستورية، بل وفى حلٍ دائم ومعلن عن الشرعية الدستورية. و لا جدوى أيضاً من الدستور مهما اشتمل على حقوق، إلا إذا إحتكمت الدولة إلى سيادة حكم القانون، الذى يؤمن مبدأ الفصل المطلق بين السلطات، ويكفل الحق الدستورى فى إنشاء سلطة قضائية محائدة و مستقلة، عن الجهاز التنفيذى والسياسي، يحتكم إليها عند التنازع على أى حق دستورى، تعتدى عليه الدولة بالإنتقاص أو الإنتهاك. وشرط الإستقلال التام والمطلق هذا، هو الذى يجعل السلطة القضائية فاعلة و قادرة – فى المقام الأول- على حماية حيدتها و إستغلالها، من تغول و إنتهاكات الحكام، كضمان لصلاحيتها وقدرتها، على حماية الحقوق الدستورية لللأفراد والجماعات.
و أكَّدت التجارب الدستورية المار ذكرها أيضاً، و بما لا يدع مجالاً للشك، أن ما يحتاجه شعب السودان اليوم، هو السعى بكل السبل، لدحر و هزيمة كل أشكال و مظاهر النظام الشمولي القائم، واستعادة حقوقه الدستورية كافة. ففضاء الحريات الديمقراطية الفسيح فقط، هو الذى يفتح الطريق أمام الشعب واسعاً، لبناء دولته الديمقراطية القادرة على إنجاز صياغة وثيقة دستورية دائمة، تكتسب الديمومة والشرعية، بإجازتها بواسطة نواب للشعب منتخبين، إنتخاباً حراً و نزيهاً وشفيفاً، تديره لجنة يختارها الشعب، من بين أفراده، المعروفين بالأمانة و الشرف والإستقامة، و يشرف عليها قضاء مستقل محايد، مالك لزمام أمره وليس من صنيعة السلطان، وبالتالى تابعاً له و يأتمر بأمره. و هكذا ينتخب الشعب ممثلي إرادته الشرعية المعّبر عنها، بالتصويت فى صناديق إقتراع، يحرسها ممثلوا الشعب من أول لحظة الإقتراع، وحتى لحظة إعلان النتائج. أما صناديق حزب (الخج) التى تديرها لجنة أو مفوّضية يعينها السلطان و منحازة و تابعة له، و يحرسها عسس السلطان و جنوده، كحراسة الذئب للغنم (كما فى قصص الأطفال)، فلا تنتج إلا رئاسة الغش والتزوير، و نواب الفبركة والتحوير، و فى المحصلة تحكم حكومة غير شرعية.
و نخلص من كل ذلك إلى أن، قضية صياغة و إجازة الدستور الدائم و القوانين المتممة له و المتسقة معه والخاضعة لسيادته و أولويته، تعتبر هي القضية الفكرية و العملية الأولى، فى مرحلة بناء الوطن وتأسيسه، على سند من الركائز المتينة والمنيعة، من التشريعات الحائزة، على قبول ورضاء الأغلبية. فجوهر الديمقراطية هو أن الشعب، هو سيّدُ نفسِه الذى يحكم ويدير شئونه بنفسِه، وفقاً لإرادته الحرة، فهو مصدر السلطات جميعاً، و لا يكتسب أىِّ تشريعٍ كان شرعيته وحجيته إلا بقبول و رضاء أغلبية نوابه الممثلين لإرادته حقاً.
فما نحتاج إليه إذن هو، إيلاء مهمتى ترقية الوعى العام، بالحقوق الدستورية، وتأهيل أصحابها لإكتسابها و حمايتها والمحافظة عليها، ما تستحق و تحتاجه من عناية و إهتمام. ويتطلب تحقيق هاتين المهمتين خوض معارك فكرية و عملية شرسة، فى مواجهة مغتصبى أو جاحدي وناكري، أىٍ من هذه الحقوق الدستورية. لذا فإننا أمام معركة طويلة ومعقدة ومتشعبة، ولكنها قطعاً تبدأ من كل بد، أولاً: ببسط و تعميق الوعي الكافى والشامل، بحقوقهم وقضاياهم طٌرّاً، و ثانياً: برصهم وتوحيد صفوفهم وراء وحول مطالبهم، فى أُطٌر و مواعين تنظيمية، يحددونها بأنفسهم بما يناسب و يلائم أشكال حراكهم، من أجل إنتزاع حقوقهم و تحقيق مطالبهم، سواء كانت هذه الأُطُر حزبية أو نقابية أو ثقافية أو سائر منظمات المجتمع المدنى، (المجربة) القوية الفعّالة فى النضال، من أجل انتزاع الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية وخلافها، والقادرة فضلاً عن ذلك على تأمينها وحمايتها والحفاظ عليها، بالغاً ما بلغت التضحيات. لذا يرمى هذا المقال ضمن مراميه، إلى إلقاء المزيد من الضوء الكاشف، على بعض مفاهيم المبادئ الحقوقية الأساسية، فى فقه القانون عامة، والدستور خاصة، وذلك بغية تجذير وتعميق الوعي بها، فى سياق الجهد الجمعي المبذول، لرفع وتائر الوعي عامة.
وفى نظرنا أن أهمية نشر المفاهيم الحقوقية الأساسية، وبسطها مفاهيمها وتدويرها، بين سواد الناس، ما أمكن، تنبع من حقيقة أن الوعي هو الزاد المعنوى و الروحي، للحراك الجماهيري الثوري المنظم، القاصد للتوجه بجدية وفعالية وهمة، إلى إحداث التغيير إلى الأفضل فى حياة الناس، فى أقصر وقت ممكن وبأقل الخسائر الممكنة أو المحتملة. وبالنتيجة تحقق الجماهير أهدافها وتطلعات حراكها، جزئياً أو كلياً، حسب استعدادها الذاتي، والظروف الموضوعية المحيطة بحراكها. ومرجعيتنا فى هذا القول، ليست فقط عبر التاريخ ودروسه الغنية، أو تجارب الشعوب الملهمة العديدة من حولنا فحسب، بل هي بالإضافة إلى ذلك، وفى المقام الأول، تجارب شعبنا وخبراته النضالية الماثلة. وهى بحق جديرة بالوقوف عندها، وحقيقة بالتأمل العميق فى حيويتها وفعاليتها وعبقريتها، و حرى بنا إذن، استصحاب حصاد متراكم خبراته وحصيلة تجاربه الثرة، فى كل معاركنا القادمة كبرت أم صغرت.
وعلى أولويته كواجب وطني متقدم، و أهميته كالتزام أخلاقي رفيع، يلزمنا بالطبع الإقرارّ دون أدنى تردد، بعظم مسئولية التصدي، لأي من شقيه (نشر الوعي أو التنظيم)، دع عنك التصدي لكليهما معا وفى آن. و مرد ذلك هو وعورة طرائق التنفيذ، فى بلد متخلف تقبع الغالبية العظمى، من مواطنيه تحت سطوة الجهل والأمية. و نضيف إلى ذلك جسامة المهام المراد انجازها، والتي تعتبر من أخطر وأعقد وأشق المهام، التى تواجه الأفراد والشعوب فى عملية بناء الوطن. لذلك و نظرا لصعوبة – إن لم نقل إستحالة - انجاز تنفيذ مثل هذه المهام - الواجبات، اعتماداً على الجهود الفردية، وتعويلاً عليها، فإن من ضمن مقاصد، هذا المقال أيضاً، ابتدار الحوار حول (مشروع مقترح)، مؤداه تحفيز العقل الجمعي، ودفعه لبلورة مثل هذه الأهداف الوطنية الكبرى، بجهد جماعي والتواثق على، السعى لصياغتها كمشاريع ضرورية ولازمة، وفق خطط عمل دقيقة ومدروسة، و من ثم، ابتداع وسائل و آليات تنفيذها، فوراً ودون إبطاء.
وبما أن الإلمام بالمفاهيم الدستورية أو القانونية عامة، لم يعد حكراً على القانونيين، فيلزم القول بأن مهمة، نشر الوعي بكافة الحقوق، السياسية والمدنية والديمقراطية، ملقاة على وجه العموم على عاتق، كل من يأنس فى نفسه، أهلية وكفاءة المساهمة فى تنفيذها. أما على وجه الخصوص، فإن على القانونيين مسئولية نشر مفاهيمها الأساسية لمبادئ الحقوق الدستورية، ، و هم مسئولون مع غيرهم ممن ذكرنا آنفاً، بالتضامم والتضامن والانفراد، عن وبسطها، كواجب مهني، بل و وطني وأخلاقي، من الدرجة الأولى، لتحقيق غاية على درجة رفيعة من الأهمية، هي تأهيل ما يعرف بالموارد البشرية، بما يلزم من وعى لمعركة هيكلة و بناء الوطن أجهزة وتشريعاً. وفى تقديري أنه، لا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية، إلا إذا قام كل بما يليه، من أعباء ومهام وواجبات ملزمة، كفرض عين لا كفاية (إذا قام به البعض سقط عن الآخرين). و يجب عليه أنجازه على أحسن وأتم وجه، و بدرجة عالية من الكفاءة والإخلاص والتجرد. وغنى عن القول، بالطبع، أن للقانونيين السهم الأكبر والقدح المعلى، فيما يلى ترقية الوعى العام بهذه الحقوق، و إرشاد الناس إلى سبل اكتسابها ، وصيانتها وحمايتها والحفاظ عليها، و المدافعة عن أصحابها وقطع الطريق على، من يحاول انتهاكها أو جحدها أو الانتقاص منها. بيد أن الأوفق والأكثر مردوداً هو حشد هذه القوى ذات الأهلية والكفاءة، فى مجموعات عمل، لتنفيذ المهمة بجهد جماعي وطني كبير، ذلك أنها لا شك تتطلب، تضافر الجهود الجماعية الضخمة، والمنظمة والمبرمجة بدقة، والعمل بعزم وحزم، مع تسخّير كل الطاقات والإمكانات والقوى له.
و لا شك أيضاً أن، من يلقى على كاهله الواجب الوطنى، والضمير المهنى مثل هذه التبعات العظيمة، من القانونيين يجب عليه فى المقام الأول، أن يرتقى لمرتبة شرف هذه المسئولية، فيعد نفسه إعداداً لائقاً مستوفياً لكافة شروط ومتطلبات تحملها وأدائها، ولن يتأتى له ذلك إلا ببذل جهد ذاتي مقدر لترفيع وترقية التأهيل المعرفي الحقوقي والتمهر فى ممارسته وإتقان أساليبه. و تأتى فى مقدمة عملية الإعداد هذه، بالطبع، مهمة اكتساب و مراكمة القانونى، المزيد من الوعي الحقوقي، و تدقيقه معرفتة بمادته و تعميقها و تطويرها، توطئة إلى نقل ما اكتسبه منها إلى غيره من المتلقين غير المتخصصين. و لا يقف دوره عند هذا الحد بل يتوجب عليه توسيع دائرة، المشتغلين باكتساب الوعي الحقوقي، من صُنَّاع ومُشَكِّلي الرأي العام، من مثقفين وكتاب وصحفيين ومبدعين، فى مختلف ضروب المعرفة و الإبداع، بمدهم بمساهمات فكرية موثقة تبسّط أساسيات هذه الحقوق، تبسيطاً يعينهم على إدراك حقائق و مكونات هذه الحقوق واستيعابها استيعاباً كافياً وافياً. حتى يساهم هؤلاء بدورهم بتوصيل ما اكتسبوه من وعى حقوقي دستوري، إلى المتلقين من جمهور القراء ومشاهدين ومستمعين.....الخ. عبر أدوات الاتصال الخاصة بهم .... وهكذا دواليك، تتدرج المفاهيم والنظريات الفقهية العصية على فهم غير المتخصصين، دون حرج أو مشقة، من المركب المعقد إلى البسيط فالأكثر تبسيطاً..الخ. و يمكن إعمال ميكانيزمات نظام "الكولوتود"، المذكور آنفاً، كآلة مناولة رافعة للتثقيف الحقوقي، فينداح الوعي العام القانوني، بأشكاله المختلفة، و الدستوري تخصيصاً، فيندفع دافاقا صخّاباً وينساب مترقرقاً سلساً، من منابع المختصين وغيرهم، من نابهة المبدعين، من أهل الفكر والرأي، إلى مصبات سائر المتلقين، فيتواتر انتقال الوعي ويتصاعد، بميكانيزيمات يمكن تشبيه خاصيتها، بفعل قانون الانتشار الإزموزى، أى الانتشار من مواقع التراكم الأكثر والتركيز المرتفع، إلى المواقع الأقل تراكما، وأخفض تركيزاً، بمثل هكذا جهد جماعي خالص وجاد..
ومع أن الفكرة مطروحة للحوار، ودعوة الناس كافة لتداول الرأي حولها، بالتقييم والتقويم والتصويب والتطوير، بالإضافة أو الحذف وغيرهما، كيفما إقتضى الحال، إلا أن ذلك لا يمنع البدء فى التنفيذ، مساهمة مع المساهمين بالخوض، فى شأن بعض أهم مفاهيم المبادئ الدستورية، ومنه مثالاً دون حصر:
مبدأ سيادة حكم القانون:
ويشكِّل أحد أهم المبادئ الدستورية، التى تقوم عليها دولة الحريات والحقوق الديمقراطية، فى عالم اليوم. ولتكن الإستهلالة إذن بالتعريف المبسط، لمفهوم مبدأ سيادة حكم القانون، بتوطئة يستحسن أن تبدأ بإعطاء ملامح عامة للمفهوم، وذلك بتوضيح المراد بمدلول صيغته حسب ورودها، فى مؤلفات و أبحاث علماء وفقهاء القانون خاصة، والخطاب أو الفقه القانوني عموماً. وبإيجاز نرجو ألا يكون مخلاً، يمكن القول بأن مفهوم المبدأ نظرياً وعملياً، يتشكّلُ من مطلبين أساسيين:
أولهما: هو خضوع كافة أشخاص القانون (المعرّفون فيما بعد)، للقانون و إذعانهم لأحكام التشريعات والتقنينات السارية و النافذة إذعاناً مطلقاً كمرجعية وحيدة ونهائية لفض الخصومات والمنازعات المختلفة، دون تمييز أو إستثناء فيخضع له، صغيرهم وكبيرهم، غنييهم وفقيرهم، حاكمهم ومحكومهم، دون تمييز أو تفضيل أو إعفاء من الخضوع لها لأي سبب أو مبرر.
. وثانيهما: المساواة التامة بين الخصوم من أشخاص القانون، أمام القانون كتشريع نظرى و القضاء كتجسيد عملى له، بحيث يكونوا سواسية كأسنان المشط أمام القانون والقضاء، و أن يكونوا على سند متين من الندية، والتكافؤ وتعادل المراكز الحقوقية والفرص، لا تفريق أو تمييز بينهم، أيضاً، لأي سبب و تحت أيما كان من المبررات أو الأعذار.
وأشخاص القانون المعنيون هنا هم، الأشخاص الطبيعيون و الاعتباريون سواء بسواء. والشخص الطبيعي هو الفرد العادي، من الناس، يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، يبيع ويشترى ويكسب، ويتعامل بما له، من أهلية التصرف، و ذمة مالية مستقلة، قابلة لاكتساب الحقوق، وملزمة بتحمل الالتزامات. فيسأل ويحاسب فيجزى أو يعاقب بمسئوليته عن أفعاله خيرا كانت أم شراً. أما الشخص الاعتباري فهو، الشخص الذي ينشأ ويتأسس وينظم بموجب القانون، و يكتسب بقوة القانون وفى نظره أيضاً، أهلية وصلاحية الشخص الطبيعي، لا يختلف عنه من حيث مسئوليته القانونية، عن أقواله و أفعاله، ومن حيث خضوعه بموجبها للقانون، إلا بمقدار اختلافه عن الأول بما يمائز هذا الأخير من خصائص طبيعية (ككائن حى يأكل الطعام ويشرب ويتناسل .... إلخ)، وما يترتب علي ذلك من اختلافات ، تقتضى التفريق بينهما الضرورة العملية، فى حدود ضيقة تمليها اختلافاتهما الجزئية الظاهرة، أو قل عدم التشابه أو المماثلة المطلقة بينهما. أما فيما عدا ذلك فحكم الأشخاص الاعتباريين، من حيث أهليتهم ومسئوليتهم القانونيتين، و من حيث إلتزاماتهم بنتائج تصرفاتهم، فهو ذات حكم الأشخاص الطبيعيين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعريف الأشخاص الاعتباريين، يشمل الجماعات والمنظمات والجمعيات والشركات والمؤسسات والهيئات، المنشأة والقائمة لتأدية أو تحقيق أي غرض أو هدف جماعي، سواء كان إجتماعياً أو إقتصادياً أو سياسياً، ويعنى ذلك أنه يشمل أيضاً، الحكومة وأجهزتها ومؤسساتها، المدنية والعسكرية والتجارية ...الخ.
مبدأ الفصل بين السلطات:
و من نافلة القول أن نشير هنا، إلى أن مبدأ سيادة الحكم القانون، شأنه شأن غيره من مبادئ وقواعد القانون الأخرى، لا ينبغي أخذه إجتزاءً، أو قراءته بمعزل عن الأحكام والقاعد القانونية الأخرى، بل يقرأ ويفسّر، فى سياق تكامل و وحدة المبادئ والقواعد الكلية للقانون عامة، ونظريات القانون الدستوري الأساسية خاصة. وفى المقدمة من كل ذلك، يأتي مبدأ الفصل بين سلطات الدولة الثلاث. نظراً لأن هذا المبدأ، يشكل مع مبدأ سيادة حكم القانون، لحمة وسداة، ما يعرف، فى نظام الحكم الديمقراطي، بالحكم المؤسسي، أو حكم دولة المؤسسات. حيث يركن فى إدارة شئون الدولة، وتنظيم مصالح وأحوال مواطنيها، وفى ما ينشأ عن كل ذلك من خلافات ونزاعات وصراعات، بين أشخاص القانون المار ذكرهم من قبل، إلى آلية القانون كمرجعية ناظمة وحاكمة وملزمة للجميع، عبر ميكانيزمات سريان ونفاذ وتطبيق التشريعات، كيفما تقرر أحكامها الحقوق وتلزم بالواجبات وتنظم مختلف العلاقات بين أصحاب تلك الحقوق والواجبات.
ويقصد بالسلطات فى المبدأ السابق، الأجهزة الرئيسية المكونة لجهاز الدولة الحديثة، وهى السلطات الثلاث المعروفة بالتنفيذية والتشريعية والقضائية. وقوام مبدأ الفصل هو استقلال كل منها، فيما يتعلق بتأدية مهامها وصلاحياتها، عن الأخرى استقلالاً تاماً، يحظر تدخل أي منها للانتقاص من سلطات الأخرى، أو للتأثير على صلاحياتها وسلطاتها، أو للحد من ممارستها لتلك السلطات والصلاحيات باستقلال. ولا يقل مبدأ سيادة البرلمان، من حيث، تدعيم و تثبيت وتقوية، دولة سيادة حكم القانون، أهميةً عن مبدأ الفصل عن السلطات. ونعنى بالبرلمان سلطة ممثلي الشعب المنتخبين ديمقراطياً، كما نعنى بسيادة البرلمان، حاكميته ومرجعيته كأساس للحكم، بوصفه تجسيداً لإرادة الشعب، مصدر السلطات، مما يعنى أن سلطته، أي البرلمان، فى النظم الديمقراطية الحقيقية والراسخة، لا تقتصر على مجرد التشريع فحسب، بل تتجاوزه لتمتد، كممثل للإرادة شعبية، إلى مراقبة أداء السلطة التنفيذية "السياسية"، ومراجعة أعمالها ومحاسبتها على الأخطاء والتجاوزات، مساءلة ومحاسبةً تشمل التصويت بسحب الثقة من السلطة التنفيذية، وإقالتها وإعفائها و تجريدها من سلطة الحكم، امتثالاً لأمر الشعب وإرادته، مجسّدة فى ممثليه المنتخبين منه انتخاباً ديمقراطياً وشرعياً.
و لعله من الملائم هنا أيضاً، أن نشير إلى، أن الإعمال الصارم والسديد، لمبدأ سيادة حكم القانون، يشكل شرطاً مركزياً من شروط، تشييد وبناء ركائز الأعمدة الأساسية، لدولة الحريات والديمقراطية والحقوق الأساسية. وقد أثبتت تجارب الشعوب، أن هذه الدولة فقط، هي القادرة على ضمان و تأمين وكفالة الحقوق فى الحريات الأساسية، و الديمقراطية السياسية والاقتصادية و الاجتماعية والثقافية، لكافة مواطنيها على قدم المساواة، بالقسط وبميزان العدل والإنصاف والتكافؤ التام. وفضلاً عن ذلك، يبقى أن نؤكد أن إعمال هذا المبدأ، والمبادئ القانونية الأخرى، ذات الصلة به، و المار ذكرها آنفاً، تشكّل مجتمعة جانباً من جوانب تجليات، قدرات إبداعات الفكر الإنساني الخيّر والمستنير، و اشراقاته الباهرة البهية، المضمّنة فى فلسفة النظم السياسية والقانونية، فى نظريات الحريات الديمقراطية، والراجعة أساساً إلى نتاج كدح الذهن الانسانى الخلاق، فى سياق بحثه الدءوب والحثيث، عن الصيّغ التشريع الدستورية و القانونية، الملائمة لبناء وتأسيس روابط وعلاقات وآشجة لنسيج قماشة التعايش السلمي والتساكن الانسانى الأخوي، المتين والمتماسك ، بين مختلف شرائح و طبقات المجتمع، فى الوطن الواحد، من جهة، وبين مختلف شعوب العالم أجمع، من جهة أخرى.
ونضيف إلى كل ما تقدّم، من باب إيضاح مزايا الديمقراطية ، أن الشعوب الراسخة فى التجربة الديمقراطية، لم تكتف بجعل الانتخاب (الحر) والتمثيل (الحقيقي) للإرادة الشعبية، من حيث المبدأ، العلة الوحيدة لشرعية الحاكم، بل ذهبت أبعد من ذلك، فجعلت من صحة الانتخاب والتمثيل أيضاً سبباً أساسياً لطاعة الحاكم، و شرطاً لإذعانها لأوامره، ورضوخها لدفع الضرائب له. ومفاد هذا فى عرف هذه الشعوب، هو عدم إقرارها بشرعية أي حكومة غير منتخبة، انتخاباً صحيحاً يعتد بسلامته ونزاهته من كل الوجوه، فى نظر الشعب، أى أن من يسبغ الشرعية، على أى حكم، هو الشعب وحده. فيجوز للشعب فى حالة نشوء أى شك فى صحة وسلامة الإنتخاب، حجب الشرعية عن الحاكم، لعدم استيفاء كامل شروط الانتخاب، وعندها من حق الشعب أن يقرر عدم التزامه بولاء الطاعة له و عدم خضوعه لسلطانه، ومن ثم عدم استحقاقه لتحصيل أي ضريبة منه، فيعلن أنه فى حلٍّ عن أى إلتزام ضريبى تجاهه.
وإذا كان ذلك وكانت هذه الديمقراطية تقرر وتكفل كل هذه الحقوق، لشعوب الأرض كافة، فإنها بالفعل لحرية بأن تثير حفيظة الطغاة المستبدين، وقمينة بأن يجحدها الحكام المعتدون على الشرعية، وينكرونها ظاهراً وباطناً. لأن من استقام لهم باطل، الاستيلاء على الحكم اغتصاباً، بقوة سلاح الشعب الذي ما حازوه إلا بمقتضى الائتمان، وبموجب قسم الولاء للشعب، وعهد وميثاق القسم الغليظ، لحمايته وحماية أرضه من الغزاة، لا يمكن أن يرضى ما تقره الديمقراطية من حقوق لسواد الناس.
حقوق الإنسان الأساسية:
المعلوم أن الحريات الديمقراطية، هي قوام الحقوق الأساسية، التى يكفلها الدستور للمواطن، وتعرف بالحقوق الدستورية. وهى إجمالاً دون حصر، حريّة الرأي والمعتقد والتعبير والتنظيم والانتقال والانتخاب والترشيح وحق العمل والحماية والتقاضي ...الخ. وتحمى هذه الحقوق الدستورية وتصان دائماً و أبداً بأحكام دستورية واقية محكمة، تمنع الانتقاص منها أو المساس بها أو جحدها أو حجبها أو تقييدها، بموجب أي نص تشريعي آخر. وذلك بحسبان أن الدستور هو جماع أحكام ومبادئ تشريعية تقرر نظام الحكم وحقوق المحكومين، وتحدد أحكامه علاقة الحكام بالمحكومين وحقوق الطرفين وواجباتهما. ولذا يعرف فقهاء القانون الدستور، بأب القوانين أو بالقانون الأساسى ، (law of the land or organic law) ). ويستتبع الإقرار بمكانة الدستور و أولويته، وجوبا صدور كافة التشريعات وفقاً لمبادئه و أحكامه، وفى تطابق واتساق مع نصوصه، ضرورة أن أي قانون يخالف أو يجاوز أو يعارض أحكامه، يفقد الشرعية ويبطل ولا يترتب عليه أي أثر شرعي. وبما أن الدستور هو التشريع الكافل والضامن للحقوق العامة، ويضع المبادئ العامة للحكم والإدارة وشئونها المختلفة، فإنه من غير المتصور أن ترد فيه كافة التفاصيل التنظيمية الشكلية والإجرائية، لنيل تلك الحقوق الأساسية، و كيفية تحقيقها و مزاولتها وممارستها، كحقوق دستورية منصوص عليها فى متنه. لذا يترك الدستور مهمة بيان تنظيم كيفية ممارسة الحقوق الواردة فيه، و التفاصيل والإجراءات الشكلية الازمة و الضرورية الإتباع، لاستيفاء تلك الحقوق، للقوانين التنظيمية الأخرى إجرائية كانت أم موضوعية.
و ما يجب الإنتباه إليه جيدا هنا هو، مدلول علاقة التبعيّة التامة، بين الأصل "الدستور"، و وظيفته تقرير الحقوق وكفالتها، والفرع "القانون"، و وظيفته تنظيم طرق تنزيلها على أرض الواقع، لأجل ممارستها بواسطة مستحقيها. ونظراً لأن القاعدة هى أن الفرع يتبع الأصل، فلا يجوز من ثم إبتداءً، بل يقع باطلاً بطلاناً مطلقاً، فهم أو تفسّير أو تأويل الفرع بما يخالف أو يناقض الأصل أو يتعارض معه. ويتبع ذلك بطلان وعدم شرعية، مصادرة أى حق مكفول دستوراً، على أي سند من أي قانون من القوانين الناظمة لممارسة ذلك الحق. لأن القول بخلاف ذلك مؤداه هو القول بتبعية الأصل للفرع، وهذا مخالف للقاعدة الشرعية التى تقرر تبعية الفرع للأصل. علاوة على أن التشريعات الناظمة، لممارسة الحق الدستوري، بتسميتها ووصفها شارحة لنفسها، فهي تبين الكيفية الشكلية، التى يمارس بها الحق الدستوري، دون المساس بموضوع الحق وتقريره. فالحقوق التى يكفلها الدستور بنص للمواطن، لا يجوز انتهاكها أو جحدها أو إنكارها أو إبطالها أو مجرد الانتقاص منها بتشريع أخر هو القانون.
ولعله من غرائب وعجائب، دستور السودان الإنتقالى لسنة 2005م، أن سجَّلَ سابقة دستورية غير مألوفة فى تاريخ التدرج الدستورى، فى السودان منذ عهد الإستعمار، أو فى أى مكان آخر فى العالم، فيما نعلم، تمثَّلَتْ فى كفالة حقوق دستورية منصوص عليها فى متنه (الأصل)، مع وجود قوانين (فرعية) كالأمن والصحافة والنقابات والنظام العام والإجراءات الجنائية والجنائى ... إلخ نافذة وسارية، إلى جانبه وحتف أنفه، ليست متعارضة مع الدستور أو مناقضة لأحكامه فحسب، ، بل تلغى و تمحق آثاره القانونية كتشريع و تجعلها والعدم سواء، أو كأن لم يكن، بمصادرتها و إنتزاعها و إهدارها حقوق دستورية جاءت فى متن الدستور.
Amin Mohammed [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.