البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    افتتاح المعرض الصيني بالروصيرص    أنا وعادل إمام    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الموقف الأمريكى من السودان: مسارات التفاعل وطبيعة المخططات .. بقلم: د. أمانى الطويل
نشر في سودانيل يوم 14 - 02 - 2011


المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات *
الموقف الأمريكى من السودان
مسارات التفاعل وطبيعة المخططات
د. أمانى الطويل
خبير الشئون السودانية
مركز الأهرام للدراسات السياسية والأستراتيجية
مقدمة:
تنهض المقاربة الفكرية لهذه لهذه الدارسة على اعتبار أن المخططات والمصالح الخارجية لن تجد مناخا صالحا لتحقيقها إلا في ضوء أزمات ومشكلات محلية داخلية لم يتم التصدي لها بروح قومية شاملة تسعى للصالح الوطني العام, وليس لصالح نخب محدودة, وتستجيب للتحديات تحت مظلة من حكم رشيد يتوافر له شروط التداول, والشفافية أيا ما كانت الأطر السياسية المنظمة لهذه العملية أو مسمياتها .
وفى هذا السياق لا يمكن دراسة وتحليل السياسات الأمريكية إزاء السودان دون التعرض لبيئة التفاعل بين الطرفين خلال العقدين المنصرمين الذين حازت فيهما السودان مكانة متقدمة من الاهتمام والتركيز الأمريكي. ويمكن القول إن عام 1989 قد شهد حدثين هامين شكلا الجذر الأساسي للحظة الراهنة التي نرى فيها تقسيم السودان بين شمال وجنوب، ونتوقع فيها ميلاد دويلات صغيرة في محيطه الجغرافي وتغيير أساسي في البيئة الجيوسياسية المحيطةبه.
أما الحدثين فهما وصول الجبهة القومية الإسلامية إلى السلطة في السودان في أول تجربة من نوعها لحركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية, بينما كان الحدث الآخر سقوط حائط برلين بما يعينه ذلك من انتهاء الحرب الباردة وتحولات النظام الدولي التي سمحت بقيادة الولايات المتحدة للعالم.
كانت الخرطوم تبدأ تجربة قطر القاعدة لمشروع إسلامي أممي بقيادة د. حسن الترابي، وتنتمي أيدلوجياً إلى مفردات عالم يغرب، حيث سلطة الدولة القومية قائمة ولم تنهش منها مفاهيم العولمة بعد, وتنطلق من تكوين، طبقا لتعريفات ومفاهيم العلوم السياسية، هو ما قبل الدولة, لم يكتمل فيه الاندماج الوطني بين بنيه, فلم يتفقوا على قسمات هوية مشتركة، ولا توافقوا على عقد اجتماعي من أي نوع, حيث ورث نظام الإنقاذ الوطني في السودان حرباً أهلية ممتدة لما قبل إعلان الاستقلال الوطني السوداني ذاته عام 1956, ومجاعات مهلكة في دارفور لم يعترف بها أي نظام سياسي سابق عليه, وسعى هو أيضاً إلى إخفائها في كردفان [1], إضافة إلى تصنيفه من جانب البنك الدولي ومنذ سبتمبر عام 1990 كدولة غير مؤهلة للاقتراض وغير متعاونة [2] .
وقد لعب أسلوب وصول الجبهة القومية الإسلامية للحكم في السودان عبر انقلاب عسكري دوراً مركزياً في طبيعة أداءه السياسي خصوصاً في الفترة الأولى من حكمه للتمكين على حساب باقي المكونات السياسية السودانية، فتم حظر الأحزاب السياسية والمجالس المنتخبة للنقابات المهنية, وعاشت العاصمة حظراً للتجوال الليلي لسنوات, والأهم أن تطبيقات الشريعة الإسلامية لم تنفذ إلا على المستضعفين كما تم تعطيلها لضرورات سياسية[3].
وبشكل عام تجاهلت حكومة الإنقاذ عولمة المفاهيم المتعلقة باحترام حقوق الإنسان المتضمنة الاعتراف بالتنوع الإنساني في السياقات العرقية والثقافية والدينية, إضافة لتجاهل الدور المتنامي لدور للميديا بكافة أنواعها ومنظمات المجتمع المدني وطبيعة تأثيرها على صورة الدول والزعماء السياسيين حول العالم.
في المقابل بدأت الولايات المتحدة تتقدم لتدشين قواعد بنائها الإمبراطوري, وتعولم القيم والمعايير السياسية المتعلقة بالحكم الرشيد من تداول للسلطة والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان, وقد تم توظيف هذه القيم الرفيعة لصالح المشروع الأمريكي للهيمنة, كما تم عسكرتها , وهو الأمر الذى أسفر عن رسم خرائط جديدة لمنطقتنا ذات تكاليف باهظة على المستويين الاستراتيجي والإنساني.
في هذا السياق تهدف هذه الدراسة لتكشف نتائج هذا التفاعل بين الولايات المتحدة الأمريكية والسودان من خلال تناول عدد من المحاور من بينها ملامح مشروع الجبهة القومية الإسلامية وطبيعة تفاعله الإقليمي والدولي، والاستراتيجيات الأمريكية العالمية المؤسسة بعد الحادي عشر من سبتمبر، وعملية السلام الأمريكية في السودان بما أنطوت عليه من مناهج للتجزئة والتفتيت.
أولا : النظام السياسي الإسلامي في السودان
هيمنة الترابي 1989- 1999
حصلت الجبهة القومية الإسلامية في السودان على السلطة بموجب انقلاب عسكري تم في يونيو 1989، وتركزت ملامح الخطاب السياسي على مفردات أساسية تتمحور حول مشروع حضاري إسلامي يعيد بناء الإنسان السوداني الصالح. وقد وقع هذا المشروع في عدد من الأخطاء الإستراتيجية:
الأول:حسم هوية السودان في إطار العروبة والإسلام دون إطلاق حوار وطني بهذا الشأن، وهو الأمر الذي قاد إلى قراءة خاطئة لمشكلة الاندماج الوطني في السودان, فتم اعتماد آلية الحسم العسكري ضد المناوئين للوسط النيلي, بدوافع التهميش الاقتصادي والسياسي في جنوب السودان وغربه. وبذلك انخرط في صراعات مسلحة في الجنوب والغرب ساهمت في استنزاف المشروع اقتصادياً, وانخرط في مفاوضات للسلم ذات طابع مراوغ إجمالاً, وفتح بذلك البوابات المناسبة للتدخل الخارجي وتدويل الصراعات الداخلية.
الثاني:استبعاد خيار التداول السلمي للسلطة عبر آلية الانتخابات النزيهة، وكذلك اعتبار كل المكونات السياسية السودانية غير مؤهلة للقيام بمهام ممارسة السلطة, فخرجت الأحزاب السياسة لتكون تحالفاً معارضاً من الخارج (التجمع الديمقراطي) وشهدت السودان هجرة للعقول غير مسبوقة ربما في تاريخه. وذلك كله مع وجود ديناميكيات داخلية للنظام غامضة وملتبسة.
الثالث:غياب الموقف النظري بشأن سياسات ومناهج التنمية الاقتصادية, على نحو مثيل لمعظم حركات الإسلام السياسي, وكنتيجة حتمية انصاع النظام السوداني إلى خطط التكيف الهيكلي والخصخصة للاقتصاد المطروحة من جانب كل من البنك وصندوق النقد الدوليين, حيث تم اتخاذ هذه الخطوة بلا جدول زمني، فأعلن عن هذه الخطة في فبراير 1992[4], وقامت الحكومة ببرنامج خصخصة قاس استفاد منه بشكل أساسي النخب المسيطرة, وانسحبت بذلك من تقديم الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والبني التحتية. من هنا تزايدت الفئات الاجتماعية المهمشة في أنحاء السودان.
الرابع:السعي نحو دور إقليمي يدعم فصائل الإسلام السياسي في دول الجوار عبر آلية المؤتمر القومي الإسلامي, فدعمت الخرطوم حزب الجهاد الإسلامي الإريتري, وحزب الاتحاد الصومالي الذي يطالب إثيوبيا بإقليم الأوجادين, كما تم استضافة زعيم القاعدة أسامة بن لادن أسامة بن لادن في من الفترة 1991- 1996، وتورطت في إيواء عناصر من الجماعة الإسلامية المصرية حاولت تنفيذ محاولة اغتيال الرئيس المصري حسنى مبارك في يونيو 1995.
وقد تفاعلت مجمل العناصر السابقة لتصنع طبيعة موازين القوى الحاكمة للنظام السوداني خلال التسعينيات من القرن المنصرم, وهى التي لم تكن في صالحه بالتأكيد. ولكنه لم يدرك ذلك وقدم نفسه كمناطح للولايات المتحدة الأمريكية بشعارات شعبوية يمكن أن تجذب العامة ولكنها لا تصنع نصرهم ضد مشروعات ما بعد الإمبريالية والتي كانت أدواتها الأساسية مشروع العولمة.
ثانيا : المشروطيات الأمريكية للتعاون مع السودان
كانعكاس لتيار العولمة اتجهت السياسات الغربية عموما والأمريكية خصوصا مع فترة الرئيس الأمريكي كلينتون 1993-2001 إلى وضع شروط لبرامج المساعدات الأمريكية للدول الإفريقية، وتتضمن هذه الشروط مكونات الحكم الرشيد المرتبطة بالتغيير السلمي للسلطة وضمان تداولها عبر انتخابات نزيهة إضافة إلى سياسات التكيف الهيكلي المؤدية إلى الانخراط في السوق العالمي وتحرير السلع والخدمات, وبطبيعة الحال استنكفت هذه المشروطيات أسلوب حصول جبهة الإنقاذ على السلطة في السودان, ويمكن القول إن لحظة التعارف والاكتشاف المباشر بين كل من واشنطن والخرطوم تبلورت في حدثين، الأول: الإقدام على إعدام أحد عمال الإغاثة الأمريكيين عام 1992من العاملين بمناطق معسكرات الجنوبيين، حيث أدين بالتجسس لصالح الحركة الشعبية [5] ، أما الحدث الثاني فهو إقدام الدكتور حسن الترابي على تقديم مشروعه الإسلامي إلى العالم في كل من واشنطن ولندن وكندا في النصف الأول من عام 1992.
وهى الرحلة التي قال فيها بلندن إن الإسلام ضد الدولة القومية، وفى واشنطن أشار إلى أن حرب الخليج الأولى قد استنهضت الرابطة الإسلامية، وبدا بذلك مناوئا للتحالف الدولي المتضمن دولا عربية في الحرب على العراق, وشدد على ضرورة الانجاز الكامل لمشروع العالم الإسلامي معتبرا إياه الطريق الوحيد الى النهضة، وهى معان كررها أمام لجنة أفريقيا بمجلس النواب الأمريكي.
على أن تصنيف المشروع الإسلامي السوداني بالمعطيات التي طرحها الترابي والممارسات الماثلة لنظامه على الأرض ساهمت في بلورة موقف الخارجية الأمريكية من النظام السوداني ووصفه عام 1992[6] بأنه "ممارسة لإرهاب الدولة".
وذلك فى وقت كانت منطقة شرق إفريقيا تحتل وزنا نسبيا أعلى من الاهتمام الأمريكي مقارنة بباقي المناطق الإفريقية التي أخضعتها لمشروطيات الدمقرطة والتكيف الهيكلى، وذلك بتفاعل عاملين:
الأول: الأهمية الإستراتيجية لهذه المنطقة فيما يتعلق بإطلالها على البحر الأحمر الناقل البحري للنفط الخليجي, وطبيعة المهددات الأمنية الناتجة عن انهيار الدولة في الصومال.
الثاني: أن إفريقيا تحتل بؤرة اهتمام الأمريكيين من أصل إفريقي (AFRO AMERICAN) باعتبارها القارة الأم, وذلك لاعتبارات متعلقة بمظالم نظم التمييز العنصري التي عانوا منها في الولايات المتحدة ذاتها, ووجود ما يعتقدون أن مسئوليات أخلاقية بشأن مكافحة التمييز العنصري في إفريقيا وتعزيز فرص التنمية لسكانها.
ويملك هؤلاء جماعات ضغط ومصالح مؤثرة على تفاعلات النظام السياسي الأمريكي، حيث يزيد عمر البعض منها عن القرن الكامل، ونشير هنا على سبيل المثال لا الحصر إلى الجمعية الوطنية للارتقاء بالملونين التي تأسست عام 1909 وتضم في عضويتها حوالي 2مليون مواطن أمريكي، ومنظمة دعم العمل الإفريقي والمؤسسة عام 1953, وجمعية البرلمانيين السود التي تضم أعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الأمريكيين الأفارقة[7].
ومع اتضاح هوية نظام الإنقاذ الإسلامية في مطلع التسعينيات وطبيعة مشروعه الإقليمي المهدد لحلفاء الولايات المتحدة, إضافة إلى فشل محاولة الرئيس الأمريكي جيمى كارتر في ديسمبر 1989 في بدء مفاوضات سلام بين شمال وجنوب السودان لإنهاء الحرب الأهلية, ومع وجود موروث تاريخي [8] من التمييز العنصري مارسه العرب ضد الأفارقة, استطاع جون جارانج زعيم الحركة الشعبية بجنوب السودان توظيف مجمل هذه المعطيات ليضمن دعماً أمريكياً متزايداً لحركته، خصوصاً وأن نظام الإنقاذ قد عقد اتفاقاً يعرف بالناصر عام 1991 مع المتمردين عليه من القبائل الرئيسية المنافسة لقبيلة الدينكا، وهما رياك مشار من النوير ولام أكول من الشلك, حيث وعدت الإنقاذ في اتفاق الناصر بحق تقرير المصير للجنوبيين, ولكنها تراجعت عنه ولم توافق على إقراره في مفاوضات أبوجا التي بدأت تحت رعاية الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا في مايو 1992.
في هذا السياق نجحت الحركة الشعبية في إحداث تطور كيفي في طبيعة العلاقات الأمريكية السودانية حيث تحولت واشنطن إلى لاعب أساسي في التفاعلات الشمالية الجنوبية على صعيد مفاوضات السلام, وأيضا على صعيد التفاعلات بين حكومة الإنقاذ ومعارضيها , ففي أكتوبر عام 1993 عقدت لجنة أفريقيا بالكونجرس الأمريكي مؤتمرا تحت عنوان "السودان الحرب المنسية" وهو المؤتمر الذي ساهم في إنهاء الانشقاقات على جارنج وتوحيد القيادة الجنوبية تحت زعامته، وقد بلور هذا المؤتمر إعلان واشنطن الذي كان أهم نقاطه توسيع الاعتراف بحق تقرير المصير ليس فى منطقة جنوب السودان فقط ولكنها أمتدت إلى ما سمى بباقي المناطق المهمشة فى جبال النوبة والأنقسنا, وهى التي نجح جارانج في ضمها إلى عباءة الحركة الشعبية, في وقت كان يحظى بدعم التجمع الديمقراطي المعارض من التكوينات الحزبية الشمالية.
النتائج المباشرة لهذا التطور كان استحداث آلية إقليمية برعاية دولية لإنهاء الحرب بين الشمال والجنوب، وقد كانت منظمة التنمية ومكافحة التصحر بشرق إفريقيا "إيجاد" هي الآلية العاملة في هذا المجال حتى منتصف التسعينات على نفس أسس ومبادئ إعلان واشنطن المرفوضة من جانب حكومة الرئيس البشير.
وقد لعبت المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس مبارك في وضع السودان على قائمة الدول الراعية للإرهاب من جانب مجلس الأمن الدولي [9], وهى الخطوة التي اتبعها الرئيس كلينتون[10]، بفرض عقوبات اقتصادية على السودان, تضمنت حظرا على تصدير التقنيات إليها، وكذا تجميد أرصدة بلغت 4 ملايين دولار, ومنع استيراد الصمغ العربي الذي يعتمد عليه سوق النفط العالمي بنسبة 70%.
وقد لعبت العزلة الدولية, وتصاعد الضغوط الأمريكية على النظام السوداني بدعم المعارضة السودانية وتمويلها المباشر[11]، وكذلك لعب الإطار الإقليمي المعادي للخرطوم دورا أساسيا في بلورة التوجهات السودانية في الاتجاه شرقا نحو آسيا, وبالفعل نجح هذا الخيار في تحويل السودان إلى دولة منتجة ومصدرة للنفط بحلول عام 1999, وذلك بمساعدة مباشرة من الصين[12].
أحداث سبتمبر وانعكاسها على العلاقات الأمريكية السودانية
لعبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 دورا مركزيا في إعادة هيكلة الاستراتيجيات الأمريكية المرتبطة بالأمن القومي الأمريكي, وقد تبلورت في ثلاث محددات هي الحرب على الإرهاب, وتطوير مستوى الاعتماد الأمريكي على النفط الإفريقي, وتعويق تقدم الصين في إفريقيا بشكل عام وفى السودان على وجه أخص.
وقد صاحب هذا التطور الاستراتيجي عدد من المتغيرات المؤثرة على الساحة الداخلية السودانية, وكذا في سياق النطاق الإقليمي, فسودانياً وقع انقسام في صفوف النخبة الحاكمة في ديسمبر 1999وهو ما يعرف في الأدبيات السودانية بالمفاصلة بين قطبي الحكم الرئيس عمر البشير ود. حسن الترابي، وقد كان لهذه المفاصلة ما بعدها من تغيير في توجهات النظام السوداني وعلاقاته الإقليمية والدولية, وفى سياق مواز برز توازن الضعف بين النظام السوداني ومعارضيه شمالا وجنوبا, فلم يحسم أي من الأطراف الصراع لصالحه, وإقليميا اندلعت الحرب الأثيوبية الإريترية 98-2000وهو ما أنتج إعادة ترتيب وهندسة التحالفات الإقليمية في شرق إفريقيا لصالح النظام السوداني.
وفى ضوء محددات الإستراتيجية الأمريكية الجديدة, تبلورت السياسات الأمريكية إزاء السودان في المحاور الآتية :-
1- الاستفادة من الخبرات السودانية بتنظيم القاعدة
شكلت حوادث الاعتداء على سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية بكل من تنزانيا وكينيا في نهاية التسعينيات إنذاراً للولايات المتحدة الأمريكية لنوع التفاعلات الجارية في شرق إفريقيا ومدى مسئولية النظام السياسي السوداني عن هذه التفاعلات, وأقدمت في هذا السياق على قصف مصنع الشفاء للأدوية بالسودان على اعتبار أنه منتج لأسلحة كيماوية, وهو ما لم يقم أي دليل عليه كما لم تثبت صحته.
وقد ساهمت أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أن تتحول السودان إلى هدف استخباري أمريكي, في ضوء أن المؤتمر القومي الإسلامي بالخرطوم قد لعب خلال التسعينات، من المنظور الأمريكي، دور الرافعة الأساسية لتنظيم القاعدة الذي أعلن عن تدشينه من أفغانستان 1998 بعد مغادرة بن لادن للسودان 1996.
وفى هذا السياق تم عقد اجتماع لسفراء مجموعة الدول الإفريقية في سبتمبر 2001 طالبت فيه الإدارة الأمريكية بتعاون الحكومات في عملية محاربة الإرهاب وقد أعلنت السودان تعاونا في هذا المجال, وبالفعل قدمت خدمات هائلة كشفت بعض ملامحها صحيفة لوس أنجلوس تايم في يونيو 2007 نقلا عن مسئولين في جهاز المخابرات الأمريكي تقول فيه إن مستوى التعاون وصل حد العمليات المشتركة في دول عربية[13]].
2- الإسراع في عملية السلام بين الشمال والجنوب
استقر التقدير الأمريكي على أن الصراعات المسلحة في أفريقيا تشكل بيئة مثالية لفتح مجالات العمل أمام تنظيم القاعدة, وفي هذا السياق تم قبول توصيات من لجنة الحريات الدينية الأمريكية بتعيين مبعوث أمريكي إلى السودان, وهو ما يفسر أن يكون المبعوث الأول جون دانفورث قساً, يقوم بتقديم تقرير عن كيفية حل مشكلة الحرب الأهلية مع التوصية بالضغط على الحكومة [14].
وفى سياق مواز أنجز مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية CSIS بواشنطن دراسة مولها معهد السلام الأمريكي بشأن سلام السودان ساهم فيها بشكل رئيسي المفكر السوداني الجنوبي فرنسيس دينج[15] بواشنطن
ويمكن ملاحظة أن منهج التعامل الأمريكي في السياقين كان يركز على التجزئة والتفتيت وقدم مبادرات مهمة في هذا السياق من تقاسم للثروة والسلطة إلى تجزئة الحلول مابين جنوب السودان والمناطق المتاخمة. ويبدو أن هذا المنهج كان مطلوبا في ذاته للإنجاح المحدد الثالث من الإستراتيجية الأمريكية وهو الحصول على النفط طبقا لتوصية من مجلس الطاقة الأمريكي الذي أوصى في تقرير حديث تحت عنوانAfrican Oil Policy Initiative بأنه من المطلوب رفع مستوى الاستهلاك الأمريكي من النفط ليصل إلى 25% من حجم الإنتاج اليومي بحلول عام 2015 أي ما يساوى 5ملايين برميل يوميا. وتحقيق هذا الهدف يتطلب التعامل مع سلطات محلية مجزأة ومرتهنة إرادتها السياسية لشركات النفط.
ويمكن القول إن التطبيقات الأمريكية لهذه الاستراتيجيات قد تجلت في تطورين هما: اتفاقية نيفاشا للسلام المعقودة بين شمال وجنوب السودان والموقعة في يناير 2005, والسياسات الأمريكية في أزمة دارفور، وهى التطبيقات التي ساهمت في تغيير شكل السودان وأحدثت انقلابا في البيئة الجيوسياسية في منطقة شرق ووسط أفريقيا.
وإذا كانت نيفاشا انجازا للفاعل الرسمي أي الحكومات الأمريكية والأوربية وطرفي الصراع السوداني فإن أزمة دارفور قد استحدثت فاعلا غير رسمي وهو منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في تقديري في تحويل موقف الإدارة الأمريكية من فكرة دعم وحدة السودان حتى نهاية عام 2008 إلى الضغط من أجل استفتاء مفضي إلى انفصال جنوب السودان عن شماله. ومن المتوقع أن تستكمل أدوارها أيضا نحو إقرار تقرير مصير لدارفور مفضي إلى انفصال. وفى السياق التالي نعرض لتفاصيل التطبيقات الأمريكية لمنهج التجزئة.
اتفاقية نيفاشا وطبيعة الدور الأمريكي
لعبت اتفاقيه السلام الشامل المعروفة باتفاقيه نيفاشا دوراً حاكما في تغيير الأطر الدستورية والقانونية للدولة السودانية من حيث الاعتراف بالتنوع السوداني وإدارته طبقا لهذه الاتفاقية وتغيير نمط الحكم لينطوي على حكم ديمقراطي وفتح المجال أمام تغيير حدود الدولة باستفتاء لتقرير المصير للشعب السوداني في الجنوب يعقد عام 2011.
وقد تطلبت هذه الاتفاقية تغيير الدستور القومي للبلاد, واستحداث حكومة جنوب السودان خلال الفترة الانتقالية ليكون لها مطلق السيادة على الولايات الجنوبية من حيثانسحاب القوات المسلحة السودانية واحتواءه ترتيبات متعلقة باقتسام الثروة بين الشمال والجنوب.
وفيما يتعلق بآليات التحول الديمقراطي فإن الاتفاقية حددت أساليب التحول عبر إجراء تعداد سكاني شامل فيما لا يتجاوز السنة الثانية من الفترة الانتقالية وإجراء انتخابات مراقبه دولياً في نهاية السنة الثالثة [16].
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية قد نجحت في إنهاء أطول حرب في إفريقيا إلا أنها قد تجاوزت حقائق على الأرض متعلقة بأن طرفي الاتفاقية لا يمثلان إجمالي المعادلة السياسية في السودان، لا في الشمال وفى الجنوب . كما يؤخذ على هذه الاتفاقية التباساً وغموضاً في مفاصل مهمة منها ما يتعلق بمستقبل منطقه أبييى الغنية بالنفط، وتدشين أٍساليب غير مطروقة في المنطقة كالمشورة الشعبية لحسم مصائر المناطق المتاخمة للجنوب, كما لعب المخطط التاريخي الغربي بأفرقة السودان[17]ووجود داعم للحركة الشعبية في أوساط اليمين الأمريكي على أسس من الانحياز الديني دورا أساسيا في حصول الجنوب على نصيب في سلطه الشمال يتجاوز حجم مطالباته التاريخية في السلطة [18].
وإزاء هذه السلبيات الأساسية في اتفاقيه نيفاشا فقد تم الاعتماد على أمرين الأول: آلية الانتخابات لتمكين القوى السياسية المهمشة من التمثيل في الاتفاقية, وإعادة ترتيب المعادلة السياسية, والثاني اعتماد منهج الدمج الوظيفي بين الشمال والجنوب في محاوله تأسيس وحده طبقا لاختيار طوعي قد يقدم عليه الجنوبيون في استفتاء تقرير المصير عام 2011[19].
وقد شهدت الفترة الانتقالية الممتدة ما بين أعوام 2005-2011 صراعا للإرادات السياسية بين الشمال والجنوب, كما خلقت أزمة دارفور وطبيعة التدخل الدولي فيها استقطابات سياسية جديدة, فتم تجاوز الاتفاقية وأطرها القانونية الممثلة في عقد إحصاء سكاني نزيه ممثل لكافة الأعراق في مناطقها, وإقامة انتخابات نزيهة.
ويمكن القول إن صراع الإرادات السياسية في سياق حكومة الوحدة الوطنية السودانية قد نتج عن عدة عوامل منها أن الأطراف الشمالية قد شعرت بالخديعة من الجانب الأمريكي الذي حث الشماليين على تقديم تنازلات على مائدة المفاوضات الجنوبية مقابل تهدئة أزمة دارفور المندلعة عام 2003.
كما لعبت أزمة دارفور وتداعياتها من استحداث آلية المحكمة الجنائية الدولية في اختلال موازين القوى الداخلية بين طرفي حكومة الوحدة الوطنية وتمتع الجنوبيين بوزن نسبى أعلى، لكن الإشكالية التي برزت هي وجود مصالح جنوبية توافق عليها الجانب الأمريكي في استمرار حزب المؤتمر الوطني رغم ضعفه شريكا خلال الفترة الانتقالية المقررة بست سنوات باعتباره الطرف الموقع على اتفاقية نيفاشا, وأن هذه الاتفاقية لن تكون ملزمة – في ضوء الخبرة التاريخية – لأي من الأطراف الشمالية الأخرى المستبعدة منها.
في هذا السياق تم القبول والاعتراف بإحصاء سكاني, وانتخابات برلمانية ورئاسية لا ترق إلى المعايير الدولية وكلا التطورين لم يعقدا في مواعيدهما المضروبة في الاتفاقية.
وفى الأخير تبقى أهم النتائج لاتفاقية نيفاشا وما أسسته من مناهج التجزئة وترتيبات اقتسام الثروة والسلطة, هي اندلاع مطالبات جهويه وعرقيه في شرق وغرب السودان حيث أن نص الاتفاقية أن تحوز الحركة الشعبية على السلطة المطلقة في الجنوب ثم على 28% من سلطات الحكم في الشمال، فيما يحوز حزب المؤتمر الوطني على نسبه 52% من السلطة في الشمال وتوزع باقي النسبة على باقي القوى في الشمال والجنوب بنسب 14% و6% على التوالي, وطبقا لهذا الترتيب وجدت الأحزاب التاريخية السودانية نفسها ممثلة بنسب لا تتوافق مع آخر انتخابات ديمقراطية جرت في السودان, كما بدت مناطق شرق وغرب السودان غير حائزة على آية مكاسب من هذه الاتفاقية وتم تهميشها بالكامل [20].
وإجمالا يمكن النظر إلى اتفاقية نيفاشا على اعتبار أنها أنهت حربا أهلية ممتدة وخلقت سلاما قد يكون مؤقتا طبقا للتفاعلات الراهنة, ولكنها في المقابل خلقت حالة من التوتر السياسي والاجتماعي في السودان بتجاوزها المعطيات الواقعية في السودان، والإمكانات المتاحة في مصالحة شاملة يمكن أن تنتج أطراً دستورية وقانونية أكثر تماسكا وقدره على الاستمرار طبقا للنماذج المطبقة في العديد من دول العالم الثالث والتي أنجزت بمعزل عن المخططات الأمريكية في التجزئة ونضرب أمثلة بجنوب إفريقيا, والهند, وماليزيا.
التفاعل السوداني الأمريكي في أزمة دارفور
اندلعت أزمة دارفور بتفاعل عدد من العوامل الداخلية منها صراعا على السلطة نشأ في الخرطوم ناتج عن الانقسام الذي جرى في صفوف الإنقاذ السودانية عام 1999فى إطار تنظيمها الأم الجبهة القومية الإسلامية. إضافة التهميش التنموي التاريخي في إقليم دارفور تحت مظلة من اتساع ظاهرة الجفاف وما تخلفه من صراعات على مورد المياه بين نمطي الإنتاج الزراعي والرعوي، وأيضا المعالجات المحلية لهذه الأزمة من جانب حزب المؤتمر الوطني والتي ارتكزت على توسيع حجم العمليات العسكرية ضد التمرد الدارفورى, وإهمال الحلول القومية للأزمة، وهى معاجلة أنتجت تطورين أساسين الأول: أزمة إنسانية ممتدة لحوالي 2 مليون من البشر هجروا قراهم وهربوا إلى معسكرات للاجئين داخل وخارج السودان على مدى السبع سنوات الماضية, إضافة إلى ممارسات خارج القانون من قتل غير متفق على حجمه، وإحراق على مستوى واسع للقرى.
الثاني: تدخل دولي مستند على مبدأ أقرته الأمم المتحدة وهو التدخل لأسباب إنسانية Humanitarian Interventionكان فيه اللاعب الأمريكي أبرز اللاعبين بأدوات رسمية وغير رسمية، ولعل قول الرئيس بيل كلينتون أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1999 "على الدول ألا تعتقد أن سيادتها الوطنية ستمنع المجتمع الدولي من وقف الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان"[21] مؤشر على طبيعة السياسات الأمريكية في هذا السياق.
أ - الفاعل الرسمي الغربي في أزمة دارفور:
شكلت الكارثة الإنسانية في دارفور التي بدأت معالمها في الوضوح مع مطلع 2004 معطيات مناسبة للسياسات الدولية المتجهة نحو اعتماد منهج التدخل لأسباب إنسانية وهى السياسيات التي حظيت بدفع ودعم أمريكي. وكانت محصلة هذا المنهج إصدار مجلس الأمن الدولي 11 قراراً بشأن السودان خلال عشرة أشهر من يونيو 2004 وحتى ديسمبر 2005[22]، بينما حافظت على معدل مرتين سنويا خلال الأعوام التالية حتى نهاية 2009، وهى القرارات التي اعتمدت آليات الضغوط والتلويح بالعقوبات ثم محاكمة قائمة المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وقد اعتمدت هذه القرارات على إحلال القوات الأممية محل قوات الاتحاد الأفريقي عام 2007 بعد أن تم تحجيم قدرات الأفارقة بالامتناع الدولي عن تمويل إتحادهم فلم يتجاوز التمويل الأمريكي له حاجز ال40 مليون دولار في سنتي أزمة دارفور 2004-2005 , كما تقاعس الأوربيون الذين كانوا قد وعدوا بتمويل الاتحاد ب 80 مليون يورو [23].
وقد ساهم في تحقيق هذا النجاح تزامن الحملة الانتخابية للرئيس بوش الابن عام 2004 مع تكوين تحالف Save Darfur، حيث تم توظيف أزمة دارفور كورقة انتخابية في إطار الحملة المستهدفة الحصول على أصوات الأمريكيين من أصل إفريقي، وذلك بإعلان تعهدات بمناصرة الدارفوريين من القارة الأم حتى لو تطلب الأمر الحل العسكري, وهو منهج نجده مستمرا في الحملات الانتخابية الأمريكية اللاحقة، حيث أصدر المرشحون الثلاثة عن الحزبين الجمهوري والديمقراطي( أوباما وماكين وكلينتون) تعهدات بنفس المعنى أثناء حملتهم الانتخابية عام 2008[24].
في هذه الأجواء سقطت التفاهمات بين الخرطوم والأمم المتحدة والتي أبرمت في مطلع يوليو 2004، حيث تعهدت السودان بنزع سلاح ميليشيا الجنجويد التي استخدمتها الحكومة السودانية في مرحلة مبكرة في العمليات العسكرية بدارفور، وتقديم المتورطين من عناصر هذه الميليشيات إلى المحاكمات المحلية خلال 90 يوما، إضافة إلى تسهيل العمل الإغاثي والإنساني.
سقوط هذه التفاهمات فتح الطريق أمام تصاعد الضغوط ضد السودان إلى حد التلويح بورقة التدخل العسكري الخارجي بنهاية يوليو 2004في القرار 1556 لمجلس الأمن والذي تسبب في انقسام المجلس حيث وصل الرافضين لإقرار عقوبات على السودان 7 دول[25]، وكانت المحصلة عدم إقرار العقوبات ولكن التهديد بفرضها في غضون ثلاثين يوما إن لم تقم حكومة السودان بإنهاء "الفظاعات" في إقليم دارفور والوفاء بالتزاماتها في نزع أسلحة ميليشيا الجنجويد واعتقال قادتهم وأقرانهم "الذين قاموا بالتحريض على ارتكاب انتهاكات وتقديمهم إلى العدالة" [26].
وقد تبنى قراري مجلس الأمن 1591 و 1593 الصادران في نهاية مارس 2005 اتجاهات الإدارة الأمريكية والكونجرس في فرض وصاية دولية على السودان بحظر الطيران الحكومي على دارفور إلا بإذن من الأمم المتحدة، وتقديم 51 من المشتبه في قيامهم بالتحريض أو ممارسة جرائم ضد الإنسانية في دارفور للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.[27]
على أن التطور الأهم في قرارات الأمم المتحدة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي هو صدورها بالاعتماد على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والذي يبيح استخدام القوه العسكرية ابتداء من القرار 1564[28].
المحصلة النهائية في هذا التدخل الدولي كان اعتماد آلية وجود قوات للأمم المتحدة تقدر ب26 ألف عنصر طبقا للقرار 1769 مع عدم وجود تسوية سياسية للأزمة التي اتخذت مسارات أكثر تعقيداً.
مع وجود القوات الأممية في دارفور وتغير الإدارة الأمريكية في مطلع 2009 تحسنت البيئة الأمنية في دارفور، وسعت الإدارة الأمريكية إلى حل سياسي للأزمة عبر توظيف منبر الدوحة التفاوضي الذي كانت قد أقرته الجامعة العربية كآلية للدفع نحو حل سياسي، وهى جهود مازالت فاشلة وبلا نتائج، حيث فشل المبعوث الرئاسي الأمريكي في إلحاق الفصائل الدارفورية بالمعادلة السياسية الراهنة عبر ما أطلق عليه أتفاق الدوحة الإطاري الذي تم توقيعه في فبراير 2010[29] .
ب- الفاعل غير الرسمي:
في العقود الثلاثة الأخيرة أخذ مفهوم المجتمع المدني حيزاً مهماً في مجال الأدبيات السياسة، وارتبطت مكانته في الفضاء العام للدولة بالتحولات الديمقراطية فيها، ونشأت علاقة جدلية بين تطور المجتمع المدني وتطور الحالة الديمقراطية، وبين نكوصهما أيضاً، فإذا حققت الدولة شروط ديمقراطيتها من حريات عامة وتداول سلمى للسلطة ونزاهة للعملية الانتخابية، قويت وتجذرت منظمات المجتمع المدني وعظمت أدوراها، والعكس صحيح.
ويخضع تعريف منظمات المجتمع المدني إلى مرجعيات متعددة ثقافية وتاريخية وفكرية وأيدلوجية. ولكنني هنا سأعتمد على تعريف البنك الدولي الذي يرى المجتمع المدني بأنه "تلك المجموعة الكبيرة من المنظمات غير الحكومية والمنظماتالتي لا تهدف إلى الربح، وتمارس نشاطها في الحياة العامة، وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين". ويشير مفهوم منظماتالمجتمع المدني حسب البنك الدولي إلى مجموعة من المنظمات تضم: جمعيات المجتمعات المحلية، المنظمات غير الحكومية، النقابات العمالية، الجمعيات الخيرية، والمؤسسات، وأضيف إليها مفهوم غرامشي للمجتمع المدني الذي يصفه بأنه وجود خاص خارج نطاق الدولة، بالرغم من كونه على علاقة جوهرية بها، فهو يشكل مع الدولة ما يعرف بالمنظومة السياسية في المجتمع بأحزابه ونقاباته .
هذه التشكيلة الواسعة من الفعاليات الاجتماعية استطاعت جماعات المصالح الأمريكية توظيفها على نحو ناجح للغاية ضد السودان, بسبب طبيعة النظام السياسي الأمريكي ذاته الذي يسمح بفاعلية وتأثير هذه الجماعات على الأطر التشريعية والتنفيذية الأمريكية, إضافة لوجود غطاء أممي لمسألة التدخل لأسباب إنسانية. وطبقا للتقديرات الأمريكية ذاتها فإن أقوى جماعات المصالح في واشنطن هي جماعات المصالح اليهودية التي يبدو أنها قد نفذت إستراتيجية إسرائيلية بالأساس معنية بدراسة وتوظيف التكوينات العرقية والانقسامات الدينية في البلدان العربية بهدف توظيفها في عمليات عدم الاستقرار الداخلية [30].
رد الفعل الغربي الأول على هذه الكارثة الإنسانية انطلق من لجنة الضمير بمتحف الهولوكست بواشنطن برئاسة جون فاولر بالتعاون مع عضو اللجنة اليهودية الأمريكية روث مسنغر بشأن وجود إبادة جماعية في دارفور [31]. وهى الجهود التي أسفرت عن عقد اجتماع بجامعة سيتى في نيويورك في 14 يوليو 2004 أسفر عن إنشاء تحالف Save Darfur الذي ينشط فيه حاليا 192منظمة على الصعيدين الأمريكي والعالمي [32].
وطبقا لإعلان نشرته المنظمة عام 2007 للبحث عن مدير جديد لها فإن المنظمة تصف نفسها بالأكبر في دعم دارفور حيث تصل ميزانياتها إلى 14 مليون دولار سنويا وبشبكة إلكترونية تزيد عن مائة مليون شخص متضمنة مليون ناشط.
هذه الأموال مخصصة فقط،طبقا للأهداف المعلنةمن التحالف، في إطار العمل كجماعة ضغط على الحكومة الأمريكية والكونجرس [33] لاتخاذ سياسات تتفق مع تكييف سيف دارفور للصراع في الإقليم وآليات حله.
ويمكن القول إن هذا التحالف قد نجح بالفعل على نحو إيجابي في لفت أنظار العالم إلى ما جرى في دارفور وطبيعة الأزمة الإنسانية الناتجة عن التمرد وردود الفعل الحكومية عليه، ولكن تبقى أن مشكلة هذا التحالف الرئيسية هي عدم إلمامه بظروف الإقليم أو تاريخه من ناحية واعتماده على استراتيجيات مؤسسة على مفاهيم مغلوطة لضمان اتساع التأييد في صفوف الرأي العام العالمي، مثل اعتماد مفهوم الإبادة الجماعية لتعريف ما جرى في دارفور أنه مماثل لما جرى في رواندا عام 1994, والمطالبة بالعدالة الجنائية الدولية ضد المسئولين عن الانتهاكات كآلية مطلقة ووحيدة لحل أزمة دارفور.
ولعل خطأ هذه الاستراتجيات هو المسئول عن دفع الأزمة إلى مستويات من التعقيد على الصعيدين السياسي والإنساني. فعلى المستوى الأول تتواجد في دارفور حاليا أكبر بعثة أممية على مستوى العالم بتكاليف باهظة لكن بدون اتفاق سلام يمكن حمايته على الأرض، وهو الأمر الذي لم يمنع الصراع المسلح في دارفور، بل إنه انتقل من مستوى صراع ثنائي بين الحكومة والفصائل المسلحة إلى صراع بيني بين الفصائل المسلحة ذاتها في حالة جنينية لما يجرى في الصومال حاليا [34]. وهناك شهادات سودانية من أشخاص يمكن وصفهم بالمستقلين يروون قصصاً عن ممارسة البعض من قوات الأمم المتحدة فعل الرشوة لضمان السلامة من جانب الفصائل المتناحرة في دارفور [35].
ويبدو أن الإدارة الأمريكية الراهنة قد أدركت حجم الأزمة التي تسببت فيها الاستراتجيات الخاطئة لجماعات الضغط المتعلقة بدارفور فلم يسفر اعتماد مفهوم الإبادة الجماعية المؤسس على قرار الكونجرس الصادر في يوليو 2004 عن تقدم يذكر على الأوضاع على الأرض في دارفور. من هنا تم الإعلان عن إستراتجية أمريكية إزاء السودان في نوفمبر 2009على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون قالت فيها بقيام الإدارة الأمريكية بمراجعات مهمة إزاء السودان تستبعد الركون إلى آلية الضغوط فقط التي كانت متبعة سابقا، ولكنها أيضا تقدم محفزات لتحسين الأوضاع على الأرض في دارفور، كما تعرضت أيضا للملفات الأخرى العالقة في العلاقات الأمريكية السودانية[36] .
وقد أكد هذه المعاني الجنرال SCOTT GRATIONالمبعوث الأمريكي إلى السودان في اجتماع مغلق مع الفصائل الدارفورية عقد بمعهد السلام بواشنطن في 25-26 يناير 2010 قال فيه إن الإدارة الأمريكية تولى اتفاقية السلام الشامل أولوية مطلقة, وأن مساندة الرأي العام الأمريكي لأزمة دارفور سوف تتحول إلى مساندة دولة جنوب السودان المنتظر ولادتها في يناير 2011، ولعل هذا الموقف من جانب مبعوث الرئيس أوباما إلى السودان كان وراء البيان الذي أصدرته 36 منظمة سودانية في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية تطالب بإقالة المبعوث الرئاسي الأمريكي إلى السودان من منصبه[37].وهو البيان الذي تبناه مشروع Enough أحد المنظمات الأساسية في تحالف Save Darfur.
وطبقا لهذه التوجهات تحول الاهتمام الأمريكي بلاعبيه الرسمي وغير الرسمي نحو جنوب السودان للضغط نحو الالتزام بموعد استفتاء تقرير المصير لجنوب السودان طبقا لاتفاقية نيفاشا، على الرغم من عدم الاتفاق على القضايا العالقة بين الأطراف الشمالية والجنوبية بموجب قانون الاستفتاء, وهى قضايا تقسيم الموارد والأصول والديون وكذا قضايا الحدود وهو نوع من القضايا مثير للقلق وقد يتسبب في تفاعلات مستقبلية سلبية تنطوي على إمكانيات عدم الاستقرار جنوبا وشمالا.
وفى الوقت الذي بات فيه انفصال جنوب السودان خلال أيام شبه محسوما أقدمت الإدارة الأمريكية على خطوتين يعدا من المؤشرات الأساسية على طبيعة الدور الأمريكي إزاء السودان على المستوى المنظور فقد تم تعيين مبعوث أمريكي جديد يكون مجال اختصاصه أزمة دارفور, كما طرح السيناتور جون كيرى رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي قانون سلام واستقرار السودان في أكتوبر 2010[38]، وهو القانون الذي يضع نوع من أنواع الوصاية الأميركية الناعمة على السودان، وفى تطور مواز أنجزت الفصائل الدارفورية نوع من التفاهم أسفر عن اندلاع العمليات المسلحة على نطاق واسع نسبياً في دارفور. بما يعنى أن الساحة مهيأة لفصل جديد للأزمة السودانية.
خاتمة :
إن التناول السوداني الجزئي للأزمات الداخلية والمعالجات الأمنية والعسكرية لمشكلات الهوية والصراع على الموارد, ساهم في تنوع أدوات الفاعل الأمريكي وازدياد قدراته في التأثير على مجريات الأزمة السودانية بما يحقق مصالحه الإستراتجية المناهضة بالضرورة لمصالح السودان ومحيطيه العربي والإفريقي.
كما أن تدويل الأزمة السودانية وغياب الدور الإقليمي العربي والإفريقي، بإرادة ذاتية أحيانا من افتقاد للأدوات, وبتهميش وضغوط أمريكية أحيانا أخرى، يفتح السودان وغيره من دول الجوار العربي والإفريقي على مخاطر التجزئة والتقسيم وهو ما يعنى إجمالا وجود مهددات إستراتجية شاملة في النطاقين العربي والإفريقي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.