معلوم أن الدستور السوداني الانتقالي لعام 2005 يجيز للأفراد والجماعات والأحزاب حق التعبير والتجمع والتظاهر ،ولكن مايجيزه الدستور في بلادنا يلغيه القانون والأوامر المحلية التي تصدرها الحكومة و التصريحات التي يطلقها قادة الحزب الحاكم وليس العكس . والدليل على ذلك ما حدث ويحدث من منع وقمع للتظاهر السلمي الذي يعلن عنه وفق ما يكفله الدستور وما يلحق بالمواطنين من انتهاكات تكشف بوضوح أن الحزب الحاكم والحكومة وأجهزتهما الأمنية قد أصبحوا في حالة من الخوف والحساسية العالية المفرطة تجاه أي مظهر من مظاهر الاحتجاجات الشعبية وذلك في ضوء التطورات التي تحيط بالسودان من ثورات وانتفاضات تنتظم المنطقة ونفحات ديمقراطية حقيقية تهب من مصر وتونس وتظاهرات تعج بها شوارع اليمن والبحرين والجزائر وثوار مسلحون يملأون الطرقات في المدن الليبية . وبالتالي فإن الحكومة تتعامل مع مواطنيها من المتظاهرين انطلاقا من المثل المصري القائل " اللي على راسو بطحة يحسس عليها " لذلك ولكل هذه الأسباب تريد الحكومة تغيير الشعار المرفوع حاليا في العديد من العواصم العربية المنتفضة من أجل الحرية والذي أتى أكله في مصر وتونس وهو "الشعب يريد إسقاط النظام " إلى شعار جديد على الطريقة السودانية تفرضه الحكومة بقواتها الأمنية وهو " النظام يريد إسكات الشعب " وهذا ما يحدث فعلا على الأرض للأسف وهو ما يمكن أن ينقلب على الحكومة وحزبها بعواقب وخيمة بقدر ما بلغت شدة القمع والاعتقال والملاحقة والحجر بحجج واهية لا يقبلها عاقل . ولو كان القمع وفرض سلطة البطش بآليات قوات مكافحة الشغب والتضييق الأمني على المواطنين وحجر آرائهم وإسكات صوتهم يفيد أو ينقذ أحدا لكانت أنقذت الرئيس المخلوع مبارك وقبله المخلوع زين العابدين بن علي بل لأنقذت العقيد القذافي من مصير مجهول . وقد رأينا ويرى العالم ما تعانية العناصر الأمنية الآن في مصر من غضبة الشعب عليها جزاء ما اقترفت يدها في حق المواطنين من طغيان بلغ مداه " لكن الله يمهل ولا يهمل" ، وهي ذات العناصر التي أهانت المواطنين وأزلتهم ،وما يحدث في مقارها الأمنية اليوم بعد ان انقلبت عليها الدائرة بسبب التراكمات والتجاوزات والقمع الذي كان لغة الدولة وعنوانها وسلطانها في ظل ديكتاتورية الحزب الواحد . والغريب أن حكومتنا التي تتخوف من ممارسة الديمقراطية وكفالة الحرية لمواطنيها لا تجد حرجا في ان تقول إنها تحظى " بشرعية انتخابية ديمقراطية" وأنها لا تخاف الانتفاضات والثوارت ضدها إلا أن سلوكها وتعاملها مع قضايا الحريات الأساسية يؤكد على غير ذلك بل يعبر عن خوف وفوبيا شعبية ، عليها أن تتجاوزها بما يحقق تطلعات الناس وحرياتهم . لقد كانت التجربة الديمقراطية الثالثة الماضية في السودان تشكل هاجسا مزعجا لمصر مبارك في تلك الفترة لتباين النظامين حيث أثار هذا التباين مشكلات عديدة وأزمات سياسية صامتة ومعلنة بين البلدين . والآن تنقلب الآية حيث ستشكل التجربة الديمقراطية المرتقبة في مصر وتداعياتها السياسية الايجابية على قضية الحقوق والحريات والممارسة الديمقراطية الحقيقية حرجا وهاجسا وقلقا للحزب الحاكم في السودان وحكومته وهو الهاجس الذي تشغل أروقته القيادية هذه الأيام . بل ستجد الحكومة نفسها أمام امتحان كبير حول قضية الديمقراطية والحريات الأساسية سواء أمام شعبها أو أمام جيرانها الذين تتباهى شعوبهم بنفحات الحرية كما يحدث في مصر ويكون عليها أن تختار صراحة بين الديمقراطية ومسؤوليتها أو الديكتاتورية وعواقبها . كما ستجد أيضا نفسها تحت مجهر العالم الحر الذي بات يعتبر أن حق التعبير وحقوق الإنسان والحريات الأساسية قد أصبحت حقوقا عالمية يدافع عنها العالم الحر وترعاها عيون الإعلام العالمي. ولعل الحكومة وحزبها الحاكم الآن مطالبان أكثر من أي وقت مضى بتحديد موقفهما من قضية الحريات الأساسية واحترام الدستور الذي صاغته بيدها . لأن هناك من يقول الآن لا معنى للحديث عن حكومة موسعة وحوارات مع المعارضة داخل الغرف المغلقة والمشرعة في ظل الممارسات المتناقضة في الشارع تحت حجج واهية . كما أن سلوك الحكومة يؤكد على حجة الرافضين للحوار مع الحكومة الذين يعتبرونه مجرد شراء للوقت وتشتيت لوحدة المعارضة . ورغم كل ما يجري فإن أمام الحكومة فرصة تاريخية لترويض نفسها على الممارسة الديمقراطية والتعامل مع المواطنين بصورة تليق بوعي المواطن السوداني قبل فوات الأوان . خاصة وأن الحزب الحاكم يدعي بأنه مؤيد من قبل 90 بالمائة من الشعب السوداني ولن تخيفه أصوات عشرة في المائة من معارضيه . سيما وان هناك إجماع على أن البدائل الأخرى ليست في مصلحة الوطن في ظل الاحتقانات والحروبات الصغيرة والتداعيات الخطيرة المتوقعة لانفصال جنوب السودان على مناطق التماس الجغرافي والسكاني مع الجنوب . فحتى ولو نجحت قوات الأمن في قمع نساء وشباب ومواطنين عزل في أحد الميادين أو الشوارع فإن ذلك لا يعني بالضرورة إلغاء قناعات الناس إزاء ما يجري من وقائع في البلاد ولا يلغي في نفس الوقت المخاطر الأخرى المحتملة في ظل الواقع الأمني والاقتصادي والسياسي المتردي وتزايد النفوذ الأجنبي وتأثيراته على الواقع اليومي للبلاد والعباد وضغوطه حتى على النظام نفسه على نحو ما نرى كل صباح . ومثلما يقول شباب الثورة في مصر ،أنهم عندما خرجوا كانوا يطالبون فقط بإصلاح النظام تحت شعار "الشعب يريد إصلاح النظام" لكن عندما واجهت الشرطة المتظاهرين بالقمع والرصاص أصبح الشعار "الشعب يريد إسقاط النظام " ومابين إسكات الشعب الذي يريده النظام وإسقاط النظام الذي تريده المعارضة ثمة صيغة ذهبية اكتشفها العالم الحر تكفي لفض الاشتباك وتحقيق التعايش السياسي بين مختلف الأهواء والمصالح السياسية وهي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وشفافية المسلك الغريب والمدهش أن ." جميعها قيم ومبادئ إسلامية لا يريد أن يراها البعض ممن يرهقون الناس بترد يد الشعارات ممن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . Hassan Elhassan [[email protected]]