لم يكن من المتوقع لدى الكثير من متابعي وعارفي الشأن السياسي السوداني داخل السودان وخارجه، أن تجد دعوة مجموعة "شباب من أجل التغيير" السودانية (شرارة) للسودانيين إلى التظاهر والخروج في مسيرات يوم الاثنين الماضي في الخرطوم والمدن السودانية الأخرى والاحتشاد أمام السفارات السودانية في الخارج، من أجل تغيير النظام، والمطالبة برحيل الرئيس السوداني عمر البشير، على غرار الثورات والانتفاضات التي شهدتها بعض الدول العربية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، عبر حملتها الإنترنيتية على "الفيس بوك"، قبولاً لدى الشارع السوداني، حذراً من أجنداتٍ قد تقود إلى حرب أهلية لا يعلم أحد مداها، وتداعيات مخاطرها أقرب إلى صوملة السودان، منها إلى إرساء الحرية وتوسيع مواعين المشاركة السياسية، تمكيناً للديمقراطية في البلاد. فالسودانيون يتابعون باهتمام ملحوظ، التطورات المتسارعة في كل من ليبيا واليمن، خاصة أن أحداث ليبيا الدموية التي أسهمت بقدر كبير في إبطاء تدافع الثورات والانتفاضات العربية وحراكها الذي نجم عن بعضه تغيير نظامين في تونس ومصر، والوعود بإحداث إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي في البعض الآخر، لذلك يحرص السودانيون على عدم الدخول في مجهول يوصلهم إلى ما وصل إليه شباب ليبيا من أحداث دموية، جعلت ثورتهم التي أرادوها شعبية سلمية، أقرب إلى حرب أهلية تداخلت فيها عناصر قبلية وجهوية، فصار صوت المدافع والدبابات وراجمات الصواريخ والطائرات بين الثوار الليبيين والكتائب الأمنية للعقيد معمر القذافي، مما اضطر ثوار ليبيا إلى الاستنجاد بالمنظمات الإقليمية والدولية لحمايتهم من كثافة نيران أسلحة الكتائب الأمنية للعقيد معمر القذافي، فاضطرت مع هذا النداء الإنساني للثوار الليبيين، الجامعة العربية إلى استدعاء مجلس الأمن الدولي للتدخل من أجل حماية المدنيين من النيران الكثيفة، وتهديدات الكتائب الأمنية للعقيد معمر القذافي. كما أن هذه الأحداث الدموية التي ما تزال تشهدها ليبيا، قد أحدثت شرخاً واضحاً في النسيج الوطني الليبي، بفعل التنازع القبلي والجهوي في هذه الأحداث الدموية التي جعلت أحدهم يستصرخ العالم بأن ليبيا تموت، ليبيا تصرخ. والحال بدأ يتشكل على نحو أخطر، بصورة متسارعة في اليمن في اتجاه العنف بعد بضعة أسابيع من ترديد الجماهير في ميدان التغيير بصنعاء وبعض المدن اليمنية "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولكن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حذر أول من أمس (الثلاثاء) من اختلاق الأزمات والفتن التي ستقود إلى حرب أهلية لأن الشعب مسلح، مشيراً إلى أن اندلاع حرب أهلية، حرب دامية، ستمزق البلاد إلى شمال يطالب بعودة الإمامة، وجنوب يدعو إلى الانفصال. وقال الرئيس اليمني علي عبد الله صالح "إن شباب الوطن مضللين، وضحايا أجندات خارجية لتمزيق الوطن"، محذراً من "أن أي انقسام أو انشقاق في المؤسسة العسكرية يقودنا إلى حرب أهلية، يجب وضع ذلك في الاعتبار، كما يجب عليهم أن يحسبوا حساباً دقيقاً لهذا الأمر". وأحسب أن هذه السيناريوهات الخطيرة التي يتابعها السودانيون بحذر وترقب، من خلال أحداث ليبيا الدموية والمحاذير من تداعيات تفاقم الأوضاع في اليمن، جعلتهم يفكرون ملياً قبل الاندفاع في تلبية دعوة مجموعة "شباب من أجل التغيير" السودانية (شرارة)، ناهيك عن الترتيبات الأمنية والشرطية السودانية لاحتواء التحركات الشبابية الاحتجاجية في مهدها، أضف إلى ذلك أن هذه المجموعة الشبابية، وُصمت بأنها حركة يسارية شيوعية، فمن هنا تكمن أسباب إحجام كثير من الأحزاب والقوى السياسية المعارضة عن المشاركة في إنجاح فعالياتها الاحتجاجية، لأنها لن تعطي الشيوعيين فضل السبق في إيقاد شرارة الثورة أو الانتفاضة الشعبية، حتى وإن كان الحزب الشيوعي ضمن قوى الإجماع الوطني، لكن الأحزاب والقوى السياسية المعارضة الأخرى لها حسابات وأجندات تدفعها لعدم تقديم الشيوعيين صفوف التغيير، إن عقدت العزم في مواجهة المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) في مستقبل الأيام. في رأيي الخاص، لا يمكن إنكار أن الأحزاب والقوى السياسية المعارضة ليست على قلب رجل واحد في أمر إسقاط النظام. وأن الكثير من قياديي المعارضة يعلمون تمام العلم أن مرحلة الخروج في مظاهرات وتنظيم مسيرات واعتصامات، وترديد الجماهير لهتافها الأثير لدى أُذن كل معارض "الشعب يريد إسقاط النظام"، لم يحن بعد في السودان، فعليها العمل بتركيز في هذه المرحلة للوصول بالشعب إلى ضرورة الدعوة إلى "الشعب يريد تغيير وإصلاح النظام"، وحتى هذه المرحلة بدأت بعض أصوات من قياديي المؤتمر الوطني الدعوة إليها، بصراحة ووضوح، بل ذهب بعضهم إلى وضع محاور محددة وسيناريوهات معينة، لإحداث هذا التغيير في المستقبل القريب، لنزع فتيل حدوث ثورة أو انتفاضة شعبية على غرار ما حدث في انتفاضة تونس الشعبية وثورة مصر الشعبية، وأحداث ليبيا الدموية، والانتفاضات الشعبية في اليمن والبحرين وعُمان والأردن وسورية والعراق والمغرب والجزائر وموريتانيا. بينما صرح بعض قياديي المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) في أكثر من مناسبة أن الدعوة إلى إحداث التغيير والإصلاح من داخل المؤتمر الوطني، هي من ضرورات استمرار حيوية الحزب الحاكم، واستجابة ضرورية لسنن الحياة في التغيير والإصلاح. وقلل بعضهم من تأثير الثورات والانتفاضات العربية على النظام الحاكم في السودان، وفي هذا الخصوص، قال الفريق أول صلاح عبد الله (قوش) مستشار الرئيس السوداني للشؤون الأمنية في تصريحات صحافية في الأسبوع الماضي، بشأن الثورات والانتفاضات التي شهدتها المنطقة العربية، "إنه يمكن الرجوع إلى أسباب تلك الثورات والانتفاضات العربية إلى حزمة من الأسباب التي قادت إليها، ومن بينها دعاوى القهر والفساد والعلاقات مع الغرب، بجانب النفوذ الإسلامي الموجود في قلب هذه المظاهرات"، مؤكداً "أن الأسباب المذكورة تنتفي في السودان. وأن الحزب الحاكم يستمد قوته من الجماهير"، ساخراً من دعاوى المعارضة المتكررة بالخروج إلى الشارع، وتعبئة الجماهير لإسقاط النظام. وعلى الرغم من أن الأحزاب والقوى السياسية المعارضة ليست موحدة في مطالبتها للمؤتمر الوطني بضرورة إحداث التغيير والإصلاح في النظام الحاكم، بالخيار أو الاضطرار، إذ ان بعضها مستمسك بخيار الحوار الوطني، وفقاً لأجندات وطنية، والبعض الآخر يدعو صراحة إلى إسقاط النظام، بحجية أن المؤتمر الوطني لن يستجيب لدعوات التغيير والإصلاح، مما يعني مواقف متضاربة ومتناقضة وسط قوى المعارضة، من ذلك ما قاله مبارك الفاضل المهدي القيادي في حزب الأمة القومي "إن حوار حزبه مع المؤتمر الوطني وصل إلى نهاياته، دون إحراز تقدم في الأجندة المطروحة، بسبب ما أسماه بتعنت الأخير والتمسك بالسلطة ورفض الحكومة القومية. وقال مبارك الفاضل المهدي في تصريحات صحافية يوم الأحد الماضي "إنه لم تتبق سوى جلسة مباحثات واحدة بين الطرفين لإقرار موت الحوار إكلينيكياً"، مضيفاً "إن المؤتمر الوطني ركل طوق النجاة الذي قدمه له زعيم الحزب الصادق المهدي"، مؤكداً "أن التغيير أصبح مطلوباً بشدة في السودان، لتوافر عوامله، مثل الضائقة المعيشية، وكبت الحريات، ومآلات الانفصال". أما عن خلافات قوى المعارضة، كان مبارك الفاضل المهدي صريحاً في وصف بعض القوى داخل التحالف ب"المستعجلين لإحداث التغيير، دون وضع خطة لازمة لذلك"، حيث كشف أن الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي، المعتقل حالياً لأكثر من شهرين، فك الله تعالى أسره، كان قد اقترح في اجتماع لرؤساء أحزاب وقوى الإجماع الوطني عُقد في ديسمبر الماضي، ضرورة الرجوع إلى مؤسسات كل حزب، للبحث في تفاصيل ما تم الإجماع حوله بشأن إسقاط النظام، ومن ثم العودة لإقرار ما تم داخل تلك المؤسسات الحزبية، وتغليب الخيارات التي أقرتها القواعد. وأضاف مبارك الفاضل المهدي "أعتقد أنها كانت رؤية صائبة من الترابي، بيد أن هنالك الآن تيارات تريد تعميم رؤيتها على الجميع، دون أن تبين ملامح التغيير وأدواتها"، مضيفاً "إن هنالك اتفاق على التعبئة والتظاهر، ولكن لا توجد خطة مشتركة لإدارة الأزمة". ولكن في تطورٍ لافتٍ للاستدلال والتأكيد على الخلافات التي تشهدها قوى المعارضة حالياً، قال ياسر جلال عضو المكتب السياسي في حزب الأمة القومي، رداً على تصريحات مبارك الفاضل المهدي القيادي في الحزب نفسه التي أكد فيها أن الحوار بين حزب الأمة القومي والمؤتمر الوطني مات إكلينيكياً، "إن الحوار لا يخضع لمزاج أشخاص، وإنما حوار مؤسسات، أقره المكتب السياسي للحزب، بعد دراسة متأنية لأوضاع البلاد"، مضيفاً "إن الحوار لا يزال مستمراً، وفيه نقاط اختلاف واتفاق". وكذلك الحال مع الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) بين جماعة بقيادة السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب تجنح إلى الحوار مع المؤتمر الوطني، حول القضايا الوطنية، بينما هناك مجموعة ترى أنه لا فائدة من هذا الحوار، إن لم يتخل المؤتمر الوطني من الهيمنة على السلطة، والوصول إلى كلمة سواء مع المعارضة في ما يتعلق بالحكومة القومية. وهناك أحزاب معارضة مستعصية على دعاة الحوار في المؤتمر الوطني، أبرزها المؤتمر الشعبي، وحجيته في الاستعصام بالبعد عن الحوار مع المؤتمر الوطني أن زعيمه في السجن حبيساً، مع عدد من أعضاء الحزب. وتناقلت الأخبار، وإن كانت آفة الأخبار رواتها، بعض التسريبات عن إطلاق سراح الدكتور حسن عبد الله الترابي، على أن يظل رهين الإقامة الجبرية في منزله بحي المنشية العليا في الخرطوم، ولكن سرعان ما رفض عبد الله حسن أحمد نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي، في لهجة تصعيدية مع النظام "إن استشهاد الترابي أهون وأكرم له ولحزبه، على أن ينتقل إلى منزله (في إقامة جبرية)، تاركاً النضال من أجل الشعب السوداني". وأحسب أن الشيخ الدكتور حسن عبد الله الترابي، لما عُرف عنه في مثل هذه المواقف، لو خُير بين أن يظل في السجن حبيساً أو يرضى بالإقامة الجبرية في منزله، للحول بينه وبين حريته، لسارع إلى الاعتذار عن إطلاق سراحه، لأن السجن أحب إلى نفسه، مما يدعونه إليه، سائلاً الله تعالى أن يصرف عنه كيد الكائدين، ومتأسياً في ذلك، بسيدنا يُوسُف عليه السلام، وتصديقاً لقول الله تعالى: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ..". أخلص إلى أن المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) إن كان مخلصاً في دعوته، وجاداً صادقاً في حواره مع الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، حول القضايا الوطنية كافة، للنأي ببلادنا عن اندلاع أحداث دموية، كما يجري الآن في ليبيا، والبعد بوطننا من انفلاتات أمنية تدفعنا دفعاً إلى حرب أهلية، أحسب أننا أكثر تهيئة لها من غيرنا، لكثرة السلاح المنتشر بين الناس، ولتعدد الولاءات القبلية والجهوية بيننا، العمل سريعاً على إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، وعلى رأسهم الدكتور حسن عبد الله الترابي، ومن ثم التوافق على أجندات وطنية، تكون بمثابة المدخل الصحيح لحوار وطني، لا يستثني أحداً، ولا يقصي حزباً، وصولاً إلى رؤية وطنية متكاملة لحل القضايا الوطنية، ليس من باب الرهبة من الثورات والانتفاضات العربية، ولكن خشية من مخاطر تداعياتها على البلاد، حرباً أهلية، وخوفاً من مآلاتها على العباد، تمزيقاً للوحدة الوطنية التي ستؤدي بلا محالة إلى تشطير الوطن، بعد انفصال الجنوب عن الشمال الذي نعيش تداعياته المتمثلة في اتهامات متبادلة وتهديدات متلاحقة، بل السعي إلى المحافل الدولية والإقليمية للشكوى، والدعوة إلى التدخل. لكل هذه الأسباب مجتمعة يجب علينا أن نحسب حساباً دقيقاً قبل الخوض في غمار المجهول، فظروف الدول العربية غير متشابهة، وليكن المؤتمر الوطني مسؤولاً عن تحقيق التغيير والإصلاح عاجلاً لا آجلاً. فالسودانيون جميعاً بلا أدنى ريب، يرغبون في إحداث التغيير والإصلاح، ولكنهم أكثر حذراً في هذه المرحلة، خوفاً من أحداث التخريب والتدمير. فليعمل الجميع جاهداً من أجل هذا الوطن الجميل. ولنستذكر في هذا الخصوص، قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ". وقول الشاعر العربي هدبة بن الخشرم بن كرز: فإن يك صدر هذا اليوم ولى فإن غداً لناظره لقريب Imam Imam [[email protected]]