[email protected] كيف لكاتب يرى ويسمع ويستشعر احساسه، أن لا يعلّق على ما حدث، وما هو حادث، وما قد يحدث، في ساحات الشرق الأوسط وشمال افريقيا، وهي تخرج من حريق لتدخل في أخر ، أشدّ التهاباً وأعقد صعابا، وإن حلّ بعد الليل البهيم، صباحٌ وإشراق . وما توقفت أقلام عن تحليل ما جرى وما سيجري ، أقلامنا وأقلام الغرباء على السواء ، إذ الطوفان هو الكلمة الصائبة لوصف الحدث . ولقد يتفق أهل اليابان معنا في أن الطبيعة أذاقتهم طوفانا مدمرا ، وها نحن نجرب طوفانا "ناعماً"، لكن تداعياته لا تقلّ زلزلة عما حلّ باليابان . ما دخلت مسجداً لصلاة جمعة مباركة، إلا وسمعت خطباً من لهب ومن شواظ . ولأول مرة لا يتعب المصلون في فهم خطب أئمة المساجد ، بل ولا يجد الوعّاظ أنفسهم ، مشقة في الحديث عن المتاعب المحدقة، وعن الزعامات التقليدية لا تثبت أقدامها في رمالٍ متحركة. ودّع خطباؤنا في المساجد، تلك الخطب المنقولة عن مخطوطات العهد العثماني ودعواتهم للسلطان عبد الحميد بطول بقاء ، وداعاً إلى غير رجعة. سمعنا خطباً جديدة تواكب هذا الطرق المتواتر في أبواب السلاطين وأطرافهم راجفة. كأنّ العلة لم تكن بائنة ، حتى يبصّرنا بها أئمة في مساجد وسيطة ، تجاهد أن تكون مع السلطان إلى نصف المسافة ، وأئمة آخرون أفزعتهم ثورة شباب متوثب طامع في قلب الصورة الراكدة لاستيلاد واقع جديد ، فتراهم في ريبة وتردّد ، لايعجبهم فوران الشباب، فيمالئون السلطان خنوعاً للقديم الماثل، ونفوراً من مخاطر مستقبل غير مأمون. وأشبه بهذه الزمرة ، سياسيون يقفون على مقربة من درجات القيادة ، ولكنهم أعلى قليلاً من آهلي الدرجات الوسيطة، ومن تياراتٍ تواجه السلطة القائمة، بسفور مستفز، وأحياناً بمناصحة خجولة. . ( 2 ) إن ثقافة " طاعة أولي الأمر" في كل حال، هي التي أفضت بقيادات وزعامات عربية إلى مزالق الغطرسة العمياء، ثم هيَ التي أفضت وستفضي بهم إلى زوال حتميّ ، يوم انكشفت عورات أنظمتهم الشمولية الغاشمة، وتهرأتْ أثوابهم من طول مكثٍ غير مبرر ، ومن جلوسٍ كاد أن يصبح خالداً على كراسي الحكم . نسي "أولو الأمر" أمر رعاياهم ، وقد جبلت "الشموليات" و"الديكتاتوريات" أن تكون كالإبل لا ترى التواءاً في أعناقها ، على القول السوداني المأثور. إذ كلما طال الجلوس، تطاول التكبّر، واقتربت الزعامات من توّهم ألوهية كاذبة ، فيما تستقزم شعوبها ، فتراهم محض كائنات دقيقة ،أو هم في نظرها القاصر، بعض فئران وجرذان ، أنسب أن تداس بمياسم تحيلها رماداً ، وكأن زهايمر التاريخ قد طمر ما فعل الرايخ الثالث لليهود، في سنوات الحرب العالمية الثانية في أوروبا. بات الفارق ضئيلاً بين فعل القذافي وفعل هتلر. بقدر طول المكث، يكون التقزّم، صار شعاراً للطغاة. ثمة زعامات جُبلتْ على قهر الشعوب ، وذلك القهر لا يرسخ إلا بعون السدنة المقربين، ممن تسمّيهم أدبيات السياسة : " بطانة السوء" . ثمة قيادات سادت في سوداننا هذا ، دأبت في منعطفات دولتها، على اعتماد المعالجة باللكم وأساليب المصارعة التي نراها في الشاشات، لتأديب من خرج عن الجادة وتجاوز "جرذانيته" . سمعنا في السنوات "المايوية" عن معاملات لرجال كبار، جرى إذلالُهم ومَسْحُ وجوههم بالأرض، وقد كانوا وزراء ووكلاء وزارات، تهتزّ من تحت أقدامهم الأرض. ما أدرك الشموليون أن خصاء الرّوح أقبح من خصاء البدن، ولكنهم آمنوا بل توهّموا، أنّهُ كلما زاد إذلال البطانة المقرّبة ، تضاعف بذلها في إذلال بقية الرعيّة. لا حديث عن حريات وعن حقوق وعن كرامة ، بل هو حديث غطرسة وازدراء بالآخر . ( 3 ) ثم هوَ الإعلام وسطوته، الذي يمهّد في أكثر الأحوال للشموليات أن تتمدد، ولقابضي أرزاق الرعية أن يمعنوا في الطغيان ، ولسلاطين القلم أن يستعمروا بما يكتبون، فيدجّنون ما بقي في الصدور من أنفاس ، ولشاشات أن تبرز بكاميرات جُلبت كما جُبلت لتزوير الصور ، ولإذاعات تجهر بطنين يلذع كل من يجاهر بعداء للسلطان ولأهل السلطان ولبطانة السلطان ولأبناء السلطان ولزبانية السلطان . كنا نرى ذلك الزعيم الفرد وقد تمدّد ملكه لعقود ثلاثة ، يلمع وجهه في الشاشات . لا تجاعيد . لا شيب والشعر مزوّق ملتمع. ثم ما أن يسقط حتى تبين السوءات الحقيقية : عيون مرتخية، وبؤبؤ جاحظ . عنق مسلول، وتجاعيد بلا تزويق. جسد ناحل متهاوٍ. محض مومياء فرعونية قديمة. ما أكذبها من شاشات، وما أشدّ نفاقه من إعلام . صناعة الزيف تنمو وتزدهر مع نمو الطغاة. لا أستثني مؤسسات رسختْ توأمتها مع "الشموليات"، وكيانات كسبت حذقاً ومهنية صاغها تيار السلطان ، غير أنيَ استثني بعض المغلوبين على أمرهم ، بل المغيبين عن هويتهم تغييبا . هم من أهل الدرجات الوسيطة، وليسوا من البطانات المقرّبة . لم أدهش لقسوة ما جاء في مجلة "الغاوون " الشهرية اللبنانية، ونقل عنها الصديق الأستاذ مصطفى عبد العزيز البطل، في مقاله بعنوان: " مصر ثوار ما بعد الثورة"، بتاريخ 13 أبريل الجاري، من رصدٍ للبطانات التي سقطت في مصائد الطغيان وتلوّثت . وما أخطر أثر الإعلام الأسير والأقلام الأجيرة، يستكتبها سلطان جائر، على شعب حائر . أعرف "الغاوون" التي تصدر من بيروت، وصاحبها الأستاذ ماهر شرف الدين، لا يجامل بقلمه مَن زلتْ به قدمه في بلاط سلطان من سلاطين الزيف والمخادعة . قرأتُ مقال الأستاذ أنس بيطار في "الغاوون" عدد أبريل 2011 وعنوانه : "مرتزقة القذافي يستخفون بعقولنا". كبار من كتاب الأدب العربي ونقاده ، استركعهم سلطان دعيّ نصب نفسه، ليس طاغيةً فحسب ، بل كاتباً من زمرة المبدعين . بعض كتابنا الكبار هؤلاء، أصدروا صكوكاً عمّدوا بها بعض سلاطين الشرق الأوسط روائيين وقصاصين . صار صدام حسين روائياً مشهورا ، ومعمر أديباً ألمعياً يكتب القصة القصيرة ، ثم يتهافت من قدمناهم أدباء كبار ، على هذه القصعات النتنة ، يلتقمون منها ما تنزكم منه الأنوف، وما لا تستسيغه الضمائر الحية، بل ولا تعيره عينٌ ملآنة بالتفاتة . فيما تنأى أقلام أجنبية، بينها الروائي الإسباني "خوان غويتيسولو" ، عن الولوغ في عفونات سلاطيننا ، تجد بعض صغار النفوس من أدباء في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- وللأسف حسبناهم كباراً- وقد نهشوا الجيف النتنة نهشاً منظماً، وأوهمونا - ونحن في غيبوبتنا – أن الإبداع يصدر أيضاً عن غطرسة السلاطين، وأن الكتابة لازمة من لوازم "الشموليات"، وفريضة من فرائض الحكم العضوض. ( 4 ) من يستوعب الدّرس الراهن، يدرك أن الحريات هي مفتاح رئيس لانطلاق طاقات الشعوب ، وهي من مطلوبات ولوازم بناء الأمة وتشكيل هويتها . ذلك تعميم قد يصدق في الكثير من الحالات ولكن في حالة السودان ، وأعني سودان ما قبل الانفصال المقبل، تكون الحريات مفاتيحاً للتعرف على التنوّع واختلاف الإثنيات والألسن. غياب الحريات هو الركون إلى التقوقع والإنكفاء ، فلا ينكشف الشرق على الغرب ولا الشمال على الجنوب ، ونتقهقر حينئذٍ، إلى حالة استثنائية في القرن الحادي والعشرين، فنستحضر كيانات طوائف وعشائر وقبائل بائدة، كما يستحضر ساحرٌ أرواحاً عاشت في العصر الحجري . لن تتفاعل الفسيفساء على أطرافها وعناصرها، إن لم نحرّرها من أصفادها بمفاتيح الحرية، حتى وإن كان ثمن امتلاكها دماء تراق ، وبتلاقح الفكر الخلاق، وإنْ مرّ بأنفاق الفوضى الخلاقة . لكأن الشرق الأوسط والشمال الأفريقي، كان على موعد مع انكشاف الدبلوماسية العالمية، وانفضاحها عبر " ويكيليكس"، وايذاناً بتداعي زهر الدومينو ، قطعة تلو قطعة، حتى آخر قطعة في الصف الطويل . ولك عزيزي القاريء أن تستبدل كلمات الجملة السابقة، فتكون النقاط على أحرفها متربعة: سلطاناً تلو سلطان، حتى آخر سلطانٍ في الصف الطويل. لقد أسقطت ثورة الاتصالات والمعلوماتية ورقة التوت التي كانت تتقاصف بها أنظمة عمهت في انعزالها ومحاصرة شعوبها ، فيما استصغرت تلك الثورة عالمنا إلى عالم متماسك يشدّ بعضه بعضا، ولن يفلح منعزل أو عازل في النأى عن موجبات الوجود الفاعل في هذا العالم الجديد. نهاية التاريخ ؟ من قال ؟ بل هي بداية تاريخ من التآلف بين الحضارات ، لا تصارعها ، وابتدارات لحوار الايجابي من أجل عالم متماسك، قادر على تجاوز تحديات ماثلة تتهدده ، أقلها هجمات الطبيعة الكاسرة وطوفاناتها المهولة وزلازلها المدمرة ، فهل من حاجة لشموليات تزيد اضطراب عالمنا اضطرابا ، وتزيد رعايا بلداننا شقاءاً على شقاء..؟
( 5 ) كتب المفكر الراحل والمثير للجدل- حتى بعد رحيله- عبد الله القصيمي( 1903- 1995): (( إن الطغاة والزعماء المجانين الذين تطير ألبابهم دائماً وراء الأمجاد الحمراء، لا بد أن يخلو مكانهم من هذه الدنيا في يوم قريب أو بعيد، لأنهم لن يجدوا العبيد أو الجنود المجانين. ولأن النظم والظروف والأوضاع السخيفة التي يتلصصون من خلالها إلى غباء الجماهير وخديعتهم، سوف تزول وتنهدم. وهل هذا القول إلا أمنية من الأماني السعيدة...؟ )) بقيَ أن تعرف يا قاريء العزيز، أن القصيمي هو صاحب كتاب صار عنوانه ، عنواناً لمرحلة اجتازتها "العروبة" بعد معركة العبور عام 1973: "العرب ظاهرة صوتية". طبع كتابه في باريس عام 1977، ولكن العقود الثلاثة التي تلت، أكدت مصداقية الظاهرة الصوتية . ولكًن يطلّ السؤال ، فيما نرى قطع الدومينو تتساقط تباعاً: هل انتهت الظاهرة الصوتية ، وهل استعادت أمة ضائعة كامل وعيها الآن . . ؟ الخرطوم - 16 أبريل 2011