كانت لزيارة الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء المصري إلى السودان، وفي معيته ثمانية وزراء، كأول زيارة خارجية له، أبعاد كثيرة على تشكيل خارطة علاقات البلدين الشقيقين، حاضراً ومستقبلاً، خاصةً أن هذه العلاقات شهدت توتراتٍ عديدةٍ، وتميزت بكثرة التكتيكات في عهد الرئيس المصري المُتنحي محمد حسني مبارك، حيث اتسمت تلكم العلاقات بين البلدين الشقيقين بتعالٍ مصري، وتباعدٍ سوداني، وفقدان للثقة بين الحكومتين، إذ غلبت على مسار علاقة النظام المصري السابق بالحكومة السودانية طوال ما يزيد عن العقد ونصف العقد تداعيات محاولة اغتيال الرئيس المصري في يونيو 1995 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أثناء وصوله لحضور مؤتمر القمة الأفريقي، وشكلت إطارها، مما أفقد هذه العلاقات المصرية السودانية قدراً ملحوظاً من خصوصيتها، وانتفاء حميميتها، وغاب عنها البعد الإستراتيجي، بل عمل النظام المصري جاهداً، بعيداً عن إستراتيجية العمق الأمني الوطني والقومي، بتقديم العون المادي والمعنوي للحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق، بل السعي الحثيث إلى تقديمه لبعض البلدان العربية، ومن ثم تقديم المساعدات المادية والمعنوية للتجمع الوطني المعارض، في إطار المكايدة السياسية للنظام السوداني، والعمل على عدم استقراره والإسراع بإسقاطه، فكان احتلال مثلث حلايب ضمن هذه المكايدات السياسية. ولم يكن النظام السوداني آنذاك يتقبل هذه المكايدات السياسية، بالإقتداء بهدي سيدنا عيسى عليه السلام الذي كان يوصي أحد أتباعه ذات يوم، فقال له: "إذا صفعك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر" أو بالصبر والاصطبار عليها، أو تنزيلاً لقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" أو عملاً بقوله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"، بل سعى جاهداً إلى الرد على هذه المكايدات السياسية للنظام المصري السابق بمكايداتٍ أُخرٍ، وعمداً لا نفصلها لأن الشيطان في التفاصيل. فلا غرو أن يحرص الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء المصري على أن تكون أول زيارة خارجية له منذ توليه مهام منصبه إلى السودان، تأكيداً على خصوصية علاقات البلدين، وتنزيلاً لإستراتيجية جديدة تحكم معالم علاقات البلدين في الحاضر والمستقبل، مستصحبين في ذلك العمق الأمني الوطني والقومي لكلا البلدين الشقيقين. وعلى الرغم من أن الزيارة حفلت بأسباب إعادة الثقة بين حكومتيّ البلدين الشقيقين، لكن المعلوم أن طموحات الشعبين أكبر من إعادة الثقة، فهم يُريدون الوصول بهذه العلاقات إلى ترجمة حقيقية لمعاني تبادل المنافع، وضرورة تكامل المصالح، لأن ذلك سيحقق الأهداف المرجوة من تمتين العلاقات بين البلدين الشقيقين، وسيكون الضمانة الأكيدة لاستمرارية العلاقات وفائدتها، والطريق الصحيح إلى تنميتها وازدهارها، وبالتالي سيجني الشعبان الشقيقان في وادي النيل ثمار هذه العلاقات المتميزة، اقتصاداً مزدهراً، وأمناً مستقراً. وأحسب أنّه من الضروري لقيادات البلدين الشقيقين أن ينتقلوا بعلاقات البلدين من مرحلة أحاديث المجاملات إلى طور تبادل المنافع لخير البلدين والشعبين من خلال مراعاة أهمية تطوير هذه العلاقات، كسباً للفوائد، ورعاية للبعد الأمني الوطني لكلا البلدين اللذين يوثق علاقاتهما التاريخية النيل الذي هو شريان الحياة بالنسبة لكليهما، فإن كانت مصر هبة النيل، كما يقول المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودتس، فإن مسار هذا النيل العظيم يُقبل إلى مصر من السودان حاملاً في طياته أسباب الحياة ومباهج الدنيا، وفي ذلك يقول أمير الشعراء أحمد بيك شوقي: يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجى لواديك أم نأسى لوادينا ماذا تقص علينا غير أن يداً قصت جناحك جالت في حواشينا إلى أن يقول: والنيل يقبل كالدنيا إذا احتفلت لو كان فيها وفاء للمصافينا والسعد لو دام والنعمى لو اطردت والسيل لو عف والمقدار لو دينا ألقى على الأرض حتى ردها ذهبا ماء لمسنا به الإكسير أو طينا أعداه من يمنه التابوت وارتسمت على جوانبه الأنوار من سينا فالنيل يشق أراضي السودان جنوباً وشرقاً ووسطاً وشمالاً يهبها الحياة، بمثل ما يهب مصر، وأكثر، وكما تغنت مصر بهذا النيل العظيم، تغنى السودان به أيضاً، فها هو شاعرنا السوداني التجاني يوسف بشير يصدح شعراً عذباً في النيل، ويغني عاشقاً فرحاً طرباً، في محرابه قائلاً: أَنتَ يا نَيل يا سَليل الفَراديس نَبيل مُوَفق في مَسابك ملء أَوفاضك الجَلال فَمَرحى بِالجَلال المَفيض مِن أَنسابك حَضَنتك الأَملاك في جَنة الخُلد وَرقت عَلى وَضيء عبابك وَأَمدت عَلَيك أَجنِحَة خَضراء وَأَضفَت ثِيابَها في رِحابك أخلص إلى أن السودان حرص أيما حرص على اتباع إستراتيجية جديدة ونهج جديد في علاقاته مع مصر بعد ثورة 25 يناير الشعبية في مزاوجة بين مفاهيم دبلوماسية مستمدة من مقولة سيدنا معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- "لو أن بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها، إن أرخوها شددتها، وإن شدوها أرخيتها"، ومن تعريف أرنست ساتو للدبلوماسية "إن الدبلوماسية هي استعمال الذكاء والكياسة في إدارة العلاقات الرسمية بين حكومات الدول المستقلة"، إضافة إلى ما ذهب إليه البروفسور الأميركي جوزيف ناي المدير السابق لمدرسة كينيدي السياسية فى جامعة هارفارد الأميركية من أن الدبلوماسية الناعمة ترتكز على الانجذاب(Attraction) وليس بدفع الأموال للآخرين لإنجاز مهام محددة أوكلت لهم، وهي رؤية نقيض للسياسة أو الدبلوماسية الخشنة ونظام استخدام سياسة العصا والجذرة(Stick and Carrot) وأصل البروفسور ناي في شرحه للدبلوماسية الناعمة بأنها المقدرة على تغير قناعات الآخرين من حولك. فالسودان لا يريد أن يتدخل في الشأن الداخلي لمصر، ولكن يريد أن يُعلن موقفه من بعض المواقف المصرية التي مآلاتها لا تقتصر على مصر، للبحث عن قناعات مشتركة، لا فرض قناعاتٍ معينةٍ. ولتأكيد هذه الإستراتيجية الجديدة في العلاقات السودانية المصرية، حرص الرئيس السوداني عمر البشير على أن يكون أول رئيس عربي يزور مصر بعد ثورة 25 يناير، ويلتقي بقياداتها ورموز الأحزاب والقوى السياسية المصرية، وردت مصر رداً جميلاً على تلك البادرة الطيبة، بزيارة الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء المصري إلى السودان في أول زيارة خارجية له. من هنا حرصت الحكومة السودانية على اتباع نهج المكاشفة والوضوح في توضيح مواقفها لمصر في بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك، على الرغم من أن البعض سيرى في ذلك عدم دبلوماسية، بحجة أن المكاشفة والوضوح، في رأيهم، قد تسبب قدراً من التوترات غير المرغوب فيها في علاقات البلدين الشقيقين، لذلك ما أن أعلنت مصر ترشح الدكتور مصطفى الفقي لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، سارعت الحكومة السودانية إلى إبلاغ مصر تحفظها تجاه الدكتور مصطفى الفقي من خلال تكليف علي أحمد كرتي وزير الخارجية السوداني للفريق عبد الرحمن سر الختم سفير السودان في القاهرة، بنقل وجهة نظر السودان تجاه ترشح الدكتور مصطفى الفقي للدكتور نبيل العربي وزير الخارجية المصري تحفظها عليه، لأسباب يعرفها الدكتور مصطفى الفقي نفسه، حسب تعبير الفريق عبد الرحمن سر الختم، مع التأكيد على أن موقف الحكومة السودانية تجاه ترشح الدكتور مصطفى الفقي، ليست له علاقة بمصر، وأن الاعتراض عليه شخصي، ويأتي نتيجة لمواقف الدكتور مصطفى الفقي من السودان وحكومته إبان عهد النظام المصري السابق. وقال سفير السودان في القاهرة في تصريحات صحافية "نقلت لوزير الخارجية المصري رسمياً اعتراضنا الشخصي على الفقي لمواقفه المعادية للسودان والتي تبناها لعدة سنوات"، مضيفاً "أن الأمر وجد تفهماً من وزير الخارجية المصري". ولم يكن الدكتور مصطفى الفقي يُخفي عداءه السافر تجاه النظام السوداني، فقد أعلن ذلك في مواقف عديدة عند تطرقه إلى قضايا الشأن السوداني في تصريحاته ومقابلاته الصحافية والإذاعية والتلفزيونية، وكذلك في المؤتمرات والندوات التي يشارك فيها، إضافة إلى مقالاته في الصحف. ففي أحد مقالاته التي نشرتها صحيفة "المصري اليوم" في عددها الصادر بتاريخ 3 ديسمبر 2010، هاجم النظام السوداني هجوماً عنيفاً، حيث كتب في مقاله ذاك ما يلي: "السودان منكوب بأسوأ نظام في تاريخه منذ الاستقلال. هذا النظام باع جزءاً من السودان مقابل توجه سياسي عابر ذي طابعٍ دني". ووصفت الحكومة السودانية وقتذاك تصريحات الدكتور مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشورى المصري في الشأن السوداني بغير المسؤولة. ولم يكن مستغرباً أن تبلغ الخرطومالقاهرة اعتراضها على ترشح الدكتور مصطفى الفقي لمنصب الأمين العام للجامعة العربية رسمياً، لأن الحكومة السودانية تخشى من أن يستمر الدكتور مصطفى الفقي في عدائه للخرطوم، ولن يتوقف عن مهاجمة السودان، حكومةً وشعباً، إذ إنه لم يبدِ أي نوعٍ من الاحترام للسودان وحكومته، طوال فترة عضويته في مجلسي الشعب والشورى إبان النظام المصري السابق. ولم يخفِ السودان أيضاً أن دعمه سوف يتّجه، إذا لم تغيّر مصر مرشحها الحالي، إلى دعم عبد الرحمن العطية مرشح قطر لمنصب الأمين العام للجامعة العربية والأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي. والسودان ليس وحده في الاعتراض على ترشح الدكتور مصطفى الفقي، بل هناك اعتراضات من جهات أخرى عليه، حتى داخل مصر، هناك قوى سياسية على رأسها ائتلاف شباب الثورة ترفض ترشح الدكتور مصطفى الفقي لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، خلفاً لعمرو موسى الذي سيترشح للانتخابات الرئاسية في مصر. ويتطابق موقف السودان الرافض لترشح الدكتور مصطفى الفقي مع مواقف شباب الثورة، حيث أكد وفد ائتلاف ثورة 25 يناير المصرية الذي زار السودان أخيراً، واجتمع مع عدد من القيادات والمسؤولين في السودان، أن موقف السودان من ترشح الدكتور مصطفى الفقي يتطابق مع توجهات قيادات الثورة الذين يرون أن الفقي لا يمثل نبض الثورة وتوجهاتها، وأنه متورط في عملية التزوير في دائرته الانتخابية التي فاز فيها بالتزوير بصورة فاضحة، على منافسه الإخواني الدكتور محمد جمال حشمت في انتخابات مجلس الشعب المصري (البرلمان) في عام 2005، بالإضافة إلى أنه يُعد جزءاً من النظام البائد، مهما أدعى غير ذلك. وترى بعض القوى السياسية المصرية المعترضة على ترشح الدكتور مصطفى الفقي، أنه كان ضمن القائمة المرشحة لهذا المنصب من النظام المصري السابق قبل أن يستقر رأيه على ترشح الدكتور مفيد شهاب، فلذلك لا يستقيم عقلاً أن ترشح مصر بعد الثورة الفقي لهذا المنصب، ومن الضروري إعادة النظر في هذا الأمر، والبحث عن مرشح بديل يمثل نبض الثورة وتوجهاتها المصرية والقومية، حتى يحظى بالإجماع العربي. وأحسب أن السودان سيقف مع أي مرشح مصري بديل للدكتور مصطفى الفقي، وذلك في إطار قناعة راسخة بأن السودان سيدعم توجهات مصر بعد الثورة. وكان حديثي مع الأخ الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مستشار رئيس الجمهورية عند زيارته إلى بريطانيا أخيراً، حول إمكانية ترشيحه من قبل الحكومة السودانية لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، فرده لي كان أنه من الضروري أن يقف السودان مع مصر، إذا قدمت مصر مرشحاً مقبولاً. وأن السودان سيعمل جاهداً، إذا حدث ذلك، على أن يحظى المرشح المصري على الإجماع العربي، لأننا لا نريد أن يذهب العُرف السائد الآن من تسنم مصر لمنصب الأمين العام للجامعة العربية، باعتبارها دولة المقر، بعد الثورة مباشرةً، ولكن بعد حين يمكن أن تتم مناقشة هذا الأمر، والوصول فيه إلى توافقٍ عربي جامع. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ". وقول الشاعر السوداني تاج السر الحسن: مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ يا رياضاً عذبة النبع وريقة .. يا حقيقة مصر يا أم جمال .. أم صابرْ ملء روحي أنت يا أخت بلادي سوف نجتث من الوادي الأعادي Imam Imam [[email protected]]