حكى لى صديق انه كان فى مجلس أبان حكم نميرى به عدد من مشاهير مجتمع ذلك العهد. صادف انعقاد ذلك المجلس ضيق شديد يمر به الشعب السودانى تمثل ذلك فى ندرة السلع، قطوعات المياه و الكهرباء، انعدام الدواء......الخ بالطبع انصب معظم النقاش حول تلك الازمات، كما درج السودانيون عادة على تناول السياسة عند "اللمة". قال أحد الجالسين وقد كان صامتا معظم الوقت و هو أكاديميا مشهورا، عالم باللغة و دهاليزها (عليكم بالصبر كما فعلت أم حبين). سأل الجميع بدهشة (ما هى أم حبين ؟) اجاب (هى الحرباءة أو بالدارجى السودانى "الصبرة" ) تساءلوا من جديد و ماذا حدث للصبرة ؟ رد ساخرا (انها صبرت حتى ماتت من الصبر)!! تذكرت هذه القصة و أنا أقرأ حديث وزير الطاقة و التعدين مبررا قطوعات المياه و الكهرباء شبه الدائمة هذه الايام فى العاصمة المثلثة و ما ترتب عليها من اغلاق للمدارس الصيفية، المصانع، انعدام المياه حتى أصبح سعر برميل المياه 15 ألف جنيه أى ما يعادل 7 دولارات. قال الوزير أن الانتاج المتاح من الكهرباء 800 ميغاواط، المطلوب توفره 1100 ميغاواط و العجز الموجود هو 300 ميغاواط. ذكر، ذلك العجز يستوجب بناء سدود جديدة و انشاء محطات حرارية ثم أضاف على الشعب الصبر حتى تحل هذه المسألة. الوزير قال ذلك الكلام دون أن يرمش له جفن و بأعين ناصعة البياض. حديث الوزير بذلك الشكل و الطريقة له تفسيرين لا ثالث لهما: الأول، أن الشعب السودانى عليه أن يسمع، يقبل و ينفذ دون مماحكة "و لا كتر خيرو" ! الثانى، اذا الشعب السودانى لم يعجبه هذا الكلام فله مطلق الحرية فى أن يفعل ما يشاء أو بالواضح "أن يشرب من ماء البحر" و هذا للأسف ما يقوم به بعض المواطنين الآن! أتسأل و أنا أتمعن فى حديث الوزير المستفز هل هناك بجاحة، استبداد و تسلط أكثر من ذلك؟! هذا النظام ظل يردد منذ استيلاءه على السلطة بانقلاب، انه جاء لانقاذ الشعب السودانى لما أحاق به من ظلم طيلة السنوات بعد استقلاله. الانقاذ على مدى سنوات وهى متحكرة فى السلطة استهلكت كل الشعارات حتى اصبحت ممجوجة لا طعم لها ابتداءا من نأكل مما نزرع، السودان سلة غذاء العالم.........الخ انتهى الأمر بعد عشرين عاما من الحكم المتواصل أن أصبح الشعب السودانى أكثر فقرا، جوعا، مرضا، جهلا و تقوقعا. أصبح الشعب السودانى مقسما لثلاث فئات: - الفئة الأولى تعيش على الاغاثات من دول "الكفر و الاستكبار" و فى معسكرات النازحين. - الفئة الثانية تعيش على الكفاف أو فى حد الفقر. - الفئة الثالثة و هى لا تزيد عن 2% من الشعب السودانى تستأثر بكل شئ الشئ المدهش و المحزن أن السودان غنى بكل الموارد و لكن عائدها يذهب للفئة الثالثة، حاشياتهم و المحيطين بهم و الاجهزة التى تقوم على حمايتهم. أن كل الحديث لتبرير قطوعات الكهرباء و المياه غير مقبول و مكرر وفى نهاية الأمر "ضحكا بالدقون و على الدقون"! ...ذلك - لأن النظام فى اعلامه ملأ الارض ضجيجا عن اعجازات سد مروى و لمسته السحرية فى القضاء على قطوعات المياه و الكهرباء.أقام احتفالا ضخما بافتتاحه بثته كل قنوات السودان الفضائية ذلك لاظهار التنمية و لاغاظة دول الاستكبار التى لا تريد للسودان تقدما، بالطبع من ضمن تلك الدول تدخل المحكمة الجنائية الدولية! الوزير فى رده عن عدم فعالية سد مروى ذكر (كهرباء السد دخلت الشبكة فى 2 مارس و خرجت من الشبكة فى ابريل) ( بكلام المكانيكية السد فى مرحلة تسليك ) !.............أن "غايتو أول مرة أسمع بالسدود البسلكوها دى". أقرا حوار الصحفى ضياء الدين البلال مع الوزير الذى نشر فى الاعلام. الوزير لم يذكر سببا واحدا و محددا عن عدم كفاءة و فعالية السد و عجزه عن سد النقص! - لأن هنالك كم هائل من التجارب المتراكمة على مدى سنوات مع التعامل مع قطوعات المياه و الكهرباء كان يمكن الرجوع اليها و الاستفادة منها. - لأن الصيف لم يغير موعده و لم يأتى فى شهر ديسمبر! - لأن كل المسألة قابلة للحل بقليل من الاهتمام، ترتيب الأولويات، التنظيم و الاقتناع بأن المواطن السودانى لا يستطيع شراء المولدات المستوردة من "كوستا ريكا" و غيرها! درجات الحرارة فى هذا الصيف تتراوح بين ال48 و ال50 درجة، بكلمات أكثر توصيفا أن المواطن الآن يعيش فى فرن آلي. هنالك معلومة يعرفها الجميع وهى أن ارتفاع الحرارة يتسبب فى ظهور أمراض متعددة، أشهرها مرض الالتهاب السحائى. هنالك امراض أصبحت مستوطنة تنتعش فى هذا الفصل من السنة مثل الملاريا، الدسنتاريا، التايفويد، اليرقان و الكوليرا. هذه الامراض كالعادة تأتى فى شكل وباء صعب التحكم فى انتشاره و نتائجه الكارثية. - فصل الصيف، رغم الاحتفاء به عند معظم شعوب الارض الا أنه أيضا موسم لانفجار الأمراض و قد شاهدنا فى السنين الماضية عدد منها. كان هنالك مرض "جنون البقر"، "انفلونزا الطيور" و قد عانى منهما السودان.الآن يهدد العالم مرض "انفلونزا الخنازير" أو كما أطلقت عليه منظمة الصحة العالمية آى/ اتش 1 ان 1 . كل دول العالم أعلنت درجات قصوى من الاستعداد و السودان "سادى دي بطينه و الاخرى بعجينة" ! - انعدام أو انقطاع المياه و الكهرباء فى مثل هذه الظروف التى قمنا بسردها يعرض حياة المواطن للخطر أو بلغة أهل النظام الحاكم الدفع به للتهلكة. - فى اعتقادى أن الاكاديمى الذى تعرضنا لسيرته فى مطلع المقال كان لماحا ذكيا و هو يورد مثال "الصبرة"، يريد أن يقول أن الشعوب لا يجب أن تموت قهرا أو ذلا. الشعب السودانى ظل دوما يرفض الحقارة بمختلف اسمائها البديلة و تعريفاتها، لذلك توجد ضمن سطور تاريخه ثورة اسمها "ثورة 21 اكتوبر" و اخرى تدعى "انتفاضة مارس أبريل" .