الأن وقد تجاوزت السبعين عاماً من عمرى ، أمضيت منها ست وأربعين عاماً فى العمل السياسى النشط ، أود أن أنتهز هذه المناسبة المفصلية فى تاريخ البلاد ، وشعب وحكومة جنوب السودان يستعدان لإعلان الإستقلال والإحتفال به فى التاسع من يوليو 2011، لأعلن إعتزالى المشاركة فى الحياة السياسية لجنوب السودان.. والتفرغ للكتابة والبحث والتأليف. لقد بدأ إهتمامى بالسياسة مبكراً إلا إننى قد ولجت بابها الواسع بعد عودتى من الولاياتالمتحدةالامريكية بعد فترة دراسة وتدريب فى الإعلام والصحافة على نفقة الحكومة الأمريكية ، وقد صادف موعد رجوعى عام 1964 إكتمال أسباب الثورة الشعبية على نظام عبود فدفعت بى أحداث ثورة أكتوبر الى حلبة السياسة فصرت من الناشطين السياسيين ، وقد إنقضت أنذاك ست سنوات من عمر نظام الرئيس عبود العسكرى تبلور خلالها وتصاعد التمرد فى جنوب السودان. وبالرغم من إن كلمات مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب ضد المدنيين لم تكن من المصطلحات السياسية المتعارف عليها آنذاك إلا أن نظام عبود أرتكب فظائع لا توصف ضد شعب جنوب السودان بدعوى القضاء على التمرد وفرض القانون والنظام. دأبت كل الأنظمة القمعية على إستغلال الظروف مثل التى كانت سائدة فى جنوب السودان لقمع كل أشكال المعارضة فى البلاد ، لذا لم يكن شمال السودان أحسن حظاً من الجنوب فى ظل نظام عبود العسكرى ، فوجدت نفسى فى مثل تلك الظروف سياسياً نشطاً ، ولم يكن أمامى عملياً فرصة للتراجع للوراء وإتخاذ موقفاً سلبياً فقد ولج جنوب السودان أتون الحرب وعمَ التمرد وظلت الحكومة ترتكب الفظائع ضد شعب جنوب السودان، فتأسست حركة جبهة الجنوب فى الخرطوم وكنت أحد المؤسسين لتلك الحركة السياسية الجديدة. ويجدر بالذكر أن حكومة عبود عمدت الى نقل معظم النخب الجنوبية المتعلمة والمثقفة الى شمال السودان فكان هذا بمثابة نفى جماعى لموظفى الخدمة المدنية الجنوبيين للشمال ، وكان الهدف من هذا حرمان حركة الأنانيا لتحرير جنوب السودان من العقول المفكرة ومن الدعم المادى ، إلا إن تواجد تلك الأعداد الكبيرة من الجنوبيين المثقفين والمتعلمين فى الخرطوم ساعد على الإنتظام والإنتماء لحركة جبهة جنوب السودان والتى كانت تمثل الجنوب فى الحكومة المدنية الإنتقالية التى شكلت لتسلم السلطة من نظام الرئيس عبود العسكرى . وقد تم خلال ثمانى ساعات حشد مايقارب نصف مليون جنوبى من سكان الخرطوم فى ميدان عام جنوب مطار الخرطوم لإعلان مولد حركة جبهة الجنوب وتم إختيارى أميناً عاماً لتلك الحركة السياسية الجديدة. ورغم أن جبهة الجنوب قد مُثلت بثلاثة وزراء فى حكومة رئيس الوزراء سر الختم الخليفة إلا إن الجبهة كانت تصر على ضرورة إيجاد حل سياسى سلمى شامل لمشكلة الجنوب ، ونتيجة لهذه الضغوط .. ضغوط الأحداث فى الجنوب وضغوط الجبهة على الحكومة الجديدة تقرر عقد مؤتمر المائدة المستديرة بالخرطوم فى مارس 1965م ، وقد إتخذ هذا القرار قبل شهرين فقط من التاريخ المحدد للإنتخابات العامة والتى اُجريت فى الشمال دون الجنوب إذ إن جبهة الجنوب قررت مقاطعة الإنتخابات بالجنوب مطالبة بحل سياسى للنزاع أولا قبل إجراء الإنتخابات. تم فى فبراير 1965 إختيارى مرة أخرى أميناً عاماً منتخباً لجبهة الجنوب وذلك عند إنعقاد أول مؤتمر للجبهة بمدينة ملكال للإعداد لمؤتمر المائدة المستديرة ، كما تم إختيارى عضواً فى وفد الجبهة لذلك المؤتمر فى الخرطوم. وكان من أخطر القرارات التى إتخذها مؤتمر الجبهة فى ملكال فى فبراير 1965م للإعداد لمؤتمر المائدة المستديرة فى الخرطوم ولإول مرة فى تاريخ السياسة فى السودان هو المطالبة بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان . لم يرق هذا للشمال بل وصف مطلب تقرير المصير "بالخيانة العظمى" إلا إن جبهة الجنوب أصرت وثابرت على الطريق وعلى هذا المطلب السياسى النبيل. وجدير بالذكر أنه ومنذ إنعقاد مؤتمر جوبا عام 1947 الذى دعت له الإدارة الإستعمارية البريطانية لتخطر ممثلى الجنوب فيه بأن بريطانيا قررت نيابة عن شعب جنوب السودان توحيد الجنوب مع الشمال .. ظل الحوار السياسى ومنذ ذلك التاريخ (1947) حول تقرير المصير ولا شئ غير ذلك ، ويمكننى القول بإن الفظائع وإنتهاكات حقوق الإنسان التى إرتكبت فى الجنوب خلال تلك السنوات الطويلة لم تكن سوى وسائل لإثناء ومنع الجنوبيين من المطالبة بحق تقرير المصير. وبينما كان أول عهدى ومشاركتى فى السياسة فى أكتوبر 1964 فلقد ألقت علىَ مهنتى ككاتب وصحفى وأجبات ومسئولية خاصة تجاه الوطن والمجتمع، فلم يكن إختيارى كأول أمين عام لجبهة الجنوب هو العامل الأساسى فى قرارى بالإستقالة من الخدمة المدنية فى مايو عام 1965 والتفرغ للعمل السياسى بل إن أهم العوامل كانت حاجة الجنوب الملحة لصوت يعبر عنه ويتحدث بإسمه فى الإعلام الشئ الذى ألقى على كاهلى مسئوليات السنوات الست والأربعين الماضية . فقد أسست صحيفة الفيجلانت "Vigilant" فى عام 1965 وترأست هيئة تحريرها وكانت بمثابة الناطق والمتحدث بإسم جنوب السودان ، إلا إن نظام الرئيس نميرى العسكرى أغلق الصحيفة أول أيام الإنقلاب فى مايو 1969، وعندما أسقطت الإنتفاضة الشعبية حكومة الرئيس نميرى فى 1985 أسستُ فى العام الذى يليه 1986 صحيفة سودان تايمز"SUDAN TIMES" لنفس الغرض وهو التعبير عن القضايا السياسية لشعب جنوب السودان. وفى الواقع وحتى حينما عُينت وزيراً للإعلام فى عهد الرئيس نميرى وبعد إتفاقية أديس أبابا عام 1972 أسست وتوليت رئاسة تحرير مجلة سودان ناو "SUDANOW" عام 1975 وأنا عضوٌ بالوزارة .. ولم أتوانى أو أتردد فى تبنى قضية الجنوب والدعوة لها فى صفحات تلك المجلة الحكومية ، ولكن عندما إستولى النظام الحالى على السلطة برئاسة المشير عمر حسن أحمد البشير عبر إنقلاب عسكرى أخرفى يونيو 1989 تم إغلاق صحيفة سودان تايمز "SUDAN TIMES" ، وأصبحت من المعارضين السياسيين وفُرض علىَ النفى والعيش فى المملكة المتحدة .. فأسست هناك فى لندن مرة أخرى نشرة "غازيتة السودان الديمقراطية" "SUDANDEMOCRATIC GAZETTE" والتى إستمرت لإكثر من أربعة عشر عاماً .. وأترك تقييم دورى ومساهماتى الإعلامية فى التبصير والدعوة لقضية جنوب السودان للآخرين وإنما أردت بهذا كله مجرد التوثيق. إن طبيعة السياسة فى الدول النامية تفترض فى كل من يتولى المسئولية فى حكومة بلاده أن يسعى لتحقيق مصالحة الشخصية وقد يكون هذا صحيحاً ، إلا أن قدرى كان إنى عملت وزيراً فى نظامين عسكريين مختلفين نجحا وحدهما دون كل حكومات السودان المدنية فى إنهاء الحرب الأهلية فى جنوب السودان وتحقيق السلام، وربما من المؤسف حقاً الأ يتم تحقيق السلام إلا فى ظل النظم العسكرية وليس النظم المدنية. لقد شاركت فى حكومة الرئيس جعفر نميرى بعد أن وقُعت إتفاقية أديس أبابا فى مارس 1972 ويقينى وإيمانى إن أكرم وأنبل مايقدمه المرء فى الحياة العامة هو أن يعمل فى خدمة حكومة بلاده فى ظل الأمن والسلام ، ويؤسفنى أن أقرر بإن الحكومات المدنية المتعاقبة على حكم السودان عرفت بالجؤ للقوة العسكرية وإستخدام الجيش لقمع شعب جنوب السودان بينما كانت فى الناحية الأخرى لاتحسن إستخدام السلطة فى إدارة شئون البلاد مما شجع على قيام الإنقلابات العسكرية. إلا إنه وفى عام 1983 وبعد أن ألغى نميرى إتفاقية أديس أبابا التى وقعها هو نفسه عام 1972 مما أدى لتجدد الحرب الاهلية خلال الفترة 1983 -2005 فإن موقفي كان واضحا إذ قدمت إستقالتي محتجاً علي نظام النميري وأصبحت فخوراً ومعتزاً بالعام الذي أمضيته في سجن النظام "1983 -1984". شاركت في حكومة الرئيس البشير بوصفي مستشاراً شخصياً له في شئون بلادنا السياسية منذ توقيع إتفاقية السلام الشامل عام 2005 وقد تفوق الرئيس البشير علي كل قاده السودان السياسيين بمثابرته وعزمه علي تمكين شعب جنوب السودان من ممارسة حقه في تقرير المصير ، وهذا موقف متميز في تاريخ السودان يحسب للرئيس البشير وحده دون الآخرين . لقد قال الجنوب كلمته في الاستفتاء الذي جري في يناير الماضي قالها بوضوح وبأسلوب حضاري ، وأكد الرئيس البشير قبوله وإعترافه بنتيجه الإستفتاء .. بل وعد بمشاركة شعب جنوب السودان إحتفالاتهم بالمناسبة في التاسع من يوليو 2011، وليس هناك مايدعوني للشك في التزام الرئيس بتأييد إستقلال جنوب السودان. كنت قريباً من الرئيس البشير خلال السبع سنوات الماضية فرأيت مدي تجاوبه ودوره في تنفيذ إتفاقية السلام الشامل مما يدعوني للإشادة بحكمته وشجاعته وصبره كرجل دولة .. وأشكره علي كل ذلك . لقد ألقت السنوات السبع الماضية بعبءٍ ثقيل علي الرئيس البشير شخصياً وعلي بلادنا بصفة عامة إلا إن تحليه بالحكمة والحنكة والهدوء مكنت بلادنا من الإبحار بسلام ولم يتبقي الأن سوي زمن قصير ووقت ضيق ليعلن الجنوب إستقلاله ويحتفل بالمناسبة في التاسع من يوليو القادم . ولكن مازال درب السياسة وزمانها بعيداً طويلا تحفه المخاطر ، إلا إنني على ثقة بأن الرئيس البشير سوف يقود البلاد الي بر الأمان والسلام. وفي ختام هذا البيان أرجو أن أتقدم بشئ من النصح للقيادة الجديدة لدولة جنوب السودان وأنا أعلم بانهم غير محتاجين لنصحى ولكن للتذكرة أقول: أولاً يلزم النظر بجدية وعمق لمصلحة ورفاهية المواطن العادي ( رجل الشارع كما يقولون) في جنوب السودان لأنه عاني أكثر من أي شخص آخر من أثار الحرب الاهلية الطويلة علي مدي خمسة وخمسين عاما ، فشعب جنوب السودان يستحق التمتع بسلام مستدام وخدمات عامة أفضل من حيث التعليم والرعاية الصحية ومياه الشرب النقية والتنمية المتصاعدة . وإنهم يستحقون فوق هذا وذاك العيش في ظل سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان وكل الحريات الاخري التي تتمتع بها مجتمعات أخري لم تتعرض لما تعرض له شعب جنوب السودان من معاناة وعذاب وحرمان. وأذكر ثانياً بأنه يلزم قبائل جنوب السودان العديدة أن تعمل بجد ومثابرة لتحقيق الوحدة الوطنية وعلى حكومة دولة الجنوبالجديدة أن تعمل لإعداد وصياغة البرامج التي تحقق ذلك. والجدير بالذكر إن السودانيين الجنوبيين بمن فيهم النخبة المتعلمة ينظرون إلي بعضهم البعض بمنظار القبيلة وإنتمائهم لقبائلهم وليس لإمة واحدة ويصعب تغيير هذه النظرة وهذا السلوك إلا من خلال برامج توعية سياسة قائمة علي مبادئ المساواة والعدالة بين كل ابناء شعبنا ولايتم هذا الا من قبل حكومة عادلة ومنصفة حتي لا يتحول جنوب السودان إلي دولة منقسمة علي نفسها متعددة الولاءات القبلية والمصالح الضيقة. وأخيراً فأن علاقاتنا مع كل جيراننا لاتقل اهمية عن علاقاتنا مع بعضنا البعض كمواطنيين جنوبيين ولذا يجب أن ننظر بجدية لهذه العلاقات بإعتبارها علاقات إخاء ومصالح مشتركة ، وأخص بالذكر علاقاتنا مع شمال السودان لتبقي دائما علاقات خاصة فستكون لنا حدوداً مشتركة مع الشمال أكبر وأطول من أي حدود مع جيراننا الآخرين .."أكثر من الفين ومئتي كيلومتر" وإن الضامن الوحيد لأمن هذه الحدود الشاسعة بين دولة الجنوبالجديدة وشمال السودان هو الإحترام المتبادل ورعاية المصالح المشتركة ، وإنى على ثقة بإن شعبنا في الشمال والجنوب وبالتضامن والصداقة والإخاء سوف برعى ويكفل أمن وسلامة هذه الحدود. أما الأن وقد أسفرت نتائج الإستفتاء علي مصير شعب جنوب السودان عن إختيار الاستقلال فقد رأيت أن أصدر هذا البيان وقبل ثلاثة أسابيع من أعلان استقلال جنوب السودان الذي أستحقه وناله بجدارة لاعُلن وإعتباراً من التاسع من يوليو 2011 تاريخ قيام جمهورية السودان الجنوبي، أننى أتنحي عن المشاركة في العمل السياسي الحزبي في جنوب السودان، أقول هذا بلا منَ وأنا فخور بما قدمت من عمل ومن تضحيات شخصية من أجل حرية شعبي. لقد حان الوقت وآن الأوان أن أبتعد قليلاً وأمنح وطني والقيادة السياسية الجديدة في جنوب السودان الفرصة لمواجهة التحدي الاكبر وهو بناء أمتنا .. وأدعو لهم بالتوفيق والسداد. بونا ملوال الخرطوم 12 يونيو 2011 م