بسم الله الرحمن الرحيم لا شك أن كثيرا من الناس شاركني الدهشة على ما يناقشه هذه الأيام ممثلو الشعب(المفترضون) في البرلمان ،بشأن القروض الربوية. ولفت انتباهي تناول كثير من الصحف للخبر عرضا وتحليلا إضافة لكم مقدر من مقالات الرأي ومداخلات رواد المنتديات السودانية الكترونية في ذات الموضوع ،والدهشة تزيد حال قراءة القضية موضوع النقاش مقرونة بفتوى علماء مجمع الفقه الإسلامي التي ذكرت صحيفة الوطن في يوم 16/6/2011 أنهم فاجئوا بها البرلمان إذ أبدوا موافقتهم للحكومة بالتعامل بقروض ربوية لتمويل إقامة سدين جديدين بأعالي نهر عطبرة وإنشاء مطار الخرطوم الجديد وجاءت فتواهم إعمالاً بمبدأ فقه الضرورة التي تبيح المحظورات ورأى بروفيسور أحمد علي عبدالله رئيس اللجنة الاقتصادية بمجمع الفقه الإسلامي أن هذه القروض تعتمد على تقديرات وزارة المالية بأهميتها لكنه لم يخف تحفظه أثناء تحدثه في ندوة التمويل بالقروض والواجبات الشرعية الواجب إتباعها(التي نظمها البرلمان في 14/6 ) من تعامل الدولة بالقروض الربوية حيث قال: لا يجوز التعامل بالربا لا مع المسلم أو غيره بيد أنه مباح عند الضرورة التي يلجأ إليها في تمويل المشاريع المرتبطة بحياة الإنسان. الوطن 15/6 والناس يدهشهم أن هؤلاء النواب ،من أجل البكاء على لبن المشروع الحضاري المسكوب أجلّوا جلسة كان ينبغي أن تكون لها الأولوية : وهي الجلسة التي كانت مخصصة لمسائلة مسئولين عما يدور في جنوب كردفان -التي يعاني أهلها الأمرين :القتل والتشريد نتيجة سياسات خاطئة للحزب الأوحد الذي ينضوي تحته غالبيتهم ،.خاصة إن علمنا أن السدود والمطارات التي من أجلها ستؤخذ تلك القروض والندوات التي تعقد بشأنها، ليست من مسائل الحياة أو الموت بينما يموت مواطنون ويشردون فعلا في جنوب كردفان في ذات تلك اللحظات التي عجز فيها البرلمانيون-ممثلو الشعب عن مجرد إبداء الاهتمام بما أصابهم ، مما يدل على أن هؤلاء النواب مثل أهل العراق الذين استفتوا ابن عمر عن حرمة قتل البعوض في الحرم فأجابهم الصحابي الجليل ابن الخليفة العادل عمر بن الخطاب ،بذات الدهشة التي تنعقد لها حواجبنا الآن:أتقتلون ابن بنت رسول الله ثم تسألون عن حرمة دم البعوض؟ إضافة لما أحصاه متداخل حصيف في صحيفة حريات الالكترونية في معرض مناقشة أمر هذه القروض وقد أحصى عشرة أسباب تبدو حقيقية يرى بها أن تلك السدود لم تنفذ من أجل السودان إذ أن ضرها للسودان أقرب من نفعها بل هي سدود من أجل المحروسة :(البحيرات التي ينشئها السد ستغرق عدة مناطق حتى عطبرة،تهجير السكان من مناطقهم التي اعتادوها،ترك التنمية في منطقة سيهجرها البشر،إغراق الآثار الفرعونية المتبقية في تلك المناطق ،لا يوجد سبب أصلا لتخزين المياه والسودان لم يستنفذ حصته من مياه النيل بعد،الطمي في بحيرة السد العالي يحول المياه للبحر فلابد من سدود حتى لا يتشرد المصريون،استفادة مصر من هذه السدود على حساب المواطن السوداني وبتمويله،الأرض في الشمالية غير صالحة للزراعة لكي تحتاج لمياه هذه السدود كما لا يمكن الاستفادة من مياه السدود جنوبا لطبيعة انحدار المياه لأسفل،كان من الأوفق إقامة هذه السدود لو كان الغرض فائدة المواطن السوداني على حدود الحبشة). من عناصر الإدهاش حقا هذا الاستسهال للخداع باسم الدين : فمثلما يحدث في كل مرة حينما يراد إجازة مثل تلك الصفقات -ليس مهما محتوى الإناء أو مشروعيته من حيث المطابقة لمبادئ الإسلام وأسسه، يكفي لفه بثوب مكتوب عليه بدم كذب: دولة الشريعة الإسلامية لكسب قلوب الغوغاء . لذلك ترتكب (السبعة وذمتها) ثم يجمع البرلمانيون على عجل تحت قبة البرلمان -أو في مكان آخر، ليس لممارسة العمل المنوط بهم فعله والذي من أجله هم افتراضا ،برلمانيون يمثلون الشعب وينطقون بأوجاعه، بل من أجل مسرحية عبثية ترتفع فيها الأصوات التي تظهر الغضب خوفا من انتهاك حرمات الله فتعترضها أصوات أخرى تبرر :ماذا نفعل وقد ردينا بزمان رديء وعالم متجبر لا يعطي المال إلا بشروطه(لا نحب الربا لكن نأخذه وبطوننا طامة)أو كما قال أحد هؤلاء النواب . وتشكل فتوى مجمع الفقه الإسلامي العنصر الثالث لدهشتنا المتنامية :إذ يتقدم علماء السلطان الجاهزون دوما رهن الإشارة لأداء دورهم المرسوم الموسوم من أجل إقناع النواب(المتمنعين) بأن أكل الميتة محظورات تبيحها الضرورات.فيمرر ما يراد إجازته بضمير مرتاح اتكاء على فقه الضرورة. وهذا هو الخطر الأعظم ارتكاب الموبقات تحت حماية الدين . وما ذكرناه في الفقرة السابقة تم بصورة حرفية في الواقع بما نقلته الصحف عن إحداثيات الندوة المذكورة : حيث شدد متحدثون في الندوة التي عقدت لمناقشة الأمر وأجلت بسببها جلسة جنوب كردفان - على ضرورة مراعاة الفقه الاقتصادي في باب فقه الضرورة وطرح البدائل والسعي لإدخال الصيغ الإسلامية له وأمنوا على التعامل بالقروض ذات الفوائد الربوية إلا أن هناك آخرون رفضوا الأمر لجهة أن الشرع حرم الربا ، وعبر عضو البرلمان دفع الله حسب الرسول عن اعتراضه لتلك القروض وقال ليس هناك حوجة ضرورية لأخذ القروض الربوية بينما ألمح أحمد إبراهيم الطاهررئيس المجلس الوطني إلى أنه في ظل الحصار الاقتصادي الذي تعانيه البلاد يجب أخذ أسهل الضررين في إشارة منه إلى ضرر الحصار والقروض الربوية وأوضح بالقول من يظن أننا في استقرار فهو واهم ولازلنا نعاني الحصار والحرب الاقتصادية والشيطان الأكبر يصول ويجول لسد المنافذ علينا وبفقه الأصول مطالبين بأخذ أخف الضررين ودعا إلى أن تكون قاعدة للفهم العام وليس للإباحة-الوطن 15/6. و الغريب حقا أن هؤلاء العلماء الأجلاء لا يلتمسون لفتواهم ربطا بعوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية كما أوضحها د.يوسف القرضاوي ولا يعملون فكرهم من أجل استنباط أحكام جديدة في عالم متغير فيجدون لفتواهم نسبا في مثل ما يقول به كتاب صحويون أمثال د.محمد عمارة ، الذي يفرق في كتابه (الإسلام وقضايا العصر،ص:95) بين الدين وهو الشريعة الإسلامية أو الثوابت التي لا علاقة لها بالرأي والاجتهاد(العبادات) وبين الفقه الإسلامي(المعاملات) وهو قوانين سنها الفقهاء لتحكم علاقات الناس في مجتمعات معينة وظروف مادية وفكرية محددة ويستشهد بقول الجرجاني"الفقه هو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد ويحتاج إلى النظر والتأمل" انتهى. هم لا يفعلون أيا مما ذكرنا وينطلقون من منصة فهم متشدد للدين لا تهتم بأهم مقاصده في الحرية والعدالة وجل اهتمامها منصبا على مظاهر التدين القشرية مثل طول اللحى ونحوه .وبينما يتشددون في منع الرعية وزجرها عن ممارسة الحقوق إزاء انتهاكات السلطان يوفرون للسلطان كل ملجأ ومغارات من فتاوى المخارجة حماية له من غضب الرعية... الفتوى المذكورة المستندة لفقه الضرورة لم تكن الأولى من نوعها فقد سبق أن أصدر بمثلها بيان، مستشار التأصيل د. احمد علي الإمام منذ 2002 حول قرض سد مروي وقرار اللجنة التي كونها لتحديد عناصر الضرورة المبيحة للاقتراض بفائدة.(د.حيدر علي إبراهيم، سقوط المشروع الحضاري).. بعيدا عن مثل هذه الفتاوي المعيبة مفضوحة الغرض ندرك مع غيرنا أن ديننا الحنيف الذي أتى في مجال المعاملات ومنها المسائل الاقتصادية بخطوط عريضة تشترط العدالة والإنصاف دون تفاصيل منعا للحرج-فنحن أعلم بشئون دنيانا - واستجابة لظروف الزمان والمكان المتغيرة ..وبتلك البطاقة كان الإسلام وسيظل مناسب لكل زمان ومكان. ونجد فيما ذكره الإمام الصادق المهدي في كتابه (نحو مرجعية إسلامية ) مثلا لما نبتغيه من علماء هذه الأمة نورد بعضا منه هنا-بتصرف : يقول الإمام الصادق (الربا محرم شرعا لأنه يقوم على استغلال الغني للفقير(صاحب الحاجة) وبهذا يكون قد عاكس مقاصد الشريعة وتقتضي معاملات الربا:انتقال المال من غني لفقير،استغلال حاجة الفقير،زيادة حجم المال مقابل الإمهال في مساومة غير متكافئة ،افتراض ثبات قيمة المال بحيث لا يؤثر الإمهال سلبا عليها (التضخم واختلاف سعر الصرف). حرم البعض سعر الفائدة على أساس أنه ربا مع الاختلاف في :كونها مرتبطة بمؤسسات ائتمان قانونية محددة الشروط وغير قابلة للمساومة بين مقرض ومقترض- أموال المصارف مكونة من أسهم الأغنياء والفقراء- وسعر الفائدة اليوم إن كان حده معقول يقوم بوظائف نقدية لا غنى عنها إلا في حال وجود بديل مناسب : - يشكل حافزا للادخار. - ينظم حجم المال المتداول تمدا وانكماشا. - يعطي مقياس للمفاضلة بين الاختيارات الاستثمارية المختلفة. - يعوض عن تدهور قيمة العملة مع الزمن . ويخلص الإمام الصادق إلى أن: المطلوب الكف عن الفتاوى العاطفية التي يصدرها فقهاء حسنو النية ولكنهم غير مدركين لحقيقة الاقتصاد الحديث وتوضيح الفرق بين الربا وسعر الفائدة ووضع ضوابط لسعر الفائدة ليؤدي دوره المطلوب وفق مقاصد الشريعة . نحن من وراء أن تطرح مثل تلك الآراء النيرة في مجال واسع ليتم تداولها و تصب في ماعون يسع ظروف تغير الزمان والمكان لتأتي بفتاوى مجمع عليها ،تنفع الناس ولا يتسرب الشك إلى النفوس المؤمنة في غرضها أومرضها .... في مقارنة تساعد على إيضاح ما أوردنا بخصوص سعر الفائدة يفيدنا عضو البرلمان السيد علي أبرسي وهو أحد حداة الركب الإنقاذي بقوله "إن البنوك الإسلامية في السودان تتقاضى فوائد ربحية ما بين 10-12% على القروض ويمضي في قول: بل الربا الأعظم هو المضاعف الذي يرهق كاهل المواطنين وأشار للأرباح التي تضعها المصارف بالدولة على القروض بينما هذه القروض فوائدها لا تتعدى ال 2%". يجدر بنا التنويه إلى أن هناك آخرون يرفضون تلك القروض وهم خارج السيناريوهات الموضوعة التي أشرنا إليها سابقا. و يقول المعترضون على قبول مثل تلك القروض وقد تم تصنيفها ربوية أن السدود والمطارات ليست من ضمن الضرورات التي تبيح المحظورات بحسب قول الفقهاء إذ أن الضرورة التي تبيح ارتكاب الإثم هي ضرورة الحياة مثل العطشان الذي انقطعت به السبل أبيح له شرب الدم بما يمنع الموت وليس حد الرواء كذلك للجائع في تلك الظروف أن يأكل الميتة أو لحم الحنزير ...الخ المحرمات بما يمنع الموت وليس حد الشبع وهكذا.جدير بالذكر أن الفتوى بشأن سد مروي أشارت لفروق بين الضرورات المبيحة للمحظورات بين الأفراد(الإشراف على الهلاك) والأمة حيث ترتبط هنا بمقومات الحياة. قبل المغادرة لا بد من التساؤل عن أغراض إثارة مثل هذه القضايا الآن ونعلم أن إمضائها في غفلة عن الرأي العام ممكن ومتاح لحكم تغيب فيه أركان الحكم الراشد من مسائلة وشفافية ومحاسبة وسيادة حكم القانون مما يلجئنا للتكهن بأنه ربما أتت مثل هذه النقاشات عن القروض وربويتها على خلفية التصريحات الرئاسية والفهم العام لدى قادة الإنقاذ وكوادرها ونحن على بعد (فركة كعب) من الانفصال بأن الرعية ربما احتاجت عصفا ذهنيا يهيئها لما نحن عليه مقبلون حيث ستكون الشريعة مرجعا للأفعال في دولة (الجمهورية الثانية) بتأويل المؤتمر الوطني وقد انتفت موجبات (الدغمسة) في الدستور بحسب فهم الرئيس لواقع السودان من بعد الانفصال خاصة وقد كان الادعاء أن الإنقاذ ما قامت إلا لتحكيم شرع الله وإنفاذه بواسطة المشروع الحضاري. نريد أن نحبر على حقيقة نكررها مرارا لتثبت في الأذهان وتقر في الصدور: أن علة المشروع الحضاري الذي باسمه يجأر البرلمانيون اليوم ويبكون :علته أنه مشروع غاب عنه الصدق وغاب عنه الإخلاص وغاب عنه الوفاء ومنذ المفاصلة الشهيرة بين شعبي ووطني غاب عنه الدليل والبوصلة، هو مشروع بما يشهد به أهله أنفسهم بدأ تطبيقه بالكذب والخداع وقد انتهى حيث بدأ كذبة: كَذب ماءها الغطاس. لذلك لا يعترينا أدنى شك في أن الحديث عن الشريعة من قبل الإنقاذيين يأتي باعتبارها كرتا رابحا يستخدم عند الضرورة التي تقتضيها أحوال السياسة والمعاش والبحث عن الشرعية. وهذا هو عين ما فعله ضياء الحق في باكستان في 1977 وجعفر نميري في السودان في 1983 .ومصيرهما هو المصير الذي سينتهي إليه كل متلاعب بشرع الله. وسلمتم umsalama alsadig [[email protected]]