مثلما طافت (سينية) أبو عبادة (البحتري) بأمير الشعراء وهو يجول على أطلال المسلمين وآثارهم بالأندلس ويتمثل كلمات البحتري، حتى جرى على لسانه (وعظ البحتري إيوان كسرى/ وشفتني العصور من عبد شمس) بمثل ذلك طافت علىَّ قصيدة البحتري فأرقتني دهراً حتى تمنيت لو أهديتها أستاذنا حسين خوجلي.. صنت نفسي عما يدنس نفسي / وترفعت عن جدى كل جبس وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني الدَهر / ُ إِلتِماساً مِنهُ لِتَعسي وَنَكسي وَقَديماً عَهِدَتني ذا هَناتٍ / آبِياتٍ عَلى الدَنِيّاتِ شُمسِ وَلَقَد رابَني اِبنُ عَمّي / بَعدَ لينٍ مِن جانِبَيهِ وَأُنسِ وَإِذا ماجُفيتُ كُنتُ جَديراً / أَن أَرى غَيرَ مُصبِحٍ حَيثُ أُمسي **** بينما كان الأستاذ حسين خوجلي يغالب في ذلك المساء همزات و(تريقة) موظفي تلفزيون السودان وهم يتهامسون - بعد أن تأخر ضيف (أيام لها إيقاع)- بأن ضيف السهرة هو (شرحبيل) فيتصدى الأستاذ لتصحيح المعلومة بأن ضيف (أيام لها إيقاع) هو عبد الكريم الكابلي وليس شرحبيل رغم إصرار موظفي التلفزيون (الخبثاء). وهو لا يدري بأن (شرحبيل) هنا إشارة وكناية عن (الشرّة على حبال الإنتظار) بينما كان حسين بالتلفزيون يكابد تأخر ضيفه ولمزات الموظفين اللئام في -ذات المساء- كان ثلة من المشاهدين يتراصون أمام جهاز التلفاز في ناد بإحدى القرى القصية بالجزيرة، ينتظرون (أيام لها إيقاع) وجدال مثل جدال حسين مع موظفي التلفزيون في تلك الأثناء كان يدور بينهم.. وأحدهم هناك كان يقسم أن (حسين خوجلي) هو رجل نافذٌ في هذا (النظام الجديد) وأنه عضو (المجلس الإربعيني) الذي يتحكم رجاله في تسيير شئون الدولة فيولون الولاة ويعزلون، وينصّبون الوزراء ويخلعون. ويشرعون القوانين ويسنون ولايعزب عنهم من مثقال شئ ولا أصغر منه من أمر الدولة والحكم. ولأن صيت حسين خوجلي وسمعته الشاهقة في الحركة والتنظيم الإسلامي كانت تدعم ذلك الزعم برصيد وفير من الحجج والبراهين، فإن الجدال انحسم ذلك المساء لصالح الفريق الذي يدعي (النفوذ) لحسين بل إن الدعاية سارت وفشت حتى بلغت الآفاق، وعلى غير عادة الخبر الذي (يصل الريف وعند صاحبو يقيف) بلغت الدعاية حسين، وحين طرقت سمعه كان يعلق ساخراً بأنه "صحافي وتلفزيوني لامع.. ونصف وزير ونصف سفير وخطيب عامة و(عضو في المجلس الأربعيني) كما كان يُطَلق آنذاك على المهمين و"ما أخطر الجماهير حين تركب ليك ماكينة (عراب) والفرق كبير بين ما تدعيه وما يدعيه الناس عليك..." ولأن الشعب السوداني شعب لمّاح بطبعه وله مقدرة على الإلمام بتفاصيل الأشياء في كل شأن السياسة فإن إدعاءهم بشأن حسين لم يأت من فراغ، وإذ أن العامة والخاصة يتذكرون خط الدفاع الأول عن الجبهة الإسلامية القومية وصاحب الصحيفة التي زلزلت الديمقراطية الثالثة بحزبيها الطائفيين (بكل الأنصار وكل المريدين) حتى أن زعيم الطائفة ومرشد الحزب الكبير كان يحتفظ بإرشيف (ألوان) في غرفة نومه وبتصنيف أدق من أرشفة مكتب الإرشيف بالصحيفة، ذلك بينما يذكر خاصة الخاصة من المثقفين وأهل اليسار ويعرفون من نازلهم في الفكر والثقافة والقضايا الكبرى وقارعهم الحجة وزاحمهم على المنابر بالكلمة البليغة واللسان الزرب الطليق والإفكار المرتبة العميقة، وتتذكر الكوادر الطلابية (من اليمين واليسار والوسط) من عاركهم على منابر النقابات والإتحادات الطلابية بالمدارس الوسطى والعليا والجامعات يوم كانت تلك المنابر بطعمها ولونها ورائحتها وبريقها وسطوتها التي تعصف بالعروش والحكومات متى نقلت إليها رحاها. جميع ذلك أغنى الناس لأول العهد الجديد مشقة السؤال المجلجل الذي وجهته يوماً (للمجاهيل) يوم تصفحت الوجوه فلم تحط بها خبرا فطفقت تصفعها بسؤال الطيب الأديب (من أين أتى هؤلاء).، ولم يكن وجه حسين خوجلي ساعتئذٍ غريباً ولا (منكراً) .. لم يكن حسين منئذٍ يحتاج لشئ من التعريف أو التلميع ولم يكن في حاجة – كذلك – لخدمات صناعة النجوم (الزائفة) التي راجت أوائل التسعينات من القرن المنصرم، تلك النجوم التي تكتسب إشعاعها من نجومية الأخفياء، وتفقد بريقها بزوال المؤثر وتغور في الدركات، حيث لا موهبة ولا خيل تهدى ولا مال ولا نطق يسعد إذ لم تكن الحال تسعد أو تلفت حتى عابر الإنتباه. ولذلك حينما جلس (حسين) في أيام لها إيقاع يتحدث بالشعر والإدب والفن والغناء ومسدار البادية ومربعات عكير وود ضحوية، كان الأذكياء يبتسمون وينتبهون إلى أن الرجل يداري بكل ذلك شيئاً ما.. ورغم أن الكابلي في لقائه الأول بحسين قد إشترط ألا يدور شئ من حديث السياسة، إلا أن مقدم البرنامج الزرب كان يلقي كلماته العِذاب سلسة هينة.. وكلمة وكلمة ثم لا يجد الكابلي بُداً أن يصدح ملء موهبته (هبت الخرطوم في جنج الدجى،، ضمدت بالعزم هاتيك الجراح..)، وعندما يختم حسين كلماته كان الفجر يطل على أجنح غيمة، فلا يبرح الكابلي يشد قيثارته ويعزف الأناشيد القديمة ويغني ويغني آخر المقطع للأرض الحميمة.. وكان في ذلك الزمان الحلم يمتد لأسيا وأفريقيا ومن (طنجة إلى جاكرتا).. "لظلال الزرق في غابات كينيا والملايو،، لرفاقي في البلاد الآسيوية،، للملايو ولباندونق الفتية..." قال الراوي ولأن (كل صاحب نعمة محسود) فإن الكثيرين مازالوا يغبطون الأستاذ على مواهبه العظام ويحسدونه على ما آتاه الله من فضله!، منذ (شعبان ود المكي) والصبي اليافع بالمدرسة الثانوية يخطب بجامعة الخرطوم جنباً إلى جنب مع شيخ أحمد عثمان مكي المهيب فلا يسع ود المكي إلا أن يتنبأ للفتى الغض بشأن عظيم ومستقبل باهر. ومنذ ذلك الزمان كان حسين خوجلى يحمل ذات البريق، إذا قام فكأنما ينهض في موكب من (أصلب العناصر)، وإذا سار فكأنه يماشي ثوار شعبان (وود المكي يزجي الصفوف تحت الدرفس) حتى كان من أصغر السجناء السياسيين عمراً.. ويضحك إخوان الصدق حينما يذكرون إذاعة (حسين وبابكر حنين) الداخلية بسجن كوبر وبرامجها التي لم يكن بثها يحتاج لتصاديق ال(FM) ولا أستديوهات الفضائيات المملة الرتيبة التي يقوم عليها العاطلون، حيث كان الأمر بأستديوهات (إذاعة كوبر) محض عبقرية وفيض من إبداع واقتدار على الإبتكار مازال رفاق الشرقيات يحفظون عبقه ويرن في آذانهم صداه. أحزنني أن قرأت في الصحف نية الأستاذ (الهجرة) في أرض الله الواسعة مثلما وجه أبو عبادة قديماً (عنسه) إلى أرض كسري يتسلى عن الحظوظ غير مستمسك بأرض جفته (وَإِذا ماجُفيتُ كُنتُ جَديراً / أَن أَرى غَيرَ مُصبِحٍ حَيثُ أُمسي).. كذلك الشعراء والأدباء والعارفين لا يقيمون على الضر والجفاء فعلها بعد البحتري أبو الطيب حين غادر الحمداني (قواصد كافور توارك غيره / ومن قصد البحر إستقل السواقيا)، فليت شعري هل يعيد الشاعر سيرة السابقين تسوقه نفس كنفوس أصحاب المتنبئ.. إِنَّ الكِرامَ بِلا كِرامٍ مِنهُمُ مِثلُ القُلوبِ بِلا سُوَيداواتِها تِلكَ النُفوسُ الغالِباتُ عَلى العُلى وَالمَجدُ يَغلِبُها عَلى شَهَواتِها. إلى ذلك سننتظر (ألوان) التي لم تصدر بعد. الإثنين/11/5/2009 حميد أحمد