بسم الله الرحمن الرحيم (1) لا شك إن الأوطان تعني لكل إنسان قيمة معنوية لا تضاهيها أي قيمة مادية أخري مهما كبرت وغلى ثمنها. لذلك تجد أن القرآن يعد، من بين أمور أخري، من قتل دفاعا عن وطنه ضمن الشهداء، وما أدارك ما الشهداء ومكانتهم عند الله، ولذا تجد أن أي إنسان شريف يغير على وطنه ويجعل له في قلبه مكانة سامية، ولنا في رسول الله صلي الله عليه وسلم أسوة حسنة حين قال عندما هاجر من مكة إلى المدينة "لولا إن أهلك أخروجني منك ماخرجت" أو كما قال صلي الله عليه وسلم. كل إنسان غيور محب لوطنه لا يتردد لحظة في الدفاع عنه ودفع الغالي والنفيس بل الروح مهرا لصون كرامة الوطن وترابه. يسر الله لي خلال العام المنصرم 2010م زيارة منطقة "مروي" لأرى بأم عيني"السد الرد" وهو، والشهادة لله، يحكي عظمة إنسان هذا البلد خاصة الشباب منهم بقيادة الوزير الشاب أسامة عبد الله بعد أن منحهم سيادة الرئيس ثقته الشخصية للمضي قدما بإنجاز هذا الإعجاز بعد أن تعثرت خطاه الأولي. وسرني كثيرا أن أري – بجانب الفوائد العديدة التي سيجنيها المواطن على امتداد هذا الوطن من بناء هذا السد، أن أرى هذه الفوائد متمثلة بدءا في إنسان المنطقة الذي لا شك إنه ضحى بشيء من روحه وقلبه وجسده وفارق جزء من أرض أجداده وأبائه في سبيل إنشاء السد الذي تمتد فائدته وخيره ليعم كل أهل السودان إن شاء الله. ورأيت أيضا بأم عيني كيف كان حال إنسان هذه المنطقة الذي يتهم زورا وبهتانا بأنه المسيطر على كل خيرات الأرض وثمارها ومهمش غيره من السودانيين. رأيت كيف كان حالهم قبل السد وإلى ما صاروا إليه بعده، رأيتهم قد انتقلوا من مساحة صغيرة قد لا تتعدى كيلومترا واحدا عاشوا فيها منذ أجدادهم حتي ضاقت عليهم وأبنائهم، رأيتهم قد انتقلوا من ضيق الشاطئ ومنازل الطين- كما هو الحال في معظم مناطق الولاية الشمالية- إلى سعة الحيشان ومنازل الطوب، ومن ركوب الدواب إلى التنقل بالسيارات الحديثة، ومن شظف الشفخانات إلى سعة المستشفيات والمراكز الصحية الحديثة، رأيت بأم عيني كيف أن حالهم قد تبدل إلى الأحسن والأفضل. وخيرا فعلت إدارة الإعلام بالمشروع أن وثقت ما كان عليه الحال وما صار إليه اليوم. نحن نقول ذلك وقلوبنا تلهث بالشكر لأهل المنطقة لأننا – كحلفاويين بشكل خاص- نعلم كم هو صعب فراق أرض الجدود ولو لمسافة بضعة كيلومترات قليلة. ولكن عزاء أهل منطقة مروي كان أنهم قد ضحوا من أجل السودان وإنسانه ومن أجل تقدم البلد ورفعتها، وأنهم لم يرحلوا قسرا إلى مناطق أخري بعيدة عن موطنهم الأصلي. أما نحن الحلفاويون فلا ندري بأي ذنب قتلت بلادنا، ولا ندري بأي ذنب ُرحلنا وآباءنا وأجدادنا من مناطقنا التي كانت منارة للعلم والمعرفة والحضارة والجمال والنظافة. فأهل منطقة سد مروي يعلمون أنهم إنما ضحوا من أجل السودان، ونحن لا ندري لماذا ضحينا أو على الأصح تمت التضحية بنا. عزاء أهل منطقة مروي أنه تم تعويضهم بشكل كامل عن كل ما فقدوه من أرض وثمار ومال، عزائهم أنهم لم يرحلوا بالكامل عن مناطقهم إلى مناطق أخري تختلف عن مناطقهم الأصل كما وكيفا كما حدث معنا الحلفاويين حين رحلنا إلى حلفاالجديدة التي تختلف عن وأدي حلفا "حلفا القديمة" في كل شيء حتي رائحة التراب وطعم الهواء والمناخ، وأنهم سمح لهم بالتعبير عن رأيهم – رغم بعض المناوشات التي حدثت بعد تعرض البعض لرجال الشرطة- على خلاف الحلفاويين الذين منعوا من أدني وأبسط حقوقهم في التعبير، عزاء المناصير أن الدولة كانت توفر لهم المأكل والمشرب حتي استقروا في مناطقهم، في حين أن الدولة حاربت الحلفاويين باستخدام سلاح الترهيب والتجويع والتعطيش ضد كل من رفض الرحيل والخروج من وأدي حلفا، عروس النيل. لقد فقدنا نحن الحلفاويون وفقد السودان ميراث أول حضارة عرفتها البشرية حتي اليوم، وهي الحضارة النوبية. لقد انخدعت الحكومة السودانية وانجرت وراء أكاذيب ودعاوي هشة للنظام المصري آنذاك فأضاعت الكثير من الآثار غرقا في بحيرة السد. والله إنها لجريمة ليس فقط في حق الحلفاويين والسودان فحسب، بل في حق البشرية جمعاء. المصريون تعمدوا ذلك بإيهام العالم بأن الحضارة الفرعونية هي الأقدم وأن منشأها مصر، في حين إن العلم أثبت اليوم من خلال ما تبقي من بعض الآثار التي تم إنقاذها من الغرق بأن الحضارة النوبية القديمة في كوش ونبتة هي الأقدم وهي الأولي في تاريخ البشرية، حيث قدر العلماء عمرها بسبعة ألف عام. وهي الأولي في العالم التي استطاع العلماء تتبع كل مراحل تطورها منذ نشأتها مرورا ببلوغها ذروتها وحتي زوالها. تفاجأت ذات مرة خلال فترة وجودي في فيينا بالإعلان عن إقامة معرض عن "الحضارة النوبية" بأكبر المتاحف النمساوية. وعندما تتبعت الأمر وجدت أن المعروضات "الآثار" النوبية هي آثار نوبية حقيقية كانت قد استولت عليها بعثة الآثار البولندية التي كانت جزء من فريق الآثار الذي أنقذ بعض الأثار من منطقة وادي حلفا بتكليف من منظمة اليونسكو. وأعتقد أن اليونسكو أغرت هذه البعثات للعمل في وادي حلفا بمنحها جزء من الآثار التي تكتشفها. ونحن نطالب من هنا السيد وزير الثقافة وبالتعاون مع الهيئة العامة للآثار باسترداد هذه القطع الآثرية التي لا يمكن تقدير قيمتها المادية. ونحن نعلم كيف أن بريطانيا وفرنسا قد ردت لمصر الكثير من القطع الأثرية التي كانت لديها. سيدي الرئيس ينص القانون الدولي في بعض بنوده على أن الحكومات المتعاقبة تتحمل تبعات من سبقها من حكومات، ومثالا على ذلك مسألة الديون. فلا يمكن لحكومة خلف أن تنكر الديون التي استلمتها الحكومة السلف، بل تضاف إلى ديون الدولة المعنية بموجب القانون الدولي. وهكذا نعتقد أن من واجب الحكومة اليوم – رغم سابق علمنا بأن لا علاقة لها مباشرة بما حدث عام 1964م- إلا أنه لها علاقة غير مباشرة بموجب القانون وبموجب البيعة التي بايعناكها وبموجب المسؤولية الملقاة على عاتقك بأنك الراعي ونحن جزء من رعيتك. سيدي الرئيس لقد مسنا الضر وأهلنا في حلفا القديمة والجديدة وفي بلاد الشتات داخل وخارج السودان. وأنا أتوجه إليك لرفع ما حاق بي وأهلي من ظلم على مر العقود السابقة منذ قرار إغراق وادي حلفا عنوة في عهد الرئيس الأسبق عبود – رحمة الله. كنا نأمل أن تتحرك الحكومات المتتالية لتنصف الحلفاويين لأن لهم قضية واضحة كوضوح الشمس ولكن خابت كل الآمال التي انعقدت عليهم. نحن نكتب إليك وكلنا أمل أن ننصف كما انصفتم أهلنا في منطقة سد مروي. ولا أعتقد أنك من الذين يميزون بين رعيتهم، فلهم خاصة ولهم عامة، ولهم مقربين وآخرين مبعدين، ولهم شرفاء وغيرهم من الضعفاء. أن تنصفنا بأن تعيد لنا بناء مدينة "وأدي حلفا" وتعيدها سيرتها الأولي – ولو جزئيا- لتكون على الأقل صالحة للسكن البشري، فالمدينة الأن تفتقر لأدني مقومات الحياة البشرية. وهي الآن تستقبل كل يوم العائدين من "حلفاالجديدة" الذين أمرضتهم سقوف المنازل المصنوعة من "الاسبستس" والتي ثبت علميا أنها تسبب السرطان ولم تتحرك الحكومة لا على المستوي الاتحادي ولا الولائي لتغييرها علما بأن كل منازل المدينة مصنوعة من هذه المادة الضارة، وأمرضتهم كذلك مياه الشرب التي لا تصلح حتي للحيوانات، فانتشرت أمراض البلهارسيا والكلاي وأمراض بأعراض غريبة عجز أشهر الأطباء والأجهزة الحديثة عن تحديد هويتها مما تسبب في هلاك البشر والأنعام، والزرع والضرع. أما مشروع حلفاالجديدة الزراعي فحدث ولا حرج. فقد هلك أهلنا بسبب التقديرات غير الواقعية والضرائب الباهظة المفروضة من قبل المحليات على الزراعة والمزارعين مما جعل ممارسة مهنة الزراعة غير مجدية بالمرة. فهل يعقل أن تعمل لمدة ثلاثة أشهر وتنتج مثلا ثلاثين جوال قمح تأخذ منها الدولة ثمانية وعشرين وتعطيك جوالين لتغتات بهما أنت وأسرتك، هذا ما قال له لي أحد أبناء حلفاالجديدة ممن نثق بحديثهم. فقرر الكثيرون هجر المدينة ومهنة الزراعة وبدأوا يبحثون عن مهن أخري بعد أن استقر جزء كبير منهم بالخرطوم وعاد بعضهم إلى وادي حلفا. في حين ظل آخرون يتعلقون بأن تحن عليهم الولاية أو المركز بالنظر إلى حالهم وأحوالهم والاهتمام بقضاياهم والعمل على حلها. ورغم أن لا حياة لمن تنادي ولا استجابة لنداءات الاستغاثة المتكررة التي بثها الحفاويون من المواقع المختلفة داخل وخارج الولاية والسودان، ظل أهلنا ممسكون على نار القضية ويزودون عن حيض الوطن والحزب. ومدينة وأدي حلفا بشكلها الحالي عاجزة عن تقديم أبسط الخدمات لسكانها ناهيك عن العائدين إليها من أبنائها و أبناء أبنائها الذين هجروا منها قسرا بأمر الحكومة وبقوة الشرطة. سيدي الرئيس نحن نعلم إن هناك جهات خارجية تتحرك في الظلام لتشجييع أبناء النوبة بشكل عام (في السودان ومصر) والحلفاويين بشكل خاص لحمل السلاح ضد الدولة بعد إقناعهم بأنها اللغة الوحيدة التي تفهمها الحكومة، وبأنه – حمل السلاح- هو الوسيلة الوحيدة لاستعادة مجد أجدادهم وحقوقهم وأبائهم. نحن نعلن رفضنا التام لمبدأ حمل السلاح في وجه الدولة، ونتمسك في ذات الوقت بحقنا في المطالبة بحقوقنا بالوسائل التي حددها المشرع، ونناشد أبنائنا وأخواننا في كل الحركات المسلحة التي تحارب الدولة في أي بقعة من بقاع هذا الوطن الشامخ الرضوخ لصوت العقل والعمل على حل المشاكل بالوسائل السلمية عبر الحوار والجلوس إلى طاولة المفاوضات. فنحن نريد أن نبني لا أن نهدم، وأن نعمر لا أن نخرب، وأن نكون إضافة لأهلنا لا خصم عليهم. نريد سيدي الرئيس أن تردوا لنا حقنا الأدبي للمعاملة القاسية والترحيل القسري وسياسات التجويع التي مارستها حكومة عبود آنذاك ضد أهلنا في وادي حلفا، خاصة وأنتم تنتهجون في برامجكم السياسية والانتخابية مبدأ إعادة الحقوق إلى أهلها ورفع الظلم عن العباد وتسعون لتطبيق مبدأ تعويض من تضرر من سياسات الحكومات السابقة على مر تاريخ السودان منذ الاستقلال. ونرجو أن يتبع ذلك ردا عملي بتوجيه المعنيين بالعمل على إعادة تعمير مدينة وادي حلفا، وذلك رفعا للظلم الذي حاق بها وأهلها على مر خمسة عقود من الزمان. وقد يشجع ذلك الحلفاويين من شتات الداخل والخارج على العودة إلى مناطقهم الأصلية والإسهام في تنميتها وإعمارها، خاصة أن المدينة ليس بها إلا قلة من الشباب لأنها أصبحت طاردة لأهلها – الشباب منهم خاصة - بسبب إنعدام الخدمات بكل أشكالها- خاصة الصحية- وكذلك إنعدام أو قل محدودية فرص العمل بها. وأن توجهوا كذلك حاكمكم على ولاية كسلا بإزالة الظلم الذي لحق بأهلنا الصابرين والمتصبرين في حلفاالجديدة وتقديم الخدمات لهم خاصة خدمات مياه الشرب وكذلك رفع الظلم الذي لحق بهم جراء السياسات الزراعية المستعجلة التي أضرت ومازالت تضر بالموسم الزراعي الواحد تلو الآخر والتي أضرت بإنسان المدينة الذي يعتمد أساسا على مهنة الزراعة وعلى عائدات المشاريع الإعاشية. نثق في حكمتكم وسرعة استجابتكم رفعا للظلم ودفعا للأذي وإحقاقا للحق. وفقكم الله في ولايتكم وسخركم لقضاء حوائج الناس وسدد على طريق الخير خطاكم وجزاكم عنا خير الجزاء. [email protected] khalid lord [[email protected]]