أسرة سودانية رقيقة الحال، -كحال الغالبية من الأسر السودانية التي تحولت إلى ذلك بفعل الأزمة المعيشية الطاحنة- تعيش في الخرطوم (العاصمة)، لها ستة من الأطفال، يعمل والد الأسرة وهو طاعن في السن، بأعمال هامشية تجلب له ما يكفي قوت يومه ويسد به رمق أفراد أسرته، وهكذا استمر الحال بهذه الأسرة ردحاً من الزمن. قبل شهران، ومع ازدياد أزمة غلاء الأسعار الفاحش وتواصله يوماً بعد يوم، تغير الحال، ووصل الأمر بهذه الأسرة إلى الحد الذي أصبح من العسير والمستحيل أن توفر لأبنائها لقمة العيش التي تقيهم جوع يومهم، وعانوا زمناً على هذا الحال يتعايشون مع فاقة الجوع والحرمان. وليس هنالك من يمد لهم يد العون. أقربائهم الخاصيّن يعيشون نفس الظروف وأسوأ، وليس لهم ما يفيض عن حاجتهم ليتشاركوه معهم. عانت الأسرة في التفكير والتدبير زمناً لتجد مخرجاً من هذه الأزمة، ولم يبقى أمام الأم سوى أن تهيم في الشوارع متسولة لتسأل الناس، فيمكن أن يعطوها أو يمنعوها، ولكن عزة نفسها وكبرياءها تمنعها من أن تفعل ذلك، وتعتقد أن كل ما تملكه في هذه الدنيا هو نعمة الستر وكبرياء العزة. تفاقم الأمر، ومرض الأطفال وابتئست الأم وهي تنظر لأبنائها وهو يتلوون ويتلظون من الجوع والمرض، ولم تجد غير الدموع والحزن والتحسر على مصيرهم الذي ينتظرهم وهو الموت جوعاً، فقد أُغلقت أمامهم كل السبل التي يمكن أن يدخرون منها ما يؤاد جوعهم ولم يبقى لهم غير التأوه والدموع. فكرت الأم في وسيلة تنقذ بها أبنائها من خطر الموت المحدق الذي ينتظرهم، لم تشأ الأم الدفع بأبنائها للعمل الهامشي الذي يفقدون معه براءة الطفولة ويتعرضون لقساة القلوب الذين ينهشونهم وهم أحياء، ويفسدون وينغصون عليهم حياتهم. كانت الأم تفكر بعقلية، أين تكمن مصلحة أطفالها في زمن أغبر، جار بقسوته، وحرمها من نعمة التمتع بأطفالها سليمين معافين. وبعد استغراق في التفكير لم تجد سوى أن تدفع بهم لأسر مقتدرة الحال، لتنقذهم وتنتشلهم من براثن الموت جوعاً ومرضاً، إذ لم يكن من المحتمل رؤيتهم يموتون كل يوم أمام أعينهم وهم عاجزون عن فعل شيء. ولم يجدوا بداً من أن يسعوا لغيرهم لطب النجدة، فكان من العسير على نفسها أتخاذ مثل هذا القرار، والأسوأ هو رؤيتهم يتعذبون ويتلوون جوعاً، دون الذهاب بهم للطبيب لأنهم يعجزون عن توفير مصاريف المستشفى ومستلزماتها، لضيق ذات اليد، وبعد نقاش، ذرفوا فيه دموعاً كثيرة لفراق أطفالهم، توصلوا لقرار أن يدفعوا بثلاثة من الأطفال لبعض الأسر اليسيرة الحال والذين لم يتمكنوا من إنجاب أطفال، ليقوموا بتربيتهم كأبناء لهم من صلبهم، وأن يضمنوا تعليمهم بأفضل المدارس ويتعهدوا رعايتهم وعلاجهم ومعاملتهم كفلذات أكبادهم، وكان جزء من الاتفاق أن تقوم الأم بزيارة أبنائها وتفقدهم كل ما تيسر لها ذلك، للاطمئنان على أحوالهم. لهذه قصة حقيقة واقعية، لم ينسجها الخيال، ولم تكن هذه المرة الأولى التي أتعايش فيها مع مثل هذا الموقف، ورغم ذلك جعلني أتساءل: هل وصل الامر بالأسر السودانية إلى الحد الذي تبيع فيه أبنائها لمواجهة الأزمة المعيشية الطاحنة؟ هل من اليسير على أم تعبت وشقت في تربية أبنائها أن تراهم يموتون من الجوع أمام عينيها، ولا تملك ما تسد به رمقهم؟ أيهما أهون عليها، رؤيتهم يموتون أمام عينيها، أم رؤيتهم ينعمون بدفء الحياة ويرتعون في الخير والنعيم مع أسر مقتدرة يمكنها أن توفر لهم لقمة العيش الكريم؟؟ هل أخطأت الأم التي اختارت حياة كريمة لأبنائها بدلاً عن خيار الموت من الجوع ؟؟ هل أذنبت أو أرتكبت جناية؟؟ أو هل مارست حقها في اختيار الحياة لأبنائها بدلاً عن خيار الموت؟؟. هكذا وضعت الحياة المعيشية الصعبة والازدياد المستمر والفاحش في أسعار السلع المعيشية إلى والدة أن تدفع بأبنائها لأسر يسيرة الحال لأن تربي أطفالها وتوفر لهم لقمة العيش التي عجزت عنها هي وزوجها الطاعن في السن. ولا أعتقد أن من السهل على أم أن تتخلى هكذا عن أبنائها، إن لم تكن مجبرة وترغب في إنقاذهم من خيار الموت جوعاً الذي ينتظرهم لا محالة. هذا هو موقف الوالدة، ولكن لنرى بالمقابل ما هو موقف السلطات الحكومية من ذلك؟. قامت المباحث الجنائية بالخرطوم بتوجيه تهم لهذه الأم وبدأت بالتحقيق معها باعتبار انها ارتكبت جريمة ولابد من معاقبتها على ما فعلته. وقد ورد ذلك في موقع (مركز اخبار السودان اليوم،) في يوم 4 يوليو 2011م. الأم أودعت الحراسة وأعادت المباحث الأطفال لينتظروا موتهم المحقق مع والدهم الكهل الذي لا يستطيع أن يجد ما يسد به رمقهم. والسؤال المشروع، إذا افترضنا أن هذه الأم أرتكبت جناية، ألم ترتكب السلطات السودانية جناية أكبر، بإرجاعهم الأطفال دون النظر إلى كيفية إعالتهم؟؟ تعلم السلطات المختصة حجم المعاناة وتهديد الموت بسلاح الجوع الذي ينتظرهم، فماذا فعلت؟؟؟ وماذا عن الموت جوعاً، ألا يشكل جريمة؟؟؟ ألم ينتج تصرف الأم عن ظروف إنسانية بالغة السوء حيث يعيش الأطفال ظروف غاية في الشدة والصعوبة؟؟؟ أليس من واجب الدولة ومسئولياتها توفير لقمة العيش الكريم عمن عجزوا عنها؟؟؟ إذا مات الناس جوعاً، أليس هذه مسئولية تُحاسب عليها الدولة أمام القانون وأمام الله تعالى؟؟ ماذا ستفعل الدولة، إزاء الموت جوعاً الذي يتهدد الأسر السودانية؟؟؟ وكيف ستتعامل معه؟؟؟ Muna Abuagla [[email protected]]