500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    حمّور زيادة يكتب: من الخرطوم إلى لاهاي    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات حرة - الحرية والسلطة العقلية .. بقلم: د.أمل فايز الكردفاني
نشر في سودانيل يوم 25 - 09 - 2011

الحرية ليست مبدأً ، ولكنها حاجة ، بل حاجة حيوية هي أقرب إلى الهواء الذي نتنفسه والماء والطعام ، الحرية هي روح الإنسان وبدونها هو كائن ميت . الحرية هي أجنحة لانطلاق الإنسان والتحليق في أعماقه ومع مجتمعه . وهي أيضاً ركن من أركان الإبداع الإنساني .
أساس الحرية :
أساس الحرية هو فردية الإنسان أي تميزه عن أي بشري آخر ، بمشاعره الخاصة ؛ آلامه الخاصة وأفراحه الخاصة ، وطريقة تفكيره الخاصة ، واحتياجاته الخاصة ، وقدراته الخاصة وإرادته الخاصة وتجاربه وتراكماته المعرفية الخاصة ، كل ذلك وأكثر يميز كل إنسان عن غيره ، إن ذلك يميز حتى التوأم عن توأمه بما يمنع أي وصاية عليه من فرد آخر ، إن داخل كل إنسان توحُّده الخاص وهذا ما يجعلنا دائماً نبحث عن الجماعة لكي نخرج قليلاً من إطار توحدنا مع الذات ونتشارك مع الآخرين جانبنا الإنساني الروحي والعقلي والديني والمعرفي والرياضي في شكل تجمعات طائفية أو نقابية أو اتحادية أو فرق كرة قدم أو من خلال القبلية والعشائرية ، ليس ذلك فحسب ، بل أن من يحتسون الخمر لا يستطيعون الاستمتاع بها إلا من خلال مشاركة الآخرين ، وكذلك المجرمون الذين يتشاركون فخر إنجازاتهم الإجرامية مع عصاباتهم . إننا دائما نحاول الخروج من العزلة الفردية إلى الفضاء الجماعي . لأننا في الواقع أحرار بفرديتنا القوية . ولكي نشارك الآخرين يجب أن نحاول إيجاد قاسم مشترك أصغر بيننا وبينهم فإذا انعدم هذا القاسم فإن محاولاتنا في الاندماج تنعدم ونعود إلى فرديتنا من جديد . وفي كل الأحوال يظل الإنسان فرداً ؛ فحتى هذه القواسم المشتركة تحددها فرديتنا بشكل أساسي لأن كافة المفاهيم والآيدولوجيات ليست سوى انعكاس لطريقة تفكيرنا ومشاعرنا الفردية الخالصة . بل أن علاقة الأب بأبنائه والزوجين ببعضهما هي نتاج محاولات مستميتة من كلِّ الأطراف لفهم الأخر ومع ذلك يظل هذا الفهم مسيطَراً عليه من خلال تفردنا في طرق التفكير وخصوصية المشاعر . وكذلك فإن الفردية هي التي تنتج سوء الفهم والصراعات التي قد لا تبدو مبرراتها واضحة بل هي خفية حتى على أطراف الصراع بشكل مخجل لكليهما لذلك فإن سوء الفهم ينتج استمراراً طويل الأمد في صراع لا يعرف أطرافه فيه أساس المشكلة بشكل واضح . إننا في حالة تحرك دائم للتعايش مع الآخرين ، وحتى هذا التعايش ليس سوى دعم لسعادتنا الخاصة ، ولذا فإن أي ارتباك في التعايش يفضي إلى الهجر والتباعد ، إننا نبحث عن السعادة من خلال حريتنا . لأننا ننطلق دائماً من الذات حتى في حالات الإيثار على النفس لأن الإيثار على الذات يجلب في حد ذاته السعادة لأنفسنا في بعض الأحيان ، ولو كان الإيثار على الذات لا يمنحنا غبطة التضحيات لما كانت هناك تضحيات في الأصل ، إن مشاعر الإنسان الحساسة تجعله غالباً غير قادر على تحديد طبيعة سلوكياته الاجتماعية وربما أيضا الفردية تجاه ذاته . لكن دعنا نضع الفردية كمسلمة أساسية وسنجد أن كل الاضطرابات في فهمنا لأنفسنا ستزول وسنتلمس فهماً عميقاً لما قد نعتبره متناقضات في الحياة .
إننا أحرار ، وهذه نعمة كبيرة ، إنني كفرد حر ، حر ولي الحق في أن أكون سعيداً بهذه الحرية ، وأن أمارس هذه الحرية في الحدود التي أراها مناسبة . ولكن ما هي الحدود المناسبة لهذه الحرية ، لا شك أن الفكرة الأساسية والسائدة لدى الجميع أن الحرية تقف عندما تبدأ حرية الآخرين . إلا أن الواقع الذي نراه أصبح منتهكاً حتى لهذه المسلمة في الحرية ؛ إن السلطة العقلية دائماً ما تنتهك هذه المسلمة وتمد حدودها إلى خارج الحدود المناسبة .
السلطة العقلية :
إن السلطة العقلية هي نتاج مباشر للفردية أيضاً ، فبما أن كل فرد يرى الصواب والخطأ من خلال ذاته (تجاربه ومعارفه ومفاهيمه وعقيدته .. الخ ) فإن هذه الفردية تجعله في تصادم دائم مع الآخرين ، ليس فقط من لا يشاركونه هذه المفاهيم بل حتى مع من يشاركونه الرؤية ، لأن مشاركة كل منا للآخر في الرؤية ليست مشاركة متطابقة بل فيها تفاوتات كثيرة رغم أن القاعدة الكلية قد تكون مشتركة وهذا التفاوت أيضاً نتيجة طبيعية لفردانية الإنسان . من هنا تنشأ السلطة العقلية ، والتي تزداد تعمقاً داخل كل فرد حيث يحاول فرض الرؤية (سواء الكلية أو التفصيلية) على الآخرين . فلنأخذ مثلاً زواج المثليين ، حيث نرى الجدل يدور حول حريتهم من خلال منطلقاتنا الفردية (دينية أو أخلاقية أو حتى مجرد عداء غير مبرر) ، فإننا دائما ما نحاول ليس إثبات وجهة نظرنا نحو إيجابيات أو سلبيات زواج المثليين ، بل إننا نحاول أن نقمع بشكل مباشر حرية الذات الأخرى والتي استمدت حريتها من تفردها في المشاعر والأحاسيس وطريقة التفكير وتراكماتها المعرفية والتأثيرات الإجتماعية والبيئية الأخرى وغير ذلك . إننا نصادر على ذات كاملة ونصادر على حرية كاملة رغم أن زاوج المثليين لا يرتب انعكاسات سالبة علينا بضرر مباشر ما دام في إطاره المحدود بين شخصين اختارا التشارك في حياة جنسية واحدة رغم تماثل الجنس . وغالباً ما نقوم بهذه المصادرة بناء على مبررات هي أيضاً فيها شيء من السلطة العقلية مثل الدين والأخلاق ، إننا دائماً ما نحاول أن نفرض مجرد مفاهيم خاصة على الكافة من خلال التكالب الجماعي ضد الفرد (كالقوانين الماسة بالحريات مساساً حاداً ) أو قد يصل الأمر إلى درجة العنف والإرهاب . أنا شخصياً أتخيل أمثلة كثيرة تثبت خطأ هذا الفرض التسلطي والمصادر لحرية الآخرين : فلو أن أي منا ضاع في صحراء مع اثنين أو ثلاثة آخرين ، حيث تنعدم السلطة (القانونية والحكومية) وقرر أياً من الأشخاص الزواج المثلي فهل سنقف في هذه الصحراء ضد هاذين الشخصين ، الإجابة واضحة لأنه لا يوجد سلطة لشخص على آخر ، ولكن نفس هؤلاء الأشخاص إذا وصلوا إلى أقرب قرية بها سلطة فسيحاولون إثارة موضوع زواج المثليين وإبطال الزواج السابق قانوناً . إن السلطة العقلية داخل كل فرد منا ، ومحاولة فرض مفاهيمنا ومصادرة مفاهيم الآخرين لن تنتهي لأن العقل الإنساني الفردي عندما يحاول أن يكون جماعياً فهو يتخلى عن حريته . إننا بالتالي لن نصادر على حرية الآخرين بل في الواقع نحن نصادر على حريتنا نحن .
ومن الأمثلة الأكثر حدة هي عندما تُصادر حريتنا من خلال مفاهيم سلطوية بحتة ، فعندما تحاول حكومة ما فرض عقيدة أو جوانب تراها هي أخلاقية فإننا سنرى بوضوح انتهاك فرديتنا ، ويكون هذا الانتهاك صارخاً جداً لأن للحكومة وسائل أقوى من وسائل الأفراد أو التكتلات الجماعية غير المستندة إلى سلطة . فالحكومة تمتلك القوانين وتمتلك تطبيق وتنفيذ هذه القوانين وهي التي تحدد حدود سلطانها تجاه حرية الأفراد ، ولا أوضح في ذلك من تلك القوانين التي تستخدم مصطلحات مطاطة مثل مصطلح "النظام العام" وال"الآداب العامة" ؛ بالذات في عنصر التجريم في القاعدة الجنائية ، هنا تترك الحكومة الباب مفتوحا على مصراعيه لتضمين كل ما تراه ضد مصالحها ولتهديد الحريات منتهكة بذلك الوضوح الذي يتطلبه مبدأ الشرعية . بل وتجعل من القاضي مشرعاً ومن السلطة التنفيذية قاضياً وجلاداً في نفس الوقت .ولو نزعنا الحيلة القانونية عن الحكومة (أي شخصيتها المعنوية) فإننا سنجدها في الواقع مجرد حفنة من الأشخاص يغلبون حريتهم على حريات الأفراد الآخرين . وإذا كانت الحكومة شرٌ لا بد منه فإن هذا الشر يجب أن يكون محدوداً جداً . لأن الحياة في الصحراء الخالية من السلطة قد تحقق سعادة الفرد باحترام حريته أكثر من الوجود داخل تنظيم جماعي قانوني . ولو أننا قررنا كلنا أن نعيش في الصحراء فرادى ، فإننا إذا سنتخلى أيضاً عن ذلك الجزء من حريتنا الذي يدعونا إلى مشاركة الآخرين . وبالتالي ننتقص من سعادتنا الشيء الكثير . لكي نستطيع العيش في جماعة يجب أن نضع حدودا ليس لحرية الآخرين بل لحريتنا أولاً وعلينا أن نؤمن بحرية الآخرين قبل أن نؤمن بحريتنا. أما القاسم المشترك الأصغر فيجب أن يكون هو عدم وجود إضرار ظاهر بحرية الآخرين أو بحريتنا . ففي مثال المثليين لن يكون السؤال هل يحق للمثليين الزواج ، لأن الإجابة واضحة ولا تحتاج لكثير من التفكير ، ولكن السؤال يجب أن يكون ؛ هل هذا الزواج يضر بي شخصياً ضرراً مباشراً . وكذلك في غير ذلك من فروض : فلا يجوز أن نتساءل هل يحق لشخص شرب الخمر ، ولكن يجب أن يكون هو ؛ هل سأصاب بضرر من شرب هذا الشخص للخمر . وعندما أجيب على هذا السؤال فإنني أستطيع أن أتناقش مع شارب الخمر لكي أمنع التأثيرات السالبة التي يمكن أن تضر بمصالحي الفردية . وهنا يمكن أن توضع قوانين جماعية ومع ذلك لا تمس بحرية الفرد ، فشارب الخمر يجب ألا يقود سيارة وهو مخمور ، لكننا لن نصادر على حريته في شرب الخمر في منزله ، وكذلك المثلي فيجب ألا يمارس المثلية في الشارع العام . وإذا كان هناك من يختلف معي في الدين فيجب أن أتناقش معه في الحدود التي يجب ألا يصادر بها سلوكه الديني -أو يحد- من سلوكي الديني لما أؤمن به من عقائد . لكن في كل الأحوال يجب إلا تصدر قوانين تصادر على الحرية ، ليس فقط لقيمة هذه الحرية وليس فقط لأن حدود حرياتنا متباينة في عقل كل فرد على حده ، ولكن لأننا لا نملك الحق في هذه المصادرة أساساً ما دامت ممارسة هذه الحرية لا تؤثر فينا تأثيراً مباشراً .
وهنا قد يتساءل شخص ما ، ألا يمكن لهذه الحرية أن تمس مشاعرنا ، فزواج هذين المثليين يمس مشاعرنا وشرب الخمر يمس مشاعرنا ، سأقول له أيضا بأن غلق المطاعم في شهر رمضان يمس مشاعر غير المسلمين ، وتكتل اليهود في كنتونات يمس مشاعر البوذيين ، وجلسة اليوقا البوذية قد تمس غير البوذيين وهكذا..، إن مشاعرنا حتى ولو كانت لجماعة الأغلبية لا يمكن أن تكون معياراً لتقييد الحريات ، ليس لعدم انضباطها وتقلبات الفرد مع أحاسيسه فقط ولكن لأننا جميعاً نشعر بانتهاك هذه المشاعر لمجرد اختلاف الآخرين معنا في أبسط وأصغر واقل المفاهيم تعقيداً . إننا كما قلت لا نأبه لأحاسيسنا كثيراً في الصحراء ولا أثناء الكوارث والأزمات الخطيرة والحروب . لكن ما أن نهدأ حتى تحاول السلطة العقلية فرض أحاسيسها على الآخرين . فهل نتمنى أن نعيش في الصحراء أو تحت كأداء الكوارث والأزمات لكي نكون أحراراً دائماً ؟! .
الحرية والعقل الإجرائي :
تتعدد طرق التفكير ، فهناك عقل مرن وهناك عقل تسلطي وهناك عقل إجرائي ؛ وهذا الأخير نادراً ما يتم تناوله من خلال الأبحاث العلمية ، فالعقل الإجرائي هو العقل الذي يتبع القاعدة دائماً ما دامت هذه القاعدة تأتي من جهة يراها موثوقة ، بغض النظر عن الحقيقة كالتلميذ الصغير الذي يؤمن بأن الأستاذ لا يخطئ، إنه يتبع القاعدة السماوية كما يتبع القاعدة الوضعية بدون مجرد محاولة تحليل مضمونها ، وهذا العقل يجيد أكثر من غيره عملية الإتباع الأعمى لأي قاعدة ، لكنه لا يستطيع أبداً الحيدة عن إتباع القاعدة ولو أن الظروف فرضت عليه التواجد خارج هذه القاعدة فإنه سيضيع تماماً وسيفقد قدرته على التصرف . إن هذا العقل اللا إبداعي يعد من أكبر مهددات الحرية ، لأنه سيحاول بقدر الإمكان فرض القاعدة التي درج عليها على الآخرين لأن حياته لن تستقيم أبداً خارجها وإلا كان كالسمكة خارج الماء . وبما أننا هنا لنؤكد على قيمة الحرية ، فإننا لن نستطيع المطالبة باستئصال هذا النوع من العقل من الوجود ، لكننا سنحاول أن نجد آلية للتعامل معه ، والآلية الوحيدة للتعامل معه هي الهجر والتنائي ، والأرضية الوحيدة المشتركة لن تكون سوى معاهدة بالتجنب وعدم الإضرار المتبادل . إن العقلية الإجرائية عقلية صماء وغير متجددة ، وصعبة المراس ، وهي متوفرة وبكثرة في التيارات الدينية بل وحتى الآيدولوجية الصرفة . وهي دائماً في حالة صراع لا يهدأ في محاولة للمصادرة على حريات الآخرين ، فهي لا تستوعب أي مبررات لمناقضة القاعدة ، وبالتالي فهي لا تقبل النقاش . ولكن الخطر الحقيقي ليس في السلوكيات العنيفة لأصحابها ، بل الخطر الحقيقي يكمن عندما تصل هذه العقليات إلى السلطة ، فهي تضع كل قوتها لتطويع – وهو تطويع مستحيل وفق قوانين الطبيعة- تباينات العالم داخل إطار القاعدة الدائري المغلق ، وتمارس بالتالي قهراً عالياً للحريات الإنسانية . بل وتعمل على الاستخفاف بأي حريات أخرى . وفي حالات كثيرة تحاول باستحواذية احتكار كل شيء لمعاقبة الخارجين عن القاعدة . وبالتالي لا يمكن أن يرجى من هذه العقليات أي رجاء في التطوير والتقدم البشري ، بل أن أكثر ما هو متوقع لن يكون سوى المزيد من الصراعات والحروب والدمار والخراب الأمني والاقتصادي والاجتماعي والعقائدي . بل هي تصادر على ما هو أهم من هذا كله وهو "العدالة" ، فمن العدالة وحدها تنبثق أغلب النظريات والفلسفات الإنسانية العظيمة ، والعدالة لا يمكن أن تتحقق في بيئة تنتهك الحرية ، فبدون الحرية لن تتحقق العدالة ، ولن تتحقق أهم بنية في العدالة وهي استقلال السلطات ، فاستقلال السلطات سيكون العدو الأول للعقلية الإجرائية ، وبدون استقلال للسلطات (لاسيما القضاء) ، فعلينا ألا نأمل أبداً في العدالة ، لا يمكننا أن نأمل في قوانين عادلة (من سلطة تشريعية ليست مستقلة) ، ولا يمكننا أن نأمل في قضاء عادل وهو غير مستقل ، ولا يمكن في كل الأحوال أن نأمل في سلطة تنفيذية حكيمة وراشدة في ظل حكومة يحاول أفرادها فرض حريتهم على الآخرين . فرغم تعقد الحياة الإنسانية إلا أنها تدور في تلاقح وتكامل بين كل الأشياء التي تبدو لنا متناقضة في أول وهلة ، ولكنها في الواقع نسيج كامل ومثالي إذا استطعنا أن نحدد كل المفاهيم والأدوار بدقة وبدون تعصب لتتناغم المتباينات وفق قوانين الطبيعة الأزلية.
أخيراً ؛ فإن البديل الوحيد لكل ما سبق لن يكون سوى الحروب المستمرة .
الرفاهية بديل الحرية :
هل الرفاهية بديل للحرية ؛ وهذا تساؤل طبيعي ، في عالم يضج بالوعود الهائلة بالرفاهية من قبل الحكومات ، لا سيما تلك الحكومات الدكتاتورية ، والتي تقوم بعملية تضخيم وتحسين وجه كل سلوكياتها ، والحكومات الدكتاتورية عموماً تميل إلي إلباس ما تنتجه للشعوب لباس الإعجاز وتسمي كل خطوة إيجابية انجازاً رغم أنها تتجاهل آلاف الخطوات السلبية ، إلا أن الأخطر من ذلك عندما تقوم الحكومات بالمراهنة على الرفاهية في مقابل حرياتنا ، فهي تنتهك حرياتنا تحت مسمى الرفاهية ، فما دام الفرد لا يعوزه المأكل والمشرب فإنه يجب أن يسبِّح بحمد هذه الحكومات ويشكرها على ما تفضلت به عليه ، إنها تقول : ما دمت قد وفرت لك المأكل والمشرب فلماذا تريد أن تصبح حراً ، إن الحكومات الدكتاتورية إذاً تراهن على حرية الفرد ، لكنها تتجاهل أن الحرية في حد ذاتها قيمة أكبر من المأكل والمشرب ، بل هي القيمة العظمى ، والتي تبنى عليها كل حركة الإبداع الإنساني بل والمسئولية القانونية والأخلاقية ، الحرية هي أساس المسئولية إذاً وهذا هو أهم شيء ، إنها أهم ما نملك لأننا عبرها نتخذ كافة قراراتنا المصيرية ، وعبر الحرية ولا شيء غير الحرية نفكر ، نتأمل ، ونحلل ، وعبر الحرية نعتنق الأفكار والأديان ، ومن خلال هذه الحرية نعمل ونستمتع بالأدوار المرهقة التي نلعبها في حياتنا ، إن الفردية التي أنشأت الحرية ، تنادينا دائماً بألا نفقد ذاتنا الخالصة بالتخلي عن حريتنا الغالية . إذا فالرفاهية ليست بديلاً للحرية ، بل الحرية هي التي تحقق – وبدون شك- شعورنا بالإشباع الروحي أي قمة الرفاهية ، إننا ننطلق من الحرية للرفاهية ، فانتهاك الحرية إذا لا يمكن أن ينتج الرفاهية بأي نحو ، وإلا فإننا بذلك ننسف أساس الرفاهية نسفاً .
قيود الحرية :
1- الأديان : تعتبر الأديان من أكبر معوقات الحرية ؛ لأنها لا تفرض قيودها من خلال حاجة اجتماعية بل من خلال قدسية جبرية ، وإذ أن الأديان أساساً تنهض على الغيبيات أي نقيض العقل تماماً فإنها تفرض قيوداً غير مبررة في كثير من الأحيان ، ورغم أن القيود الدينية أمر لا يخص إلا أتباع كل دين ، لأن الدين فكرة كامنة في العقل أو نتاج عقلي ولكل فرد طريقته في إخضاع عقله للدين وفق مفاهيمه الخاصة ، إلا أن أغلب الأديان تنهض على مفهوم العداء لأي منتج عقلي أجنبي عنها ، وهي أيضاً تحاول التمدد القسري وتتصارع الأديان لتحبط أي محاولات للتحرر ضدها ، إن الأديان ليست كيان له ذاتية فالدين في مجمله كامن في العقل كما أسلفنا ، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه الأديان إلا أن المفاهيم دائماً ما تجد لها أتباع والمشكلة الأساسية أن أصحاب المفاهيم الدينية يعتبرون الحرية ألد أعدائهم ، إلا أنهم في نفس الوقت لا يملكون أسلحة فكرية لمحاربتها ، لأن الفكر عموما نتاج للمنطق ، في حين تنطلق الأديان من اللا منطق للإيمان بغيبيات ووضعها وضع المسلمات . هنا لا يكون أمام أنصارها سوى العنف والمحاولات المستميتة للسيطرة الكاملة تحت ظل المفهوم المطلق اللا منطقي ، ورغم أننا لا ننكر أن الأديان منتج معنوي ومادي للحضارات وأنها في ذات الوقت قد تنشئ حضاراتها الخاصة بها ، إلا أننا لو حاولنا المقاربة بين المنظومات البشرية البدائية والمجموعات المنظمة تحت حضارة دينية فإننا سنفاجأ أن فكرة الحرية أكثر حضوراً داخل المنظومات البدائية ، وأن السمة العامة لأفراد المجموعات البدائية هي تقبلهم للآخر بدون شرط ، وهذا ما لا يتوفر البتة على الجهة الموازية ، أنا شخصياً سافرت إلى المناطق التي لا زالت مستعمرات بدائية صغيرة ، وقد لاحظت أن حالة الإنكفاء الفردي والجماعي لهذه المنظومات البدائية قد أزاحت تماماً فكرة الفرض الجبري لأي مفاهيم مختلفة وأن حالة التدخل في حريتي أو حرية من يرافقونني تكاد تكون منعدمة .
المشكلة الأساسية أننا يمكن أن نمنح المتدينين حريتهم إلا أنهم لا ولن يسمحوا أبداً لنا بممارسة حريتنا . ورغم أننا قد نتعايش معهم بشكل يبدو في ظاهره ناعماً إلا أن المشكلة الأساسية أن الأديان تنشأ داخلها ثقافة التدخل وتصحيح المسارات (وفق مفهوم كل دين على حده) ليس هذا فحسب بل أن هذه الثقافة ليست مجرد قاعدة بل هي قربان مقدس . وبالتالي فإننا لا نعرف كيف نتقبل أن نُقَّدم كقرابين لمفاهيم الآخرين ، ومن هنا ينشأ صدام حاد جداً (عنف وعنف مضاد) . كما أننا كأحرار لا نستطيع أن نجادل كثيراً بمفاهيم الحرية في مواجهة المسلمات المقدسة لأنها في وضع ثابت غير منطقية . ومن هنا لا يمكن أن تنهض مناظرات بين المنطق واللا منطق لتردم فجوة التناقض . وحين لا يمكن وضع قواسم مشتركة بين المتناقضات فإن الحرب هي الحل الأوحد . ورغم هذا فإن الحرب غير متكافئة البتة لأننا نتحدث عن روحانيات سائدة منذ القدم وقد اجتاحت العقل الإنساني السليم وحولته إلى عقل يمكن أن يؤمن بالاستنساخ بواسطة السحر الأسود واستحضار الأرواح أكثر من مجرد تقبله لعملية الاستنساخ العلمية .
2- المطلق بشكل عام : المطلق منشأ عقلي أيضاً ، وأغلبية الأفراد يؤمنون بمطلقات ، وقليل منهم يتفهم النسبية ، ومن هنا يمكن أن نقول أن الفلسفات نفسها قد تنشئ مطلقات ، والإيمان بالمطلق لا يتيح أي حيز لأي مستجدات ، أو تجديد أو تصحيح ، والمشكلة الأساسية أن أي نظرية لا بد أن تستند إلى مطلق لتستطيع أن تتجاوز فتيلية الشك الديكارتي ، ولكن الحرية لا تصطدم مباشرة بهذه المطلقات ، لأن كل شيء مسموح به في نظر الحرية ، إلا أن الصدام يحدث حينما تتم محاولات قسرية لتمديد هذه المطلقات على الآخرين ، إننا كأحرار نقول دائماً بحرية أن يفكر الإنسان ، حتى لو انتهج المطلق ، فهذا لا يخصنا في شيء ، لكن من ذا الذي يعطيه الحق في فرض المطلقات علينا ، هذا ما نطالب به .
3- القوالب الاجتماعية : كل مجموعة تنشئ ثقافتها التي توافقت عليها ، ومشكلة البطة السوداء حاضرة دائما داخل أي منظومة اجتماعية وهي مشكلة التقبل ، ومع ذلك فإننا لا ننادي أبداً بتدمير القوالب الاجتماعية ، لأن الحرية لا يمكن لها أبداً أن تنادي بالتدمير ولا بالجبر ، ولكنها تنادي دائماً بانكفاء كل قالب على ذاته بدون محاولة التمدد جبراً على الآخرين سواء كانوا أفراداً أو منظومات . يمكننا أن نقول بأننا نعيش في عصر مجتمع التدخل في الثقافات بدل أن يكون عصر التداخل بين الثقافات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.