((خواطر …… مبعثرة))    اللعب مع الكبار آخر قفزات الجنرال في الظلام    جون مانو يقترب من اهلي بنغازي    رئيس بعثة منتخبنا الوطني الى جوبا يضع النقاط فوق الحروف…محمد سيد أحمد: الشكر لسعادة الرئيس سلفا كير والمستشار توت    المدير العام لقوات الشرطة يؤكد ان قوات الاحتياطي المركزي قدمت تضحيات كبيرة في معركة الكرامة    البرهان يؤكد عزم القوات المسلحة القضاء على المليشيا الإرهابية وأعوانها    مجزرة ود النورة... هل تسارع في تصنيف مليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية؟    مصدر دبلوماسي : الخارجية السودانية لم تتواصل مع نظيرتها السعودية بشأن إيقاف المواطن (المصباح أبو زيد طلحة)    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي وفد هيئة شورى الفور    قرار ولائي باغلاق المدارس بجميع المراحل الدراسية بالولاية    وصلت 50 درجة مئوية.. ما وراء موجة "الطقس شديد الحرارة" في مصر؟    محتال يُقلق نجم منتخب السودان قبل جولات الحسم لكأس العالم 2026    منتخب مصر يواجه أزمات قبل موقعة غينيا بيساو بتصفيات المونديال    تحقيق أوروبي.. استثمارات ل"اتصالات الإماراتية" في بلغاريا والمجر وصربيا وسلوفاكيا    ماكرون وبايدن يعبران عن مخاوفهما إزاء عمليات نقل الأسلحة من إيران وكوريا الشمالية    حبس عمرو دياب.. محامٍ يفجر مفاجأة عن "واقعة الصفع"    اتحاد الكرة السوداني يشيد بحكومة جنوب السودان    تحديات تنتظر رونالدو في يورو 2024    انقطاع الكهرباء والموجة الحارة.. "معضلة" تؤرق المواطن والاقتصاد في مصر    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تضع زميلتها ندى القلعة في "فتيل" ضيق: (هسا بتجيك نفس تحملي في أوضة وبرندة وسط 13 نفر وفي ظروف الحرب دي؟)    شاهد بالفيديو.. شاب من أبناء "الشوايقة" يتوعد القائد الميداني للدعم السريع "جلحة": كان فضلت براي في السودان ما بخليك (جاك الوادي سايل أبقى راجل عوم والمطر البدون براق جاك يا الشوم)    نصائح مهمة لنوم أفضل    أديب: الحكومة الجديدة تحتاج "سوبر مان" لمواجهة التحديات    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    الجزيرة تستغيث (4)    انتظام حركة تصديرالماشية عبر ميناء دقنة بسواكن    "كعب العرقي الكعب" .. وفاة 8 أشخاص جراء التسمم الكحولي في المغرب    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    "إكس" تسمح رسمياً بالمحتوى الإباحي    حادث مروري بين بص سفري وشاحنة وقود بالقرب من سواكن    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    وفد جنوب السودان بقيادة توت قلواك يزور مواني بشاير1و2للبترول    صدمة.. فاوتشي اعترف "إجراءات كورونا اختراع"    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسألة جنوب السودان في سياق تاريخي: 1899 – 1986م .. بقلم: د. فيصل عبدالرحمن علي طه
نشر في سودانيل يوم 13 - 11 - 2011


سياق تاريخي: 1899 – 1986م
(4)
دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه [email protected]
4- مؤتمر جوبا الثاني: 18 أكتوبر 1954
في 20 فبراير 1954 عين الحاكم العام أعضاء لجنة السودنة. وقد كانوا: عبدالحميد داود مرشح مصر وبيرنت مرشح بريطانيا واختار من قائمة رئيس الوزراء عثمان يوسف أبو عكر وإبراهيم يوسف سليمان ومحمود الفضلي. وكما سبق أن ذكرنا فإن لجنة السودنة كانت مكلفة بسودنة الإدارة والبوليس وقوة دفاع السودان وغيرها من الوظائف التي تؤثر على حرية السودانيين عند تقرير المصير. وحُددت فترة ثلاثة أعوام كحد أقصى لإتمام أعمال لجنة السودنة. وسيرد من بعد عندما نعرض لتمرد الفرقة الإستوائية في توريت في 18 أغسطس 1955، أن اللجنة التي شُكلت للتحقيق في أسباب الاضطرابات التي ترتبت على هذا التمرد قد ذكرت كواحد من هذه الأسباب خيبة أمل الجنوبيين في نتائج السودنة والخوف من سيطرة الشماليين.
إذ بدأت فجوة عدم الثقة بين الشمال والجنوب تتسع عندما تعاملت لجنة السودنة مع السودنة بالمعايير التقليدية: الأقدمية والمؤهل ولم تفطن للمعيار السياسي التي كانت ظروف السودان تحتم تطبيقه. فكانت النتيجة أن استيقظ أهل الجنوب ذات صباح ليجدوا أن كل المناصب الرفيعة في الإدارة والجيش والشرطة قد استحوذ عليها الشماليون. فمن بين أكثر من 800 وظيفة تمت سودنتها كان نصيب الجنوب أربع وظائف أرفعها كانت برتبة مساعد مفتش. وقال أهل الجنوب يومئذ إن ما حدث لم يكن سودنة بل «شملنة» وأن كل ما أصابوه من السودنة كان استبدالاً لسيد بسيد. ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تزداد قابلت الجنوب للتدخل الخارجي فنشطت الهيئات التبشيرية المسيحية، ونشط بعض قدامى الاداريين البريطانيين الذين عادوا للخدمة في الدول الأفريقية المجاورة.
على أية حال في أكتوبر 1954 دعا حزب الأحرار الجنوبي إلى عقد مؤتمر في جوبا ليناقش المسائل التالية:
(1) موقف الحكومة الحالية من جنوب السودان.
(2) إمكانية تشكيل كتلة جنوبية متحدة في البرلمان.
(3) مستقبل السودان.
انتقدت صحيفة الأيام فكرة المؤتمر ووصفتها بالعنصرية الصارخة لأن المؤتمر لا يضم غير الجنوبيين، ولأن أغراضه كلها تهدف للعناية بأمر الجنوب وحده، وكأنما الجنوب والشمال لا يؤلفان قطراً واحداً، وكأنما أمر الشمال لا يهم الجنوبيين في قليل أو كثير.
وتوقعت «الأيام» أن تكون من بين أغراض المؤتمر الضغط على الحكومة الحاضرة أو أي حكومة تقوم في السودان لتعامل الجنوبيين معاملة تختلف عن معاملة الشماليين خاصة في مجال الخدمة المدنية. ثم قالت إن الجنوبيين يريدون أن تُسودن المناصب الإدارية في الجنوب بإداريين منهم. ورأت «الأيام» في ذلك تقويضاً للمبادئ التي تقوم عليها الخدمة المدنية في السودان. لأن الإداريين من شماليين وجنوبيين يضمهم كشف واحد، والأسس التي تؤخذ في الاعتبار عند ترفيع الموظفين هي الجدارة والإستحقاق والأقدمية. وحذرت الأيام من أن إدخال فوارق عنصرية في الخدمة المدنية يعرضها للخطر والانهيار.
الحكومة تستبق نتائج المؤتمر
في 13 أكتوبر - أي قبل بضعة أيام من انعقاد مؤتمر جوبا الثاني وقبل يومين من بدء زيارته الأولى للمديريات الجنوبية، وجه رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري من خلال إذاعة أم درمان بياناً للجنوبيين. قال أزهري في بيانه إن حكومته قد وضعت منذ مجيئها للسلطة من بين أهدافها الرئيسية إجراء إصلاحات أساسية لرفع مستوى المناطق المتخلفة نسبياً، خاصة المدريات الجنوبية الثلاث وجبال النوبة. وأضاف أن هذه المناطق لم تحصل على ما تستحقه من رعاية وعناية مما أدى إلى الفروقات الحالية في مستوى المعيشة وفي الرواتب وفئات الأجور في المديريات الشمالية والجنوبية. ومضى للقول إنه من واجب أي حكومة تدرك مسؤولياتها إزالة عدم التساوي هذا لأجل تحقيق الوحدة والتماسك في البناء الإجتماعي والثقافي والفكري للأمة.
واقتطف رئيس الوزراء فقرة وردت في الرسالة التي وجهها في 14 يوليو 1954 للرؤساء والسلاطين. أكد أزهري في تلك الرسالة أن حكومته تستنكر كافة أشكال التفرقة العنصرية، وتعتبر كل الشماليين والجنوبيين إخوة مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وذكر فيها أيضاً أن المزايا والمؤهلات والمقدرات هي العوامل الحاسمة التي تحدد توظيف المواطن سواء كان شمالياً أو جنوبياً. وللتدليل على أن المواطنين الجنوبيين قد منحوا نصيباً عادلاً في تحمل مسؤوليات الحكم، طلب أزهري أن يُنظر بموضوعية إلى تشكيل حكومته. ثم أكد تصميم حكومته على تصحيح أخطاء الماضي حتى يتمكن الجنوب من اللحاق بالشمال بأسرع ما يمكن.
وللوفاء بما وعد به السلاطين والرؤساء في يوليو 1954 وتنفيذاً للسياسة التي أعلنتها حكومته قبل ذلك، عدد أزهري القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء في اجتماعه في 12 أكتوبر 1954. اشتملت تلك القرارات ضمن أمور أخرى على ما يلي:
(أ) أن يعامل خريجو مدارس جنوب السودان ممن لهم مؤهلات تعادل مؤهلات رصفائهم في الشمال نفس المعاملة وأن تُعدل رواتبهم على هذا الأساس.
(ب) معاملة الضباط التنفيذيين الجنوبيين ونواب المآمير نفس معاملة رُصفائهم الشماليين.
(ج) زيادة رواتب الرؤساء ونوابهم ورؤساء المحاكم وكتبة المحاكم بنسبة 50 في المائة.
(د) مساواة رواتب الجنوبيين الذين يعملون في الشرطة وقوة دفاع السودان برواتب رُصفائهم في الشمال.
(ه) أن يكون الحد الأدنى للاجور في الجنوب على النحو التالي:
- في الزاندي ومريدي 150 قرشاً في الشهر.
- في بحر الغزال والاستوائية (باستثناء الزاندي ومريدي) 205 قرشا في الشهر.
- في أعالي النيل 250 قرشاً في الشهر.
(و) إنشاء ثلاث وظائف لمساعدي مفتشي مراكز وثلاث للمآمير في المديريات الجنوبية الثلاث.
(ز) تمثيل مديرية أعالي النيل في لجنة مراقبة طلمبات مياه النيل.
(ح) تحسين أجور عمال مشروع الزاندي الذي عينتهم لجنة مشاريع الإستوائية بحيث يصبح الحد الأدنى للأجر اليومي خمسة قروش. وزيادة 45 قرشاً للذين يتقاضون أجراً شهرياً يتراوح بين 130 و270 قرشاً، وزيادة 60 قرشاً للذين يتقاضون أجراً شهرياً يتراوح بين 270 قرشاً و7 جنيهات.
تعرض بيان رئيس الوزراء لنقد شديد لأنه لم يعرض لمسألة التنمية في الجنوب وخطط الحكومة في هذا الصدد. إزاء ذلك أصدر وزير المالية بياناً ورد فيه أن بيان رئيس الوزراء إقتصر على الأمور التي تحتاج إلى معالجة عاجلة وأما التخطيط للتنمية فإنه يحتاج إلى تفكير متأنٍ. كما أن تنمية الجنوب ينبغي أن تدرس في إطار اقتصاد السودان ككل. وورد في بيان الوزير كذلك أن التنمية في الجنوب لم تهمل حيث وفرت الحكومة للجنة مشاريع الاستوائية مبلغ مليون جنيه. وقد شجع قسم الإنتاج باللجنة زراعة القطن بأرض الزاندي وأقام مصانع الغزل والنسيج والسكر والزيت والصابون مما شكل بداية للتنمية الصناعية في الجنوب. وأوضح البيان أن سياسة الحكومة تهدف إلى مراجعة أهداف وأنشطة هذا المشروع وتوجيهها لتحقيق مستوى معيشة أعلى لسكان تلك المنطقة.
وذكر الوزير في بيانه أنه بخلاف لجنة مشاريع الاستوائية فهناك عمل تجريبي واسع يتم بموجب برامج التنمية في السودان للفترة 1946/1951 و1951/1956. والغرض من هذه التجارب التعرف على إمكانية زراعة الأرز في ملكال وأويل والسكر في منقلا وسابوري والبن والتبغ في أمادي. وأما السياسة البعيدة من ورائها فهي تحديد المحاصيل الأكثر مناسبة لزراعتها بنجاح لزيادة الإنتاج والدخل القومي.
ونوه الوزير إلى أن فريق تقصي التنمية الجنوبي على وشك الفراغ من إعداد تقرير أولي بشأن الموارد الطبيعية في جنوب السودان. وعبر عن أمله في أن يفيد التقرير في تحديد إتجاهات التنمية في الجنوب.
لم يعط الوزير إجمالي المبلغ الذي أُنفق على التنمية في الجنوب واكتفى بالقول إنه قد يبلغ ملايين الجنيهات وسيزيد عندما تُعرف إمكانات الجنوب.
قرارات مؤتمر جوبا الثاني
دُعي لمؤتمر جوبا الثاني ممثلون للمديريات الجنوبية الثلاث وبعض الرؤساء والسلاطين. كما دُعي إليه نفر من الجنوبيين المقيمين في الخرطوم. وجدير بالذكر أن أحد المشاركين في المؤتمر ويدعى موسى بشير قد وُصف في وقائع المؤتمر بأنه ممثل السود بالخرطوم وأوضح هو نفسه في مداخلته في الجلسة الثالثة للمؤتمر بأنه لا يمثل قبيلة وإنما يمثل اللون وأنه يتحدث بإسم 25 ألفاً من الجنوبيين في الشمال وأن ذلك يشمل النوبة والفور والفونج الذي يؤيدون فكرة الفيدرالية.
عقد المؤتمر أربع جلسات كانت الأولى في 18 أكتوبر والختامية في 21 أكتوبر 1954. الجلسة الأولى كانت إجرائية حيث انتخب فيها بنجامين لوكي رئيساً للمؤتمر ودينق شول نائباً للرئيس وماركو مورغان سكرتيراً. وعُين مترجمون للغة العربية ولغات الباري واللاتوكا والزاندي والدينكا.
إشتمل جدول أعمال المؤتمر على المسائل التالية:
(1) المستقبل السياسي للسودان ككل.
(2) المستقبل السياسي للجنوب في ظل السودان الواحد.
(3) الاتحاد مع مصر الذي يدعو له الحزب الوطني الإتحادي.
(4) الاقتصاد والتعليم في الجنوب.
إختار المؤتمر استقلال السودان والجمهورية نظاماً للحكم ولم يصوت أحد للإتحاد مع مصر. وعندما أُجري التصويت على مستقبل الجنوب السياسي صوت 217 من المشاركين في المؤتمر لصالح الفيدرالية في إطار السودان الموحد ولم يصوت أحد ضدها. وامتنع عن التصويت 7 نواب من الحزب الوطني الاتحادي.
حفلت الجلسة التي أُقرت فيها الفيدرالية بالعديد من المداخلات ولكننا سنعرض هنا لمداخلتين إحداهما لفحل يوكاندا أحد ممثلي مديرية بحر الغزال والأخرى للرئيس عبدالله ممثل توريت - كاتري.
قال فحل يوكاندا إنه في مؤتمر جوبا الأول في عام 1947 اتفق الشمال والجنوب على وحدة السودان وعلى المساواة بين الشماليين والجنوبيين في التعليم والتدرييب والرواتب. ولكن منذ ذلك التاريخ لم يُدرب جنوبيون لشغل وظائف في الإدارة والصحة والتعليم والجيش والزراعة والوظائف الفنية. وقال أيضاً إن سبب عقد مؤتمر جوبا الثاني هو فشل الشماليين في تحقيق ما طالب به الجنوبيون في مؤتمر جوبا الأول. فقد أُهمل الجنوبيون ولم يقلدوا أي مسؤوليات في إدارة بلادهم.
وأوضح يوكاندا أن من بين أسبابه لتأييد الفيدرالية اتفاقية القاهرة في عام 1953 التي لم يستشر الجنوبيون بشأنها وأدت إلى قيام الحكومة الحالية. وجاء في مداخلة يوكاندا كذلك قوله: «إن سيل الشماليين يتدفق نحو الجنوب ليسرقوا أرضنا.. نيابة عن بحر الغزال أنا أرفض هذه السياسة التي تستبدل المسؤولين الأجانب بالشماليين لأنها لا تؤدي إلا للاضطرابات والفوضى في الجنوب. ولانقاذ السودان يجب أن يحصل الجنوب على حكم فيدرالي». وطالب يوكاندا بالانفصال إذا رُفضت الفيدرالية لأن الجنوب سيضيع بدونها.
وقال الرئيس عبدالله في مداخلته إن دولتي الحكم الثنائي قد فشلتا في تنمية الجنوب وان مطالبة الشماليين بالحكم الذاتي كانت بغرض السيطرة على الجنوبيين وليكونوا أسياداً عليهم بدلاً من أن يكونوا إخوة لهم. أيد الرئيس عبدالله الفيدرالية وطالب بها لانقاذ رفاقه السود في الشمال. وأضاف أن السود في كل السودان يمرون بمرحلة حاسمة في ظل النظام القائم، وبما أن الجنوبيين قد صححوا أوضاعهم، فإنه ينبغي عليهم انقاذ الآصدقاء المساكين أي النوبة والفور والفونج.
خصصت الجلسة الختامية للمؤتمر لمناقشة مسألتي الاقتصاد والتعليم. وفي بدايتها قال رئيس المؤتمر إن الحكم الثنائي لم يقدم شيئاً للجنوب في مجال التعليم، وأنه فضل الشمال وقدم له تعليماً أحسن. وقال أيضاً إن الحكومة الحالية قد أخطأت خطأً فادحاً بضم الجنوب للمناطق المتخلفة في الشمال لأن الجنوب أكثر تقدماً ولا مجال لمقارنته بقبائل البجا والهدندوة والبقارة. ولذلك يجب أن تُعامل قضيته معاملة منفصلة.
لم يتطرق أي من المشاركين في المؤتمر للشأن الاقتصادي وتناولت مداخلات قليلة مسألة التعليم. وقد ورد في بعضها أن المدارس القائمة لا تفي بالحاجة وأن قلة قليلة من مخرجات التعليم الجنوبي تلتحق بكلية الخرطوم الجامعية. وطالب أحد المتحدثين بتعيين وزير للتعليم في الجنوب. ودعا آخر للاهتمام بالتعليم الفني.
إبلاغ قرار الفيدرالية للحكومات المعنية
بعد انفضاض مؤتمر جوبا الثاني، بعث رئيس المؤتمر بنجامين لوكي برسالة إلى وزيري خارجية بريطانيا ومصر وإلى الحاكم العام وإلى رئيس وزراء السودان يبلغهم بأن المؤتمر قد صوت لصالح قيام اتحاد فيدرالي بين جنوب السودان وشماله.
دعا بنجامين لوكي في رسالته الشماليين للاعتراف بالفوارق الإثنية والثقافية والدينية بين الشمال والجنوب. وقال إن على الشماليين أن يدركوا أن هذه الفوارق الطبيعية والجوهرية لا تفضي إلا إلى واحد من أمرين: قيام اتحاد فيدرالي بين الشمال والجنوب، وإذا لم يكن ذلك مقبولاً للشماليين يقسم السودان إلى دولتين مستقلتين تماماً عن بعضهما البعض مثلما انشطرت باكستان عن الهند.
وعبر بنجامين لوكي في رسالته عن رغبة الجنوبيين إنهاء الحكم الثنائي بنفس القدر الذي يرغبون فيه إيقاف الزحف الشمالي الاستعماري نحو الجنوب الذي أصبح واضحاً. كما أكد عدم التزام الجنوبيين بوحدة السودان المنصوص عليها في دستور الحكم الذاتي لأن الشماليين أدخلوا تعديلات على هذا الدستور في القاهرة دون أن يأخذوا وجهة نظر الجنوب. وأضاف أن دستور الحكم الذاتي لا يعبر بالكامل عن طموح الجنوبيين وأن دخولهم البرلمان لا يغير أو يضعف وجهة نظهرهم بعدم عدالة هذا الدستور. فقد دخلوا البرلمان بإرادتهم وبإمكانهم كذلك أن يختاروا الخروج منه.
في ختام رسالته قال بنجامين لوكي إن الجنوبيين يؤمنون إيماناً جازماً بحقهم كعنصر مختلف عن شعب السودان. ولذلك ينبغي أن يقرروا مستقبل الجنوب بالطريقة التي تناسب أهدافهم، وإذا نشأ وضع أُنكر فيه على الجنوبيين حقهم في تقرير مصيرهم، فإن من حقهم حينئذ أن يطلبوا سماعاً دولياً.
جنوبيون يطالبون بارتباط دستوري مع مصر
عند توقيع اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان في فبراير 1953، كان الحزب الوطني الاتحادي هو الحزب السوداني الوحيد الذي كان يدعو للاتحاد مع مصر. جاء مولد هذا الحزب ثمره لجهد قام به محمد نجيب رئيس وزراء مصر وصلاح سالم عضو مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 ووزير الارشاد القومي والدولة لشؤون السودان فيما بعد. شمل هذا الجهد إجراء وساطة وعقد مصالحات بين الأحزاب الاتحادية المختلفة بغرض توحيدها في حزب واحد. إذ أن حكومة ثورة 23 يوليو كانت تعتقد أن هذا التوحيد سيحسم معركة تقرير المصير لصالح خيار ارتباط السودان بمصر الذي نصت عليه المادة 12 من الاتفاقية. شمل التوحيد حزب الأشقاء (جناح أزهري) ، وحزب الأشقاء (جناح نور الدين) ، وحزب الأحرار الاتحاديين.
نص دستور الحزب الوطني الاتحادي على أن هدف الحزب هو إنهاء الوضع الحاضر، وجلاء الإستعمار الأجنبي، وقيام حكومة سودانية ديمقراطية في إتحاد مصر. وتُحدد قواعد هذا الإتحاد بعد تقرير المصير. من الواضح أن الدستور تجنب تحديد نوع الاتحاد المنشود بل أجل ذلك إلى ما بعد تقرير المصير لأن الأحزاب التي انضوت تحت لواء الحزب الوطني الاتحادي كانت تدعو لانماط مختلفة من الوحدة أو الاتحاد تتراوح بين الانصهار التام والاتحاد الكنفيدرالي. ولم تفلح إطلاقاً في بلورة رؤية متجانسة للاتحاد أو الوحدة التي تنشدها مع مصر.
وفي اجتماع عقدته اللجنة التنفيذية للحزب الوطني الاتحادي في يومي 8 و 9 أبريل 1955، وعلى ضوء توصيات لجنة العشرة (خمسة نواب وخمسة وزراء)، تقرر أن يكون تفسير مبدأ الاتحاد مع مصر وتعريفه هو : أن يكون السودان جمهورية مستقلة كاملة السيادة، وأن يكون هناك تنسيق للمصالح المشتركة بين مصر والسودان وهي: الدفاع، والسياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية، ومياه النيل. أي أن الاتحاد مع مصر لا يعني سوى التعاون بين ندين في إطار المصالح المشتركة.
أصابت قرار الحزب الوطني الاتحادي بالتحول إلى الاستقلال التام صلاح سالم وزير الارشاد القومي ووزير الدولة لشؤون السودان بصدمة شديدة فبذل أقصى الجهود لإضعاف مركز إسماعيل الازهري وتقوية مركز نائبه محمد نور الدين في رئاسة الحزب الوطني الاتحادي واستخدم في ذلك عدة أسلحة. السلاح الرئيس كان الرشوة لشق الحزب الوطني الاتحادي وتأليب الجنوبيين، وتشجيع النزعات الانفصاليه في أوساطهم.
ففي الأسبوع الأول من أبريل 1955 أصدر الأعضاء الجنوبيون في الحزب الوطني الاتحادي وكان بضمنهم بولين ألير وزير الثروة الحيوانية، بياناً قالوا فيه إن ظنهم قد خاب تماماً في زملائهم في الحكومة وبرروا ذلك بما يلي:
أ- إن السودنة بالرغم من كل نضال وضغط الأعضاء الجنوبيين على الحكومة لم يفد منها جنوبي واحد في الخدمة المدنية.
ب- إن رئيس الوزراء وأقرانه قد تعمدوا الإحجام عن التنمية الاقتصادية. مما يعني إعطاء الأسبقية للتنمية الاقتصادية الشمالية تاركين الجنوب تحت رحمة المشاريع الخاصة.
ج- تعمد عدم الأخذ في الاعتبار وجهات النظر الجنوبية السياسية بل تجاهلها دائماً.
د- لما تقدم فإن الأعضاء الجنوبيين في الحزب الوطني الاتحادي يطالبون بالفيدرالية بين الشمال والجنوب وأن تعلن هذه الفيدرالية كسياسة السودان المستقبلية.
ه- إن الارتباط مع مصر أفضل كثيراً من استمرار الأوضاع الحالية.
وفي الأسبوع الثاني من شهر أبريل 1955 بعث 11 من نواب حزب الأحرار رسالة إلى إسماعيل الأزهري قالوا فيها إن شمال السودان قد أصاب قسطه من التقدم في النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بفضل المعونات التي أمدته مصر مباشرة بالجزء الأكبر منها. ثم أبدوا استعدادهم لمؤازرة الحكومة إذا وضعت برنامجاً اقتصادياً وثقافياً لمستقبل السودان ككل لا يتجزأ، أن يقرر بوضوح أنه سوف ينص ضمن الروابط التي تربطه بمصر على ما يضمن تطور المديريات الجنوبية الثلاث. وشددوا على أنهم لن يستريحوا لوجود هذا الضمان إلا إذا وضع به دستور خاص للمصالح المشتركة بين مصر والسودان.
وتأسيساً على ما تقدم أعلن نواب حزب الأحرار الذين وقعوا على الرسالة عدم موافقتهم على القرارات التي أصدرتها لجنة العشرة في 6 إبريل 1955 لأنها لا تلزم البلدين بكفالة مصالحهم وعبروا عن أملهم في أن يراجع الحزب الوطني الاتحادي هذه القرارات.
وقد كان من أبرز الموقعين على الرسالة بوث ديو (نائب وادي الزراف)، وجوشوا ملوال (نائب غرب النوير)، وإيليا كوزي (نائب الزاندي شرق)، ومحمد نجومي (نائب نهر الجور جنوب)، ولينو تومبي لاكو (نائب جوبا)، وإدوارد أدوك (نائب الشلك). وقد سبق أن ذكرنا أن مؤتمر جوبا الثاني الذي في أكتوبر 1954 وشارك فيه كل نواب حزب الأحرار كان قد قرر استقلال السودان ورفض الاتحاد مع مصر.
مؤتمر جوبا الثالث 6-7 يوليو 1955
ترأس بنجامين لوكي في يوليو 1955 مؤتمراً ثالثاً عقد في جوبا وحضره معظم أعضاء البرلمان من مديريتي أعالي النيل والإستوائية. انتقد المؤتمر الأحزاب السياسة الرئيسة وقرر أن يساند الجنوبيون الحزب الشمالي الذي يقدم لهم أفضل صفقة، وأن يحافظوا على تماسكهم ليكون صوت الترجيح في البرلمان في قبضتهم. وقرر المؤتمر أيضاً إرسال وفد إلى الخرطوم برئاسة بنجامين لوكي. وقد فوض المؤتمر الوفد وضع خطة محددة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية للمديريات الجنوبية، وإعداد ميثاق وطني جنوبي بشأن المستقبل السياسي لجنوب السودان.
وفي تقييمه للمؤتمر ذكر المفوض التجاري البريطاني أن المؤتمر مر دون أن يحدث هزة كبيرة. ولم يعلق المفوض أهمية على قرار تشكيل كتلة جنوبية لتسيطر على صوت الترجيح في البرلمان لأن مثل هذا الحديث قد قيل من قبل ولم يتمخض عنه شيء. ولكنه ذكر أن الحكومة والمعارضة تعهدنا لمؤيديها من النواب الجنوبيين بإعطاء الاعتبار لأي خطة تنمية يضعونها.
قرار تقرير المصير (الجلاء)
في بداية جلسة مجلس النواب التي عقدت في 16 أغسطس 1955 أبلغ رئيس المجلس بابكر عوض الله المجلس بالقرار الذي اتخذته لجنة السودنة في 2 أغسطس 1955 والذي نص على أن اللجنة قد أنجزت عملية السودنة. أعقب ذلك تقديم رئيس الوزراء إسماعيل الأزهري لأقتراح بموجب المادة 9 من اتفاقية عام 1953 بحيث يعرب فيه المجلس عن رغبته في الشروع في اتخاذ التدابير لتقرير المصير فوراً، ويطلب من الحاكم العام إخطار الحكومتين المصرية والبريطانية بذلك فوراً. تنص المادة 9 على أنه مع مراعاة إتمام السودنة، فإن فترة الانتقال تنتهي عندما يصدر البرلمان السوداني قراراً يعرب فيه عن رغبته إتخاذ التدابير للشروع في تقرير المصير وإخطار الحكومتين المصرية والبريطانية بذلك.
أُجيز اقتراح الأزهري بالاجماع، وترتب عليه إعمال المادة 11 التي تنص على انسحاب القوات العسكرية المصرية والبريطانية من السودان في فترة لا تتعدى ثلاثة أشهر. لذلك يشار عادة في أدبيات السياسة السودانية إلى قرار تقرير المصير بالجلاء.
إشترك في المداولة في اقتراح رئيس الوزراء عدد من النواب. ولكننا نرى أن هناك أهمية خاصة لحديث بوث ديو الذي قال إنه يتوقع أن تقوم الحكومات الوطنية في المستقبل على المبادئ الديمقراطية. وعبر عن أمله في أن يجد أهل الجنوب في العهد الجديد إستجابة كاملة لمصالحهم المشروعة. وأيضاً إلى تنبيه حسن الطاهر زروق (نائب الجبهة المعادية للاستعمار - واجهة الحزب الشيوعي)، فقد قال إن في المديريات الجنوبية تجمعات قبلية قهرها الاستعمار، وتركها في وضع متأخر بدائي ظالم. ودعا إلى تخليصهم من هذا التأخر والقهر وإلى إعطائهم حقهم في وضع نظمهم المحلية، وتنظيم وضعهم الخاص في نطاق وحدة البلاد ومصلحتها العليا.
سيرد لاحقاً أنه بعد يومين فقط من اتخاذ قرار تقرير المصير وبالتحديد في 18 أغسطس 1955 تمردت الفرقة الاستوائية في توريت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.