من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية د. أحمد الياس حسين كلية التربية جامعة الخرطوم [email protected] وصف بلاد مريس (1) أتى وصف بلاد مريس في بعض المصادر العربية، ولعل أكثرها شمولاً ما أورده ابن أبي الفضائل وابن الفرات وابن سليم. فقد جاء وصف المنطقة لابن أبي الفضائل وابن الفرات عندما تناولا حملة السلطان المملوكي الملك الظاهر بيبرس عام 674 ه / 1275 م على مملكة مُقُرة ودخولها عاصمة المملكة مدينة دنقلة. كما ورد وصف المنطقة عند ابن سليم الأسواني (ت 386 ه / 996 م) الذي دخل مملكة مقرة وقابل ملكها في عاصمته دنقلة مبعوثاً من قِبَل الخليفة الفاطمي في مصر. ويلاحظ أن المصادر العربية الأخرى التي توسعت في ذكر أخبار الحروب بين المماليك ومملكة مُقُرة مثل مؤلفات النويري والمقريزي لم تتعرض لتفاصيل سير حملة الظاهر بيبرس كما فعل ابن أبي الفضائل وابن الفرات. جدول رقم 2 المناطقة بين الشلال الأول وبلاد العَلِي الجدول من إعداد الكاتب أورد كل من ابن أبي الفضائل (759 ه / 1358 م) في كتابه (النهج السديد والدر الفريد فيما بعد تاريخ ابن العميد، في مسعد، المكتبة السودانية ص 252( وابن الفرات (ت807 ه / 1405 م) في كتابه (تاريخ الدول والملوك، في مسعد، المكتبة السودانية ص 267) أسماء عدد كبير من المدن والمواضع في بلاد مريس في المنطقة الممتدة بين الشلال الأول والثاني وقسماها إلى قسمين، القسم الشمالي من جزيرة بلاق جنوب الشلال الأول وحتى ويحادى وهو الموضع رقم 11 كما في الجدول رقم 2، ولم يعطيا إسماً لهذا القسم. والقسم الثاني أطلقا عليه بلاد العَلِي الذي سنتناول مواقعه في المقال التالي. ورغم أن حملة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس قد وصلت إلى مدينة دنقلة وتخطتها جنوباً، إلا أن المعلومات المفصلة عن طريق الحملة التي ذكرها المؤلفان انحصرت كلها في المنطقة الواقعة بين الشلالين الأول والثاني كما يتضح في هذا الجدول (رقم 2) وكما سنلاحظ ذلك في مقالاتنا القادمة. وسنبدأ هنا بتتبع تلك المواضع بتناول المنطقة الواقعة بين الشلال الأول وبلاد العَلِي. منطقة ما بين الشلال الأول وبلاد العَلِي يوضح الجدول رقم 2 أسماء الأحد عشر موضعاً بين الشلال الأول وبلاد العَلِي التي فتحها السلطان المملوكي في حملته على مملكة مُقُرة كما ذكرها كل من ابن أبي الفضائل وابن الفرات في هذه المنطقة. ويلاحظ أن المصادرالتي عاصرت حملات المماليك على مملكة مُقُرة لم تذكر أسماء المناطق التي مرت بها الحملة، وبالتالي لم يرد ذكر في تلك المصادر لهذه الأماكن. وحتى ابنسليم الذي مر بهذه المنطقة لم يذكر إلا موضعين فقط هما جزيرة بلاق ومدينة القصر المجاورتان لأسوان، ثم انتقل من هنالك مباشرة إلى منطقة العَلِي. وقد أورد كل من ابن أبي الفضائل وابن الفرات أسماء المناطق فقط دون التعريف بها أو التعريف ببعضها، وحتى ذِكْرها لم يرد مرتباً حسب موقعها الجغرافي من الشمال إلي الجنوب. ولا يبدو أن المؤلفان قد اعتمدا على نفس المصدر للخلاف الواضح في الأسماء المذكورة. فقد ذكر ابن أبي الفضائل أسماء أحد عشر موضعاً بينما ذكرابن الفرات تسعة مواضع، كما اختلفا في كتابة بعضها كما في الاأسماء أرقام 3 و5 و7 و8 في الجدول. وإذا استثنينا جزيرة بلاق فإنه من الصعب جدّاً التعرف على باقي المناطق لأنها لم ترد في المصادر العربية الأخرى. ومما يزيد الأمر صعوبة إن هذه المنطقة ترقد الآن تحت مياه بحيرة السد العالي. ولعل البحث فيما تيسر من الكتابات التي تناولت سير قادة الكنيسة القبطية، وما تم التنقيب عنة من كتابات باللغات النوبية القديمة واليونانية والعربية، وما تم العثور عليه من مواد أثرية أخرى في المنطقة قبل أن تغمرها مياه السد يساعد في التعرف على بعض معالم تاريخ المنطقة. وإذا رجعنا إلى تاريخ هذه المنطقة في عصر ثقافة بلانة وهي الفترة السابقة للعصر المسيحي فإن نتائج الأعمال الآثارية تمدنا بعض ببعض المعلومات كما يتضح على خريطة آدمز (النوبة رواق افريقيا ص 361) فقد تم الكشف في هذه المنطقة على عدد كبير من الجبانات بلغ ثلاثة وثلاثين موقعاً على طول المنطقة، وتم الكشف أيضا عن مستوطنتين إحداهما مستوطنة كبرى في منطقة كلابشة التي كانت عاصمة للبليميين (البجة) في عصر ثقافة بلانة، ومستوطنة صغري في منطقة وادي العرب في آخرالجزء الجنوبي لهذه المنطقة. وهذان هما فقط الاسمان الذان ظهرا علي خريطة آدمز. وفي الفترة المسيحية المبكرة التي تلت عصر ثقافة بلانة وردت أيضاً على خريطة أخرى لآدمز (النوبة رواق افريقيا ص 416) أسماء أربعة مناطق منها مركز رئيس هو Qurta "كرته" كما هو مكتوب في الترجمة العربية من كتاب آدمز، كما ظهرت أسماء ثلاث مستوطنات محصنه هي من الشمال إلي الجنوب كلابشة وسقمورة وإخميندي، ولا توجد هذه الأسماء أيضاً بين أسماء المناطق التي وردت في فتوحات السلطان المملوكي في هذه المنطقة. كما تضمنت الخريطة آثار خمس عشرة كنيسة على طول المنطقة. ويلاحظ أن الموضع الأخير رقم 11 في الجدول أطلق عليه "إقليم البريك ويعرف بالسبع قرى" فالتعبير بإقليم يوحي بامتداده وسعته. واتفاق الكاتبين على وصفه "بالسبع قرى" يوحي أيضاً بأنه كان منطقة كبيرة ومأهولة بالسكان لوجود سبعة قرى فيه. والتعبير بقرية هنا لا يعني "القرية" بمفهومنا الحالي باعتبارها تجمع سكاني صغير محدود الموارد ولا تتوفر فيها الخدمات والتسهيلات التي تكون عادة في المجتمعات الكبيرة نسبيّاً والتي نطلق عليها مجتمعات المدن. فمفهوم القرية في العصور الاسلامية المبكرة والذي ورد في المصادر العربية يختلف عن مفهومنا الحالي. فالقرية كانت تطلق على المجتمعات الكبيرة نسبيَاً التي نطلق عليها اليوم اسم المدن. فالقرآن الكريم وصف مكة والطائف بالقرية في الآية الكريمة :" وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" (الزخرف:31) وورد استخدام القري في كتب الجغرافيا العربية المبكرة للتجمعات السكانية الكبيرة كالمدن. فياقوت الحموي (معجم البلدان ج 1 ص 15) عرف الكورة بأنها كل منطقة تشتمل: "على عدة قرى ولا بد لتلك القرى من قصبة أو مدينة أونهر يجمع اسمها ذلك اسم الكورة، كقولهم "دارا بجرد" مدينة بفارس لها عمل واسع يسمى ذلك العمل بجملته: كورة دارا بجرد" وأتى استخدام القرية في القواميس العربية المبكرة مرادفاً لاستخدام الكَفْر، قال الجوهري (الصحاح في اللغة ج 2 ص 118): "والكَفْرُ أيضاً: القَرْيَةُ" والكَفر يستخدم مرادفاً للمدينة أيضاَ، فياقوت (معجم البلدان ج 2 ص 482) وصف مكاناً يسمى ب "كفر بيا" بأنه "مدينة بإزاء المصيصة على شاطىء جيحان" فكفربيا أو قرية بيا وصفت بإنها مدينة على نهر جيحون المشهور في المصادر العربية في آسيا الوسطى. فوصف اقليم البريك بالسبع قرى لا يعني القرية بمفومها الحالى، بل يشير إلى تجمعات سكانية كبيرة يمكن إطلاق المدن عليها. ولما كانت هذه المنطقة مجاورة للمسلمين واستقر بعضهم عليها منذ وقت مبكر، كما كانت ضمن منطقة التجارة المفتوحة حيث يسمح للتجار المسلمين دخولها فاننا نتوقع أن يؤدي ذلك إلى نمو وتطور النشاط العمراني أكثر مما كان عليه في السابق. ويبدو أن الأسماء القديمة السابقة لتطور هذا النشاط الجديد قد تغيرت إلى أسماء جديدة خلال القرون التي سبقت حكم أسر المماليك في مصر. وفي نفس الوقت يبدو معقولاً أيضاً أن تكون الأسماء التي وردت في المصادر العربية قد دخلها بعض التحريف أم التبديل لأنها وصلت إلي المؤلفين عبرالروايات الشفاهية التي تتعرض غالباً للتغير مع الوقت. ويظهر ذلك بوضوح في اختلاف أسماء بعض المواضع التي نقلها المؤرخان ابن أبي الفضائل وابن الفرات مع العلم أن الفرق الزمني بين وفاة المؤرخين نحو خمسين سنة فقط أما ابن سليم الذي مر بالمنطقة في طريقه إلى دنقلة فلم يورد فيما وصلنا من معلومات عنه إلا منطقتين كما ذكرنا هما جزيرة بلاق ومدينة القصرالمجاورتين لأسوان. ومن المعروف ان كتاب ابن سليم "أخبار النوبة والمقرة وعلوة والبجة والنيل" مفقود لم يتم العثور عليه، وما وصلنا منه هو ما نقله عنه المؤرخون المتأخرون. والجزء الأكبر مما وصلنا جاء في كتاب المقريزي الخطط والآثار وهو الجزء الذي نقله مسعد في كتابه المكتبة السودانية. فربما تناول ابن سليم بعض الأماكن الأخرى في هذه المنطقة ولم يدونها المقريزي. ذكر ابن سليم (في مسعد، المكتبة السودانية ص 91 - 93) أن جزيرة بلاق هي آخر حصن للمسلمين، وأن "أول بلاد النوبة قرية تعرف بالقصر" وبين أن المسافة بين جزيرة بلاق وأسوان تبلغ خمسة أميال، وبينها وبين القصر ميل واحد. وعلى هذا التحديد فجزيرة بلاق والقصر متجاورتين. وقد اتفقت أغلب المصادر العربية في تحديدها لموقع كل من جزيرة بلاق ومدينة القصر، كما ذكرت المصادر أنه يوجد عدد كبير من المسلمين بجزيرة بلاق، وأنها آخر بلد الاسلام، وأن مدينة القصر هي حد بلاد النوبة ويتم فيها تبادل البقط مع المسلمين.. وذكرابن سليم أن أن مدينة القصر تعتبرالباب لدخول بلاد النوبة، ووضح أنه توجد بها مسلحة، كما ذكر اليعقوبي في تاريخه (مسعد ص 13) أن مدينة القصر محصنة بسور من حجارة. والمَسلحة كما يقول ابن منظور (لسان العرب ج 2 / ص 486) المراد بهم "القوم الذين يحفظون الثغور من العدوّ سموا مَسْلَحة لأَنهم يكونون ذوي سلاح أَو لأَنهم يسكنون المَسْلَحة وهي كالثغر، والمَرْقَب يكون فيه أَقوام يَرْقُبون العدوَّ لئلا يَطْرُقَهم على غَفْلة فإِذا رأَوه أَعلموا أَصحابهم ليتأَهبوا له والمَسالِحُ مواضع المخافة. فمدينة القصر كانت بمثابة الثغر لبلاد النوبة يرابطبها الجنود لحماية حدودهم. ويلاحظ أن المصادر العربية مثل اليعقوبى والمسعودي وصفا القصر بإنها مدينة بينما تناولها ابن سليم باعتبارها قرية حيث ذكر أن "أول بلاد النوبة قرية تعرف بالقصر" فوصْف ابن سليم للقصر بالقرية لا يعنى القرية بمفهومها الحالي كما وضحنا أعلاه، فالقرية في التراث العربي تصدق على التجمعات السكانية الكبيرة. وقد أشار ابن حوقل (صورة الأرض ص 59) إلى جزيرة بلاق وكتبها "ابلاق" بألف قبل الباء، وذكر أنه فتحها عبد الله بن أبي سرح عام 32 ه. ووصفها بأنها: "مدينة في وسط ماء النيل ثابتة في وسط الماء منيعة كالجزيرة، وبينها وبين أسوان ستة أميال، وبحذائها على النيل من جهة المشرق مسجد الرِّويني وقصر آليه، وتحت المسجد بيعة النوبة، وهو آخر حد الاسلام وأول حد النوبة." وأورد مسعد (المكتبة السودانية ص 12) – نقلاً عن محقق كتاب النجوم الزاهرة – معلومات دقيقة عن جزيرة بلاق جاء فيها أنه كانت تعرف ناحيتان باسم بلاق في منطقة الشلال جنوبيأسوان. الناحية الأولى جزيرة تقع على بعد عشرة كيلومترات جنوبأسوان، اسمها المصري القديم "بيلاك" واليوناني "فيلي" والقبطي "بيلاخ" والعربي "بِلاق". وبالجزيرة الكثير من المعابد، وتعرف اليوم باسم جزيرة القصر. أما الناحية الثانية التي عرفت باسم بلاق بلدة تقع على الشاطئ الشرقي للنيل، إليها تنتهي السفن المبحرة شمالاً وجنوباً. ووضح أن جزيرة بلاق وقرية القصر في المصادر العربية تعودان إلى هذين الموضعين. وقد تناولت المصادر موضعاً آخر بهذا الاسم نتناوله لاحقاً. وصف ابن سليم الشلال الأول ووضح صعوبة الملاحة فيه إلا للخبراء الذين يعرفون المنطقة جيداً، وذكر أن المسافة بين الشلالين الأول والثاني عشر مراحل، ووضح أن هذه هي المنطقة التي يدخلها المسلمون و"يتصرفون فيها ويتجرون في أعلاها، وفيها جماعة من المسلمين قاطنون، لا يفصح أحدهم بالعربية." فالمسلمون مسموح لهم بالإقامة والتجارة وحق التملك في هذه المنطقة. ويبدو مقبولاً أن تكون هذه هي المنطقة التي حدث فيها النزاع بين ملك النوبة وبين المسلمين الذين اشتروا ضياع من مواطني مريس، إذ احتج ملك النوبة لدى الخليفة العباسي المأمون عند زيارته لمصر بأن رعاياه من النوبة لا يملكون حق الملكية والتصرف في تلك الأراضي لأنها ملك للملك وما هم إلا عبيد للملك. فأحال الخليفة القضية للقضاء. وقد أورد المسعودي (مروج الذهب ج 2 ص 22) ونقله المقريزي (المواعظ والاعتبار ج 2 ص 296) اتفاق المسلمون مع المريسيين الذين اشتروا منهم تلك الضياع بأن لا يقروا بالعبودية لملكهم عندما يسألهم القاضى عن ذلك. ولما لم يقروا بالعبودية لملكهم أصبحوا أحراراً في التصرف في ممتلكاتهم وحكم القضاء بصحة البيع. ولعل في هذه الحادثة إذا افترضنا صدقها ما يلقي الضوء على طبيعة علاقة المواطنين في مملكة مقرة بملكهم، تلك العلاقة التي جرت العادة باعتبارها علاقة عبودية. كما تلقي هذه الحادثة أيضاً ضوءً على العلاقات بين ملوك مقرة والمسلمين وسبل حل المشاكل بينهما. وإشارة ابن سليم إلى وجود مسلمين من أهل مريس لا يتحدثون العربية يدل على قلة انتشار الاسلام في المنطقة، ويعني ذلك أيضاً قلة عدد المسلمين المستقرين في المنطقة من غير أهل مريس. لأن انتشار الاسلام يصاحبه دائماً انتشار اللغة العربية، فعدم انتشار اللغة العربية مؤشر على قلة عدد المسلمين الناطقين باللغة العربية في المنطقة. كما يلاحظ أن ابن سليم لم يشر إلي وجود مسجد في المنطقة والمسجد الذي أشار إليه ابن حوقل يوجد داخل حدود المسلمين. ووصف ابن سليم هذه المنطقه بأنها: "ناحية ضيقة شظفة كثيرة الجبال، أعلاها أوسع من أدناها" ووضح بأن النيل أعلى من مستوى الأراضي الزراعية، ولذلك اختلف نظام الري عنه في مصر حيث الري الفيضي. أما هنا – كما ذكر - فالمساحات المزروعة محدودة "وزرعها الفدانين والثلاثة على أعناق البقر بالدواليب." وتحدث عن الدورة الزراعية الصيفية والشتوية ، واستخدام الزبل سماداً للأرض حيث يزرعون الدخن والذرة والجاورس والسمسم واللوبيا، وأشارإلى أن القمح عندهم قليل بينما يتوفر الشعير، ووضح وجود شجر النخيل والكروم والمُقْل وهو شجر الدوم. تنبيه . تنشر هذه الموضوعات في جريدة الصحافة اليومية