كثير من المراقبين السياسيين تتملكهم الدهشة عند النظر للسهولة التي تخلى بها المؤتمر الوطني عن جنوب البلاد الذي أصبح دولة ذات سيادة منذ أشهر برغم دعاواه بأنه تنظيم وحدوي. ولكن المتابع لموقف الحركة الإسلامية الفكري من قضية الجنوب تاريخياً ووضعها للأمر برمته بين حدي الأسلمة أو الفصل ، يستطيع أن يرى بوضوح لماذا هلل التيار الإنفصالي بالحركة الإسلامية عبر ذراعه المسمى منبر السلام العادل للإنفصال وعمل له بجهد، في حين تدثر المؤتمر الوطني حامل الفكرة الأساس خلف شعارات الوحدة التي رفض دفع إستحقاقاتها. فالواقع هو أن التيار الإنفصالي بالحركة الإسلامية وعلى رأسه الرئيس عمر البشير، كان قد حسم خياراته باكراً و منذ الوصول إلى السلطة عبر إنقلاب الإنقاذ وتيقنه من إستحالة أسلمة الجنوب بالقوة لمعرفة وإلمام بطبيعة التوازن العسكري، وعمل داخل الحركة الإسلامية وبصوت مسموع لقيادتها من أجل فصل الجنوب عن الشمال لبناء دولة دينية خالصة في شمال السودان. وعضد خياره هذا بالحديث عن تخفيف الضغط الدولي الناتج عن إرتباطات الجنوب والدعم الدولي الذي يتلقاه في مواجهة الدولة الدينية في الشمال، وإلى ماتتكبده الخزينة العامة من الصرف على حرب لن تؤدي للنتيجة المرجوة (أي الأسلمة)، مع تصوير أن الجنوب نفسه يشكل عبئاً كبيراً على هذه الخزينة بما يتطلبه من تكلفة إعمار حتى وإن توقفت الحرب وأصبح من الممكن إستعادة الأمل في مشروع الأسلمة. ومن الواضح أن التيار الإنفصالي بالحركة الإسلامية هو تيار يائس من نجاح مشروع الأسلمة ومتشبث بإستقرار النظام السياسي المتمكن عبر الإنقلاب في رقعة تمثل شمال السودان فقط، غير عابئ بالمشروع الطموح للحركة الإسلامية. في المقابل كان هناك تيار شيخ الحركة الإسلامية د. حسن الترابي الذي تمسك بمشروع الحركة الطموح الرامي لأسلمة ليس جنوب السودان فحسب، بل أفريقيا الجنوبية بمجملها، والذي يعتبر الجنوب جسراً مهماً لتنفيذ برنامجه ولا يرغب في إهدار الجهد الكبير الذي بذلته الحركة الإسلامية والمنظمات التابعة لها في إستقطاب قطاع لايستهان به بجنوب السودان لمشروع الحركة. وبالقطع لم يكن من الممكن أن يتم تبني موقف التيارين في نفس الوقت لأن التباين بينهما كان واضحاً وضوح الإختلاف حول زوال الضرورة التي أسست للإنقضاض على النظام الديمقراطي من عدمها بإعتبار أن الإنقلاب نفسه قد إنبنى على فقه الضرورة التي يجب أن تقدر بقدرها. فمثلما اتفق المؤتمران الوطني والشعبي في حال الوحدة على وجود ضرورة ملجئة تحتم إستلام السلطة عبر الإنقلاب ووجود فترة تمكين واختلفا في إنتفاء الضرورة لاحقاً، إتفقا حول مشروع الأسلمة واختلفا حول اليأس من حدوثه ووجوب التخلي عنه والقبول بفصل الجنوب. فشيخ الحركة الإسلامية يأبى القبول بفشل المشروع لمرة وإلى الأبد ويسعى لقبول وحدة تؤسس لأسلمة هادئة وطويلة الأمد في ظل الدولة الأصل حسب تصوره، والمؤتمر الوطني يرى في فشل الأسلمة بالقوة نهاية المطاف ويرغب في تأسيس دولته في شمال السودان فقط. لذلك حين وقع المؤتمر الوطني إتفاق نيفاشا كان يقوم بمحاولة أخيرة لحماية دولته من التأثير السلبي للجنوب المدعوم دولياً، بحيث إرتضى صفقة تعطي الجنوب برمته للحركة الشعبية بشرط أن تقبل الأخيرة بدولته الدينية الخالصة في الشمال. وقبل كذلك بمرحلة إنتقالية لتجريب هذه المساكنة يستفتى بعدها الجنوب فيما إذا كان راغباً في الإستمرار فيها أم لا؟ وبالطبع لم يكن المؤتمر الوطني ممانعاً في إختيار الجنوبيين أياً من الخيارين. ففي حال قبول الوحدة وفقاً لدولة نيفاشا ، يكون الجنوبيون قد وافقوا على بقاء دولته الدينية في الشمال كما نصت عليها نيفاشا ولاسبيل حينها للحديث عن سودان جديد ومشروع بديل لدولته في الشمال. أما في حال التصويت للإنفصال يقوم ببناء دولته الدينية الخالصة في الشمال والتي أسماها الجمهورية الثانية مؤخراً والتي بشرنا الرئيس البشير بأنها دولة شريعة خالصة (غير مدغمسة)!. وقد يقول قائل كيف للمؤتمر الوطني أن يتخلى عن ثروات الجنوب ويرغب في الدخول في أزمة إقتصادية وابتلاءات قد تعصف بحكومته الدينية المزمع ترسيخها في الشمال. والإجابة هي أن المؤتمر الوطني كانت له رهانات خاطئة وحسابات انبنت على قصر نظر وجهل بحقائق ماكان لمن يتعامل مع الواقع بجدية أن يجهلها. فالحزب المذكور الذي ظل يبشر طوال فترة ماقبل الإنفصال بأن أثر الإنفصال هامشي على الإقتصاد، كان يراهن على مايلي: 1. قدرته على إبتزاز حكومة دولة الجنوب الوليدة في موضوع تصدير نفطها مما يمكنه من تحصيل عملات صعبة وتجسير الهوة التي يخلفها الإنفصال إن لم يكن ردمها بصفة شاملة. وفي هذا أسقط من حساباته العامل الدولي ومصلحة الصين الجائعة للطاقة وذات الإستثمارات المؤثرة في بترول الجنوب، بالإضافة إلى رغبة المجتمع الغربي عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً في استقرار دولة جنوب السودان. وهذا بالطبع جعل هامش المناورات محدوداً للغاية إن لم يكن معدوماً والدلالة هي الفشل في الوصول لصيغة إبتزازية بعد مرور حوالى نصف عام منذ تاريخ الإنفصال. 2. الضغط على حكومة دولة الجنوب عبر دعم عناصر عدم الإستقرار الأمني فيها وتسليح المليشيات المعادية لها بالجنوب، مع ضغط مركز على قطاع الشمال بالحركة الشعبية وتجريده من الفاعلية السياسية وحشره حشراً في مواقع الدفاع، للمساومة ورفع سقف المطالب في حال حدوث مفاوضات حول أياً من القضايا العالقة. 3. رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية بحيث تصبح الإستدانة من المؤسسات المالية الدولية ممكنة ويرفع الحصار الإقتصادي عن دولة الشمال، وخصوصاً وأنها قد نفذت روشتة صندوق النقد الدولي المدمرة بحذافيرها وتركت الإقتصاد السوداني مكشوفاً وفريسة سهلة للدولة الإستعمارية لتلتهمه متى رغبت في ذلك. 4. إسقاط دين السودان الخارجي الذي يشكل عبئاً كبيراً ليس من حيث أصله فقط بل من حيث خدمة الدين ذات الكلفة العالية، خصوصاً وأن السودان في ظرفه الراهن لايملك مصادراً للسداد أخذاً في الإعتبار الأزمة الإقتصادية المستحكمة التي يمر بها. 5. تحسين وضع الميزان التجاري بالتخلص من واردات الجنوب مع فرض رسوم جمركية ورسوم عبور إبتزازية على تلك الواردات بالإضافة إلى التخلص من تكلفة إعادة إعمار الجنوب الذي دمرته الحرب لمرة وإلى الأبد. 6. تحصيل مبلغ الخمس مليارات دولار الموعودة من قبل المجتمع الدولي لدعم تنفيذ إتفاق نيفاشا مع تحصيل مليار دولار خصصت في القمة العربية بسرت لدعم السودان، إضافةً للرهان على دعم الدول العربية الغنية الصديقة لنظام الإنقاذ لتجاوز المرحلة الحرجة الراهنة، وفي نفس السياق محاولة تحصيل أموال ولو على سبيل القروض من الصين تحديداً. 7. الإستفادة من الدعم السياسي لحكومات الإسلاميين المتوقع إستلامها للسلطة في كلاً من تونس ومصر وليبيا، لتخفيف عزلة نظام المؤتمر الوطني والقيام بإختراقات في علاقات النظام بمحيطه لتخفيف وطأة العزلة الخانقة التي يعاني منها وتجسير العلاقات بصورة غير مباشرة مع الغرب بالأخذ في الإعتبار قبول الغرب لوصول هذه الحركات للسلطة بل ودعمه المباشر لها كما في حالة ليبيا. 8. الضغط على المعارضة السياسية الداخلية- خصوصاً الحزبين الكبيرين، وابتزازها للمشاركة في السلطة من مواقع التبعية حتى ولو عبر إحداث إنقسامات بهما لتخفيف الضغط الداخلي خصوصاً بعد إنفراد المؤتمر الوطني بالبرلمان عبر التزوير الفاضح. والناظر للرهانات المثبتة أعلاه، يجد أنها جميعاً باءت بالفشل. فلا المؤتمر الوطني نجح في إبتزاز حكومة دولة الجنوب عبر مسألة تصدير النفط أو دعم المليشيات المعادية لها، ولا الولاياتالمتحدةالأمريكية قامت برفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب أو أسقطت ديونه الخارجية، ولا المؤتمر الوطني تمكن من الحصول على المليارات الموعودة، ولا هو استفاد من دعم الحركاتالإسلامية المرشحة للصعود للسلطة في البلدان المجاورة والت تتبرأ منه تبرؤ الصحيح من الجمل الأجرب حتى تستوفي الشروط التي تسمح لها بالصعود لدست الحكم، ولا هو نجح حتى الآن في إبتزاز الحزبين الكبيرين أو تقسيمهما للمشاركة في السلطة حتى اللحظة الراهنة. خلاصة الأمر هي أن رهانات المؤتمر الوطني التي بنى عليها خطابه السياسي المقلل من الأثر الإقتصادي المدمر لإنفصال الجنوب كانت جميعها خائبة. ولعل ذلك يفسر حالة التخبط التي يعيشها الآن. فهو لم يكن ذاهلاً عن مخاطر الإنفصال، ولكنه أنكرها وقلل منها إستناداً للرهانات الوهمية المثبتة أعلاه. وبما أنه لم يراهن على مافي يديه بالفعل مثل خفض الإنفاق الحكومي وإعادة هيكلة الإقتصاد لمصلحة العملية الإنتاجية في القطاعين الزراعي والصناعي، وإيقاف نهب أموال الدولة عبر عملية الخصخصة، ومحاربة الفساد، فإن النتيجة الحتمية هي الفشل الراهن الذي لاتخطئه عين، والمعاناة التي فاقت أسوأ السيناريوهات توقعاً. 15/11/2011م Ahmed Omer [[email protected]]