تبني الدبلوماسية مداميكها القوية على ارض الانطباعات الانسانية ، أكثر مما تفعل قي الجغرافيا والمصالح والوقائع . عندما دخل السفير السوداني الصديق جمال محمد ابراهيم إلى بيروت ، قصد الباب الأبهى ، وهو الأديب ومن ذوي البهاءات ، أعني باب الثقافة والكلمة والانسان وابتسامة القلب . حين قرأت له مجموعته الشعرية : "إمرأة البحر أنت . ." قلت إنه شاعر صاحب رؤية ومتمكن من أدواته ، ولديه وقفته الخاصة أمام القصيدة . وعندما قرأت روايته "نقطة التلاشي" شعرت كم أن غياب المرجع في الحالة العربية يقض مضاجعنا ، ويزيد من عوامل التفرقة وتقطيع الأوصال ويقذفنا في فضاء مجهول . ولما قرأت روايته الأخيرة "دفاتر كمبالا" ، قلت هذه ليست رواية بل كشف عن زمن وهوية وحب في الأفريقي . موسم الهجرة إلى الجنوب معكوسة . غوص عكس التيار في معرفة الذات وشجر الأرض وتاريخ القبائل . وفي مخطوطته " الدبلوماسية الكولونيالية" ، رأيته باحثا مرهفا ودقيقاً ومتماسكا . وعند ما تعاونا في دعوة الشاعر السوداني عالم عباس محمد نور إلى بيروت لنشر وتوقيع كتابه "في انتظار الكتابة " ، وتقديمه من قبل الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا في معرض الكتاب العربي والدولي ، اكتشفنا معا كم أن المبادرات الثقافية تفيد العلاقات العربية الحقيقية أكثر بكثير مما تفعل البيانات والخطب الرسمية ، وكم أن الخطوة الثقافية مباركة ومضيئة في العمل العربي المشترك . جمال محمد ابراهيم لم يكن سفيراً عادياً ، بل كان سفيراً فوق العادة في شعر العمل السياسي ، وصديقاً استثنائياً للبنان ، حمله في قلبه مثلما حمل السودان إليه ، وكذلك صديقا كبيرا لبيروت الثقافة والحب والابداع. ولما غادر لبنان لانتهاء مهمته ترك جذوة قلبه وكتبه وصداقاته وترك فنجان قهوته على الطاولة ، حاملاً الكتب والحب والذكريات ، وحمل معه أحلى ما يمكن أن يقدمه الانسان للإنسان . ناقد وناشر لبناني