معاشيونا ينتظرون وما بدلوا تبديلا - وإن تبدلت الخدمة المدنيّة على غرار يوم الأم و يوم الأب و يوم االطفل: دعوة ليوم عالمي للمعاشي بقلم: د . حسن عابدين E-mail: hasabdin @hotmail.com حدثني طبيب ياباني متقاعد التقيته في لندن قبل بضع سنوات في حفل دبلوماسي بأنه مدير لمؤسسة شبه حكومية مقرها طوكيو تختص بإعادة توظيف المتقاعدين من الخدمة المدنية في اليابان وهي غير الهيئة الحكومية المعنية برعاية شئون المعاشيين الاجتماعية و استحقاقاتهم المالية و امتيازاتهم بعد التقاعد . المؤسسة التي يديرها الطبيب الياباني تعيد " تدوير " و استثمار مؤهلات وخبرات المعاشيين في مواقع و وظائف إدارية و مهنية تحتاجهم أكثر من حاجتهم هم لها.. المعاشيون الذين يظن أنهم أعطوا خلال سنوات خدمتهم قبل الستين - وما استبقوا شيئاً - هم محط أنظار هذه المؤسسة اليابانية . تحدث الطبيب عن التزاحم و التكالب على اصطياد هؤلاء المعاشيين في بلاده على اختلاف فئاتهم و تخصصاتهم العلمية : وكلاء وزارات سابقين و أساتذة جامعات و باحثين و سفراء و مدراء زراعيين و بياطرة و أطباء و خبراء في ميادين الاقتصاد و الهندسة و التعليم الخ ... تتكالب على إعادة توظيف هؤلاء ، وغيرهم كثر ، الشركات و الجامعات ومراكز البحوث و الدراسات و المنظمات الخيرية و الطوعية و مجالس الأمناء و مجالس الإدارات و حتى المرافق السياحية و الخدمية مثل المنتجعات و الفنادق الكبيرة . حدثنا الطبيب كيف تعيد مؤسسته تأهيل هؤلاء بسد فجوات المعرفة المتجددة في مهاراتهم اتساقاً و مواكبة للمستجدات في نظم الإدارة و أساليب الاتصال و التواصل الإلكتروني – وهو تأهيل و تدريب لا يستغرق سوى بضع أسابيع تعيد لمن هم فوق الستين شبابهم المهني و تجعلهم رصفاء لمن هم دون هذه السن من حيث امتلاك ناصية المعارف الجديدة و التقنيات الحديثة في تنظيم و إدارة المؤسسات الإقتصادية والهيئات العلمية و البحثية و الإرتقاء بمستويات الإدارة و الجودة . شاركني الاستماع و الحوار مع صديقنا الياباني سفير بريطاني متقاعد عمل سفيراً لبلاده في عدد من العواصم العربية و يحسن التحدث بالعربية بلهجة مصرو- يمنية . قال السفير أنه بعد التقاعد ظل يعمل حتى ساعة حوارنا ذاك مديراً للعلاقات العامة بفندق كارلتون- أحد أشهر الفنادق في وسط لندن . نعم سفير سابق يعمل موظف علاقات عامة في فندق !! قلت له مازحاً متعمداً تبسيط الأشياء بلغة سودانية : أيجوز و يصح يا سعادة السفير أن يعمل سفير صاحبة الجلالة ضابطاً للعلاقات العامة في " لوكندة " ؟! فأجابني : و لم لا ياسيدي السفير ؟ ثم استطرد قائلاً : أنا أخاطبك و أنت على أعتاب التقاعد فأقول إن خدمتي في أحد الفنادق مديراً للمراسم و العلاقات العامة امتداد و استمرار لأدواري الدبلوماسية.. أليس ذلك شكلاً من أشكال العمل الدبلوماسي .. أليست هي بضاعتنا ردت إلينا بعد التقاعد ؟! و هل الدبلوماسية إلا علاقات عامة منهجها الدعاية و الترويج و التسويق و الإغراء و الترغيب و محورها تحقيق المصلحة و الربح ؟! جال في خاطري و أنا استمع للسفير المتقاعد قصة رفيق آخر لدربه و هو الدبلوماسي البريطاني الذي عمل بعد التقاعد مشرفاً على الخيول وإسطبلاتها في بلاط أمير / شيخ في دولة عربية .. سبق أن اعتمدته عاصمتها قبل عقود خلت سفيراً لبلاده لديها ! و سفير صاحبة الجلالة الآن مدير لاسطبلات صاحب السمو ! هل يا ترى يقبل أحد سفرائنا السابقين أن يعمل مثلاً مديراً للعلاقات العامة و المراسم في واحد من فنادق العاصمة الشهيرة ؟ أو يعمل " سايساً " أو راعياً يرعى خيول نادي الفروسية ؟! لكن السؤال الأهم : هل يوجد من يجرؤ على أن يقدم له مثل هذا العرض ؟! و من باب الاستطراد المحبب للنفوس والاسماع روى لي محدثي السفير البريطاني المتقاعد كيف أنهم " الدبلوماسيين " عملوا سدنة للامبراطورية و رافعي علمها و خدامها و دانوا بالولاء لها و لملوكهم و ملكاتهم الذين بادلوا ولاءهم بحب كحب جدتهم – كما قال السفير – الملكة فكتوريا لكلابها في القصر التي يؤثر عنها أنها قالت أن سفراءها مثل كلابها تحبهم و ترعاهم ولا يجوز لهم أن يعلقوا حول أعناقهم أو على صدورهم أوسمة أو نياشين سوى قلادتها . ( من المعروف أنه يحظر على سفراء بريطانيا إلى يومنا هذا تلقي أو قبول الأوسمة و النياشين من دول أجنبية . تكرمهم فقط ملكتهم و لا أحد غيرها: ملكاً كان أم رئيساً ، شيخاً أو أميراً ) . ( للكلب في الثقافة الاجتماعية الغربية – الله يكرم القراء – مقام و محبة في القلوب و قبلات على الخدود ! ) . جرني تداعي الخواطر و الذكريات عن ذلك الحوار السوداني البريطاني الياباني الوجيز في فندق الكارلتون بلندن إلى التفكر في مآلات المعاشيين و إلى تجربة هيئة المستشارين بوزارة مجلس وزرائنا التي ظللتُ من المراقبين لها استشعاراً من بعد التي أحسب أن بها صفوة ممتازة من خيرة المعاشيين و الخبراء الوطنيين ذوي المؤهلات العالية و الخبرات المتنوعة و بينهم و معهم ناشئة المعاشيين ( حديثي التقاعد ) و من هم قاب قوسين أو أدنى من ذلك.. و لكني ساءلت نفسي غير مرة عن مصير مداولات و توصيات هذه الهيئة و أثرها في رسم السياسات و اتخاذ القرارات .. و كيف يقاس أو يقيّم هذا التأثير ؟! وهل يحدث مثل هذا فعلاً ؟! و هل هناك آلية فاعلة و نشطة للإسترجاع ( Feedback ) ؟! أقول هذا لأني لم أعد أحسن الظن بصنعة الإستشارة و مهنة المستشارين في بلادنا و في رئاسة حكوماتنا و دواوين خدمتنا المدنية و ذلك لغياب المؤسسية و منهج العمل و الأداء المؤسسي الذي يستقطب صاحب الخبرة و التأهيل و التخصص و يستأجره - و لا غير صاحب الخبرة و التأهيل و التخصص يقرّب و يستقطب و يكافأ حتى و إن لم يستشار أو يستنصح . ( شكا لي صديق و زميل دراسة أنه أمضى عامين مستشاراً لوزير .. لم يستشر فيها إلا مرة واحدة حينما سأله الوزير أيهما أنفع و أجدى لإبنه – إبن الوزير – الدراسة الجامعية داخل السودان أم ابتعاثه للدراسة بالخارج !! ) . لو كنت من النيفاشيين الذين صمموا ووقعوا اتفاق السلام الشامل في نيفاشا لاقترحت عليهم برنامج DDR ) ( للخدمة المدنية : دمج و تسريح و إعادة تأهيل و توظيف تماماً كما فعلنا و نفعل أو بالأحرى كما فعل و يفعل بنا بروتوكول الترتيبات الأمنية الملحق باتفاقية السلام . وعلى كثرة التنازع و الصراخ حول عدم تنفيذ ما نص عليه اتفاق السلام حول اقتسام السلطة و الثروة و هذه الترتيبات الأمنية لم نسمع ولا كلمة واحدة - ناهيك عن صرخة مدوية - عن عدم تنفيذ ما نص عليه الاتفاق حول إصلاح الخدمة المدنية . صحيح أن مفوضية للخدمة المدنية قد نشأت وعكفت على أداء مهامها إلا أن هذا الأداء تقاصر عن المرجو و المطلوب إذ بعد أربع سنوات من عمر اتفاق السلام تم فقط إختيار بضع عشرات من أبناء الجنوب في الوظائف الهيكلية الإدارية التي منحهم إياها الاتفاق . و غني عن القول أن لا صلة لهذا الأمر – من الناحية الموضوعية - بإصلاح الخدمة المدنية فهو قرار سياسي يرمي إلى تأكيد حق أبناء الجنوب - فعلاً لا قولاً – في وظائف مدنية وسيطة و عليا في الإدارة المركزية للدولة . و الواقع إن مثل هذا التوظيف – خارج هذه النظرة و لإعتبارات سياسية – إنما هو إضافة عبء جديد و ثقيل على سلك الخدمة المدنية المثقل أصلاً بالفائض الإداري - أي العطالة المقنعة التي تعج بها دواوين الخدمة الحكومية- : كثرة كغثاء السيل و نقص في القدرات . و أحسب أن ما تحتاجه الخدمة المدنية هو فعلاً الدمج و التسريح و إعادة توظيف المعاشيين و المتقاعدين من ذوي الرغبة و القدرة و العافية و ليكن هذا مدخلا من مداخل الإصلاح و التطوير و منهجاً من مناهج إعادة حشد وحسن توظيف الموارد البشرية . و أقول - ختاماً – لرفقاء الدرب الطويل من صفوة المعاشيين و المتقاعدين إنها ليست المحطة الأخيرة في رحلة القطار .. و تذكّروا أن من أمثال الفرنجة و مواعظهم : Do not stop doing things BECAUSE you are old; Keep doing things WHILE you are old !!! أي : لا تترك فعل شئ لأنك تكبر و تشيخ بل أفعل و إعمل و أنت تكبر و تشيخ .. و ليكن العزاء و السلوى لمن كبر و شاب في قول أبي نواس : و ما إن شبت من كِبر ولكن *** لقيت من الحوادث ما أشابا و مثله قول عروة بن الورد : فما شاب رأسي من سنين تتابعت *** طوالا ولكن شيّبته الوقائع مقترح في ضوء الحوار الذي دار بيننا – الطبيب الياباني / السفير البريطاني / و شخصي – الذي أشرت إليه أعلاه ، تبين لي أن قضية كيفية الاستفادة من المعاشيين ليست وقفاً على بلد دون الآخر بل - مع تطور الرعاية الصحيّة و بلوغ أعداد متزايدة من العاملين في القطاع العام لسن التقاعد وهم في كامل صحتهم البدنية و الذهنية - أضحت قضية عالمية ( Universal ) . و قد علمت مؤخراً أن منظمات للسفراء المتقاعدين في دول كبيرة مثل الصين و روسيا قد أجرت اتصالات في الآونة الأخيرة مع رابطة سفرائنا المعاشيين إما مباشرة – في حالة روسيا - أو عن طريق بعثتنا الدبلوماسية – في حالة الصين - وذلك بغرض تبادل الخبرات واستكشاف فرص التعاون . وفي ضوء أعلاه أيضاً، خطر لي أن أطرح للنقاش فكرة / مبادرة / اقتراح – سمّها ما شئت – ابتداع يوم عالمي لتكريم المعاشي تقديراً لما بذل من جهد و عطاء خلال سني خدمته الطويلة يمكن أن نطلق عليه ( اليوم العالمي للمعاشي ) أو مجرد ( عيد المعاشي ) على غرار أعياد الأم والأب و المرأة و الطفل و المعلم و عيد الحب و أعياد أخرى كثر . و يسعدني أن أشير إلى أنني قد أطلعت بعض الأصدقاء ( معاشيين و غير معاشيين ) على فحوى الحوار الذي دار بيني و الطبيب و السفير - ومن ثم الفكرة التي خطرت لي بتخصيص يوم عالمي للمعاشي فلاقت الفكرة لديهم استحساناً و ترحيباً كبيرين .