الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    بعد حضور والده من المملكة.. جثمان التيك توكر السوداني جوان الخطيب يوارى الثرى بمقابر أكتوبر بالقاهرة ونجوم السوشيال ميديا يناشدون الجميع بحضور مراسم الدفن لمساندة والده    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كيمياء السلطة في السودان .. بقلم: حامد بدوي
نشر في سودانيل يوم 01 - 02 - 2012

الثابت أن الحركة السياسية السودانية قد نشأت وهي مقسمة إلى ثلاثة مشاريع سياسية كبرى، هي المشروع الاستقلالي الديني والمشروع العروبي الاتحادي والمشروع الحداثي العلماني. وكيف إن هذه المشاريع السياسية باعتبارها تصورات سياسية لمستقبل الوطن وهو على أعتاب الاستقلال، قد جاءت متباعدة ومتنافرة وبلا قاسم مشترك وكأنها ثلاثة تصورات لمستقبل ثلاثة أوطان مختلفة. فليس ثمة أرضية واحدة تجمع ما بين دولة اتحادية كبرى يكون السودان فيها إقليما مصريا، وبين دولة ثانية مستقلة هي، في جوهرها، استعادة للحكم الدينيالمهدوي الذي دمره الفتح الانجليزي– المصري، وبين دولة ثالثة لبرالية تعددية علمانية على نمط الدولة القومية الحديثة في أوروبا .
يقترح هذا الوضع السياسي منطقا يقول أن تجلى أي من المشاريع السياسية على السلطة يعنى بالضرورة نفى و إبعاد المشروعين الآخرين من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تجلى أي مشروع سياسي على السلطة لا يتم إلا باستخدام القوة. فحركة سياسية مقسمة إلى ثلاثة أفرع، لا تتيح لأحد الأفرع ان يكّون سلطة أغلبية بالوسائل الديموقراطية. ففي كيمياء السلطة في السودان، فإن مجموع اثنين دائما اكبر من الواحد. إذنالقوة هي الآلية الوحيدة لانفراد أحد هذه المشاريع بالسلطة. وهذا يعنى أمرا واحدا، وهوأن الانقلاب العسكري هو الآلية الوحيدة لاستلام السلطة في السودان .
غير إن واقع الحال يشهد إن الأمر ليس كذلك إذ يعلم الجميع بأن هنالك آليتين غير الانقلاب للوصول إلى السلطة في السودان. فهناك الحزب السياسي وسيلة من وسائل الوصول إلى السلطة وهنالك أيضا التمرد المسلح. هذه الآليات الثلاث لاستلام السلطة حددت السياق السياسي السوداني في ثلاث ظواهر سلطوية هي:
1 - ظاهرة السلطة الديمقراطية التعددية وآليتها الحزب السياسي.
2 - ظاهرة السلطة الشمولية العسكرية وآليتها الانقلاب العسكري.
3- ظاهرة سلطة الحرب الأهلية وآليتها التمرد المسلح في الجنوب.
وللوصول إلى فهم اشمل لكيمياء السلطة في السودان فإن علينا إن ندرس كل ظاهرة من هذه الظواهر ثم نتتبع بعد ذلك تطور أو تدهور آليتها، لأن ذلك يعطينا صورة واضحة عن اتجاهات حركة السياق السياسي السوداني ويعيننا في تلمس الأبعاد الحقيقية للأزمة السياسية السودانية الراهنة.
1 - السلطة الديمقراطية والحزب السياسي
نشأت الأحزاب السياسية السودانية الرئيسية ذات الثقل الجماهيري والأقرب دائما للوصول إلى السلطة، نشأت منقسمة حول مبدأين لا ثالث لهما. الاتحاد مع مصر أو الاستقلالالتام . ونجرأ على القول هنا إن كلا المبدأين زائف. فمن ناحية، كيف ينشا حزب سياسي وليس له من هدف سوى إلغاء وجود الوطن بضمة إلى دولة جارة؟ ومن ناحية أخرى فإن شعار (الاستقلال التام) كان هو الآخر تعبيرا عن مبدأ زائف إذ لم يكن يهدف حقيقة إلى تحقيق الحرية السياسية للشعب السوداني، وإنما كان يرمى إلى إعادة الدولة الشمولية الدينية.
إذن ثمة بعد مضمر يكمل المعلن من الشعارين السياسيين الذين رفعهما التيارانالكبيران، (الاستقلالي الديني) و(الاتحادي العروبي)، في بداية الحركة السياسية الوطنية. أما البعد المضمر في شعار (الاتحاد مع مصر) فهو: (إجهاض مشروع إعادة الدولة المهدية). وبهذا يكون البعد المضمر من شعار: (الاستقلال التام)، هو: (عودة السودان كما كان قبل الفتح الانجليزي - المصري محكوما بواسطة أهله الذين هم الانصار). وهذا تحديدا ما أسموه طموحات السيد عبد الرحمن المهدى والتي أرهبت مصر والاتحاديين والختمية والإدارة البريطانية في السودان. فقد كتب المستر وليام قلن بلفور بول الذي عمل إداريا في السودان خلال تلك الحقبة، كتب قائلا:
(كانت المنافسة القائمة منذ أمد طويل بين الطائفتين المسلمتين الرئيستين أتباع السيد عبد الرحمن المهدى والختمية الرافضة للمهدية ، بقيادة السيد على الميرغنى، أشد ضررا علي التطور المستقر للقطر من مؤتمر الخريجين فيما يعتقد معظم الإداريينالبريطانيين. وقد كان مفهوما أن تقمع المهدية المتجددة في السنوات المبكرة للحكم الثنائي وأن يخلع التأييد على الطائفة الرئيسية في معارضتها لها. وكانت سياسة رد الاعتبار للسيد عبد الرحمن قد أملاها على البريطانيين عند اندلاع الحرب العظمى في عام 1914، الرغبة في مقاومته دعوة العثمانيين إلى الجهاد. والنهوض بشخصيته في حذق، قد دفع زعيمي الطائفتين باضطرادللاصطدام. وكانت الشبهات المبررة التي تشارك فيها حكومة السودان، المنبعثة من إنه كانت للسيد عبد الرحمن طموحات في الملك، هاجسا يثير مخاوف معارضيه، والسبب الأساسي للارتباط التدريجي من قبل السيد على الميرغنى بالنشاط الموالي للمصرين. وقد أرهب نفوذ السيد عبد الرحمن المتنامي حكومة السودان أيضا). [1]
والسؤال الذي يهمنا في هذه المرحلة، هو: هل هنالك أي توجه ديمقراطي ليبرالي تعددي في أي من هذين التصورين السياسيين لمستقبل السودان؟.
نجيب هنا بمزيد من الاسئلة:
- هلالانضمام لمصر والاتحاد معها يسمح، بأي حال من الأحوال، إذ تحقق، بقيام حزب آخر ينادي بانفصال السودان عن مصر واستقلاله من داخل الدولة الاتحادية؟
- هل تسمح عودة السودان لما كان علية قبل الفتح، إذ تحققت، بوجود حزب سياسي ينادي بإلغاء وجود السودان وضمه إلى مصر؟
فاذا كانت الإجابة على كلا السؤالين هي لا، بالضرورة، فأين يمكن إن يوجد التوجه الديمقراطي هنا؟ وإذا كانت اتفاقية السودان، اتفاقية الحكم الذاتي (1953)، قد نصت بآن يستفتي الشعب السوداني في نهاية الفترة الانتقالية بين أمرين لا ثالث لهما وهما الارتباط بمصر أو الاستقلال التام بالمفهوم المهدوي، فإن ذلك كان يعني بآن السودان صائر، لا محالة، لأحد هذين الخيارين الذين ينعدم فيهما وجود الديمقراطية. وهذا تحديدا هو ما أصاب البريطانيين باليأس والشعور بالهزيمة. فقد وافقوا علي خيارين لمستقبل السودان ليس في أي منهما مكان للديمقراطية التعددية التي كانوا هم رسلها للعالم الثالث. إذن ، لماذا نشأت الأحزاب أصلا، إذا لم تكن نشأتها تؤدي إلى نظام ديمقراطي؟.
نقول هنا، بأن إنشاء الأحزاب السياسية، أو علي الأقل، الحزبين الكبيرين (الأمة) و(الوطني الاتحادي)، هو أمر أملته الضرورة، إذ لا بد من قيام كيان سياسي يحمل عبء الدعوة لعودة السودان للمهدية، أو عبء الدعوة لإبعاد السودان عن العودة للمهدية بانضمامه إلى مصر. وذلك بسبب أن مصر والسودان كانتا تحت الهيمنة البريطانية. وبريطانيا لم تكن لتسمح بقيام أية وسيلة سياسية سوي الحزب السياسي المكون علي أساس ديموقراطي.
وإذا شاءت الأحزاب السودانية الكبرى إن ترتبط بأهداف غير ديمقراطية، فإن هذا يعني إن هذه الأحزاب قد شاءت إن يكون النهج الديمقراطي وسيلة مؤقتة تنتهي بانتهاء وسيلة الاستفتاء. فبعد عملية الاستفتاء لن يبقي غير حزب واحد، فإذ قرر الشعب السوداني الاتحاد مع مصر، فإن المنطق يقول بنفي وإبعاد (حزب الأمة)، أما إذ حدث العكس وقرر الشعب الاستقلال ومن ثم العودة إلى الحكم المهدوي، فلا مكان للاتحاديين في السودان، و(لا شيع ولا طوائف ولا أحزاب)، كما فسر السيد عبد الرحمن شعاره الغامض (السودان للسودانيين) بهذا القول الداعي للشمولية الدينية.
وكان لا بد من حدوث معجزة لتنقذ السودان من هذا المصير المظلم الذي تحدد مسبقا في اتفاقية الحكم الذاتي عام 1953. فكيف جاءت هذه المعجزة ومن أين؟
أول الفرج قد جاء علي يد الشعب السوداني عندما قرر أن يهزم حزب الأمة في انتخابات سلطة الحكم الذاتي عام 1953. ولا شك أن الاتحاديين قد فهموا هذه النتيجة الانتخابات على أنها تعني هزيمة مشروع السيد عبد الرحمن الذي ظاهره الاستقلال وباطنه إعادة الدولة الدينية المهدية.
تلي ذلك وفي حوالي عام 1954 نمو خطاب سياسي راديكالي في مصر لم تستسغه الإذن الاتحادية التي تربت علي الخطاب العلماني في مصر ما قبل الثورة، كما لم تفهمه القاعدة الاتحادية المكونة أساسا من البرجوازية التجارية السودانية التي يرعبها مثل هذا الخطاب الثوري المليء بمفردات التأميم والمصادرة ونصرة الفلاحين والعمال والكادحين. فهؤلاء الأخيرين هم قاعدة (حزب الأمة)، وفي أحسن الأحول سند اليسار السوداني. وكان لا بد أن يقل حماس الحزب (الوطني الاتحادي) تجاه مبدأ الاتحاد مع مصر، خاصة وإن الخطر الانصاري حجم ولو مؤقتا.
ولم يتبقى من خطر يهدد السودان سوي إن يلجأ أهل المشروع المهدوي الديني للعصيان والجهاد. فهذه ورقة لا يفوت علي سياسي بارع مثل السيد عبد الرحمن أن يلوح بها في وجه الانجليز محذرا من ترك المصريين يستولون علي السودان. ففي مقابلة له مع سلوينلويد وزير الدولة بوزارة الخارجية البريطانية عند زيارته للسودان في مارس عام 1953، ألمح السيد عبد الرحمن المهدي للسياسي البريطاني بهذا التهديد مبطناً بدبلوماسية السيد عبد الرحمن العبقرية حيث قال له:
(إن البريطانيون يفضلون دون شك إن تتسم المنطقة الواقعة خلفهم بالاستقرار في حال وقوع مزيد من الاضطراباتوالاصطدامات في منطقة قناة السويس، مؤكدا إن الموقف كان هادئا في السودان عند وقوع هذه الاضطرابات في مصر من قبل، بفضل تعاون حزب الأمة مع حكومة السودان )[2] .
وكان الإداريون البريطانيون في السودان مقتنعين بأن نتائج الانتخابات لن تثني السيد عبد الرحمن المهدي عن هدفه الكبير، وأن استخدامه للعنف كان واردا تماما. فقد جاء في مذكرة الحاكم العام إلى وزارة الخارجية البريطانية الصادرة في 3 أغسطس عام 1954 ما يلي: (إذا كان التحليل السابق صحيحا فإن موقف السيد عبد الرحمن المهدي والانصار، خلال الفترة الانتقالية سيتسم بالهلع واليأس، ونحن لا نستطيع إن نأمل في إن يتأقلم مع وضع يعرف إنه شديد التهديد لقوته وسطوته الشخصية ومركزه، ويقوي من خصمه اللدود السيد علي الميرغني. وسيتجه عقله أكثر فأكثر نحو العنف كلما أحكم الحزب الوطني الاتحادي قبضته في القطر، وسيتمزق بين الهجوم قيل فوات الأوان والأمل في إن تتدخل حكومة صاحبة الجلالة لإنقاذه .........
لقد تناولنا إلى حد ما في مستهل هذه المذكرة خطر حرب أهلية تصدر عن المهدويين كما ورد في الفقرة أعلاه ومهما يكن من أمر فإن الحرب الأهلية ستؤدي إلى كوارث علي السودان والمصالح البريطانية ) [3]
وكان لا بد إن تؤدي هزيمة مبدأ الاتحاد بسبب الثورة المصرية الجديدة، وهزيمة مبدأ العودة للدولة الدينية المهدية في صناديق الاقتراع، إلى إن يتراضى الطرفان مؤقتا علي استمرار نظام حكم الفترة الانتقالية الديمقراطي العلماني ودستور الفترة الانتقالية العلماني المؤقت والحصول علي استقلال البلاد عن هذا الطريق حتى إشعار آخر.
هكذا دخلت تاريخ التجربة السياسية السودانية السلطة الديمقراطية التعددية بصفة مؤقتة، وظل هذا قدر هذا النوع من السلطة في السودان، تلجأ إليه الساحة السياسية السودانية في وقت الأزمات والمنعطفات الخطيرة و تتراضى حوله مؤقتا.
وهذا يعني بأنه ليس هناك علاقة مباشرة بين حقيقة تبلور التيارين السياسيين الرئيسيين في أحزاب، وبين تجلي النظام الديمقراطي التعددي عشية الاستقلال. نعم إن الأحزاب قد تكونت كوسائل للوصول إلى السلطة، غير إن الوصول إلى السلطة، حسب أيديولوجيات هذه الأحزاب نفسها، هو نهاية المطاف، فأما انضمام إلى مصر ونفي التيار الديني الاستقلالي أو دولة مهدوية دينية، وبالتالي نفي التيار الاتحادي العروبي.
كان هذه الفهم سائدا حتى توقيع اتفاقية السودان (الحكم الذاتي عام 1953) بين مصر وبريطانيا، حيث كان ولا يزال الاتحاديون يتمسكون بمبدأ الاتحاد، وكان حزب الأمة لا يزال يمثل تهديدا ضخما لمستقبل السودان حسب رؤية الاتحاديين والبريطانيين علي السواء. وكانت المفاجأة هي هزيمة حزب الأمة في انتخابات أواخر 1953. ثم كان التحول الدراماتيكي في موقف الاتحاديين من الاتحاد مع مصر. وهكذا أجريت الانتخابات والغي الاستفتاء وحدث الاستقلال دون إن تقع المواجهة بين التيارين الكبيرين.
ولكن ظلت أي محاولة لفرض أي من المشروعين علي مستقبل البلاد، أو منع ذلك، لن يتم إلا باستخدام القوة العسكرية. وإن كانت هذه المناجزة العسكرية لم تقع بعد الانتخابات والاستقلال مباشرة، فإنها قد ظلت احتمالا مضمرا قابلا للتجلي في أي لحظة تكتمل شروطه.
وفي واقع الأمر، فإن تاريخ السلطة في السودان ما هو إلا تاريخ الانقلابات العسكرية المتبادلة بين هذين التيارين. فقد حرك التيار الديني انقلاب عبود عام 1958، وحرك التيار العروبي انقلاب نميري عام 1969، وحرك التيار الديني انقلاب البشير عام 1989
وإذا كان هذا التحليل يؤدي إلى الاعتقاد بأن الأحزاب هي صانعة الانقلابات العسكرية، فهذا ما رمينا إليه تحديدا، وما سنحاول إن نناقشه في العنوان القادم .
2- السلطة الشمولية والانقلاب العسكري
لم يكن دستور السودان المؤقت والذي هو دستور الفترة الانتقالية من الحكم الذاتي إلى الاستقلال لم يكن يحظى باحترام أي طرف من الأطراف داخل برلمان الحكم الذاتي. وكان ينظر إلية كآخر بقايا العهد الاستعماري. غير إن استبداله بدستور دائم للبلاد وضمن التركيبة السياسية التي ناقشناها سابقا كان أمرا مستحيلا. فاخطر ما في الدساتير أنها تحدد، وبصورة قاطعة ونهائية نظام الحكم ونظام انتقال السلطة. وحيث أن الوضع في السودان لم يكن يعدو أن يكون هدنة مؤقتة ريثما تخرج من البلاد دولتا الحكم الثنائي، فإن إنجاز دستور دائم كان رابع المستحيلات. فالدستور يعنى تنازلات من جميع الأطراف لمصلحة إنشاء وطن موحد يسع الجميع ولا يسقط فيه حق أحد. وحيث إن العلاقة بين المشاريع والتصورات السياسية لمستقبل السودان قد ظلت كما هي، علاقة نفى وإبعاد، فإن خطر محاولات الاجتثاث ومحاولات إجهاض المشروع المضاد قد ظل ماثلا بعد الاستقلال. وقد فطن إلى ذلك الدكتور شريف حرير في ورقته التي بعنوان (إعادة تدوير الماضي في السودان) حيث ورد :
(إن الاحترام لنموذج دستور ويستمنستر في الفترة التي أعقبت الاستقلال، لم يكن كبيرا. لقد رجحت عموما المصالح الشخصية والحزبية الأولوية علي الاعتبارات الدستورية وأسهمت في خلق الفرص للتدخل العسكري نتيجة لذلك)[4]
من هنا جاءت الظاهرة السلطوية الثانية في السياق السياسي السوداني وهى ظاهرة السلطة الشمولية وآليتها المحققة لها وهى الانقلاب العسكري. وبدراسة هذه الظاهرة بدقة يتضح لنا بأنه لم يقع انقلاب عسكري في السودان إلا من أجل تحقيق مشروع سياسيي أو إجهاض مشروع سياسي مضاد وشيك التحقيق. وكان ذلك على النحو التالي:
انقلاب إبراهيم عبود عام 1958
كان هذا هو التجلي الأول لظاهرة السلطة العسكرية الشمولية ضمن التجربة السياسية السودانية.وحول هذا الانقلاب ، وبما يتماشى مع ما ذهبنا إليه من مسئولية الصراع بين المشاريع السياسية في خلق ظاهرة الانقلاب العسكري، إنقل هنا من كتاب الدكتور إبراهيم محمد الحاج موسى الموسوم: (التجربة الديمقراطية وتطور نظم الحكم في السودان) من الصفحة رقم 200:
(.. . سافر إلى القاهرة السيد على عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي ووزير التجارة آنذاك دون إن يخطر رئيس الوزراء بذلك، كما سافر إلى بغداد السيد إسماعيل الأزهري رئيس الحزب الوطني الاتحادي لتهنئه الشعب العراقي بثورة تموز سنة 1958، ومن بغداد عرج على القاهرة حيث واصل منها اتصالاته مع السيد على عبد الرحمن. ومن القاهرة انتشرت إشاعة لقائهما واتفاقهما مع القادة المصريين على إعلان اتحاد مصر والسودان. ولعل أول من أطلق هذه الإشاعة صحيفة فرنسية عندما نشرت خبرا لمراسلها في القاهرة مفاده أن اتفاقا سريا قد تم بين قادة الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وبين الرئيس جمال عبد الناصر لقيام ثورة وطنية اشتراكيةبالخرطوم .... إن دوائر حزب الأمة جن جنونها لهذا الخبر، وكان رئيس الوزراء يعلم جيدا أن وزارته سوف تسقط عند افتتاح الدورة البرلمانية الثانية في 17 نوفمبر سنة 1985، لذلك عمل رئيس الوزراء على أن يسلم السلطة للجيش قبل افتتاح البرلمان )[5]
وسواء عمل حزب الأمة بناءا على تصديقه لهذه الشائعةأو بناءا على حسابات أخرى، فإنه قد كان متأكدا من سقوط حكومته وتولى أهل المشروع الاتحادي العروبي للسلطة مما يجعل فرصة تحقيق المشروع الاتحادي مواتية. وكان لابد من أن يتحرك حزب الأمة لإجهاض تحقق المشروع الاتحادي، وكان لابد من الانقلاب العسكري.
2- انقلاب جعفر نميري عام 1969م
وتحقق مشروع سياسي أو إجهاض مشروع مناوئ، كان هو أيضا المحرك الأساسي وراء وقوع الانقلاب العسكري الثاني في السودان عام 1969. وإذ كان أهل المشروع المهدوي الديني قد استطاعوا إجهاض المشروع الاتحادي العروبي الذي كان يتوهم إنه سيحقق، فإن القمة الراديكالية من أهل التيار الاتحادي العروبي، ممثلين في القوميين العرب، قد استطاعوا عام 1969، تحريك الجيش للإستيلاء على السلطة وإجهاض مشروع الدستور الإسلامي الذي تأكدت إجازته من داخل الجمعية التأسيسية عام 1969 باتفاق (حزب الأمة) و(الوطني الاتحادي) و(جبهة الميثاق الإسلامي). فبعدانتخابات عام 1968 والتي حظر قبلها نشاط الحزب الشيوعي السوداني باتفاق الأحزاب الثلاثة المذكورة، ظهر جليا أن اتفاقا بين هذه الأحزاب الثلاثة قد أبرم من أجل فرض الدستور الإسلامي من داخل البرلمان. وقد نقل الدكتور عبد اللطيف ألبوني في كتابة: (تجربة نميري الإسلامية في السودان) مقتطفات من مقالة لأحمد البشير الأمين في مجلة (المستقبل العربي) ما يلي:
(كان واضحا منذ البداية إن الانقلاب كان محاولة من أنصار الدستور العلماني لوضع نهاية لمخططات أنصار الدستور الإسلامي لإجازته بواسطة الجمعية التأسيسية. وقد أعلن قائد الانقلاب أن من أول أهدافه تمزيق تلك الوريقة الصفراء ورميها في سلة المهملات).
انقلاب عمر البشير عام 1989م
ولم يشذ الانقلاب الثالث 1989، عن القاعدة، بل جاء تأكيدا لها. فقد تبلورت الدولة الديمقراطية التعددية في اتفاقية (الميرغنى - قرنق) في أديس أبابا عام 1988، كما إن التأييد الدولي والإقليمي والداخلي التي حظيت به هذه الاتفاقية قد جعل تحقيق الدولة الديمقراطية التعددية أمرا مؤكدا. فقد كانت هذه الاتفاقية في سبيلها إلى أن تؤسس وحدة حقيقية بين شمال البلاد وجنوبها على قواعد علمانية يفصل فيها تماما بين الدين والدولة. ولم يكن يمنع من تنفيذ هذه الاتفاقية سوى الانقلاب العسكري. غير أن الجديد في انقلاب 1989، هو أنه كان مخططا قبل إن يبدأ مجرد التفكير في اتفاقية (الميرغنى - قرنق) عام 1988. فقد قررت الحركة الإسلامية السودانية الحديثة استلام السلطة بواسطة انقلاب عسكري وفرض الدولة الدينية بناء ا على حسابات داخلية تخص هذه الحركة. ولما فوجئت هذه الحركة بتلك الاتفاقية القوية الناضجة كان لابد من أن تعجل بتقديم ساعة الصفر وتستلام السلطة.
وإذا كان انقلاب عبود 1958 قد جاء لإجهاض تحقق المشروع الاتحادي العروبي وهو في حكم الإشاعة، وإذا كان انقلاب نميري 1969، قد جاء لإجهاض تحقق المشروع الديني الذي كان وشيك التحقيق، فإن انقلاب البشير 1989، قد جاء في الشكل النموذجي المكتمل والمثالي للانقلاب العسكري في السودان ضمن المفهوم الذي حددناه في هذه الدراسة. فقد جاء هذا الانقلابلإجهاض مشروع الدولة الديمقراطية التعددية، وفرض الدولة الدينية الشمولية في نفس الوقت. وهذا ما جعل هذا الانقلاب يحدث بوقوعه مواجهة مباشرة وصداما علنيا بين الدولة الدينية التي جاء بها وبين بقية عناصر الساحة السياسية السودانية التي تجمعت في معسكر الدولة الديمقراطية التعددية كما تبلورت في اتفاقية (الميرغنى – قرنق). كما إنه لم يسبق في تاريخ السودان أن اكتمل تصور الدولة الدينية وتجهيز كوادرها وتحضير برامجها، كما حدث عشية انقلاب البشير عام 1989.
3 - سلطة الحرب الأهلية والتمرد
ظلت حركات التمرد المسلح في الجنوب وباستمرار، تستبق تغيرا سياسيا كبيرا وشيك التحقق في السودان. إذ لا يفوت الدارس للحركة السياسية السودانية إن يلاحظ بأن موجة التمرد الأولى عام 1955 قد استبقت، موعد تقرير المصير وقرار الاستقلال عام 1956. وهذا يعنى إن الجنوب يرفض إن يقرر الشمال مصيره وفى غيابه الكامل. فقد أصمت الأحزاب الشمالية آذانها عن سماع رأي الجنوبيين حول تقرير المصير والاستقلال. كما سوفت وراوغت بشأن مطالبة الجنوب بالنظام الفدرالي.
أما موجة التمرد المسلح الثانية عام 1963، فقد استبقت سقوط الحكم العسكري الشمولي الأول عام 1964، حتى تكون مستعدة للمشاركة في تقرير نظام الحكم بعد سقوط الدكتاتورية ومن موقف قوة. وهذا يدل على إن السياسي الجنوبي أقدر على القراءة الصحيحة للوضع السياسي في السودان من رصيفه الشمالي. فعندما بات سقوط السلطة العسكرية وشيكا، استبق التمرد الحدث الكبير القادم.
وكذا جاءت موجة التمرد الثالثة عام 1983، مستبقة التحول الكبير تجاه أسلمة الدولة في السودان على يد جعفر محمد النميري، بإعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية عام 1984.
ويتضح الآن أن المشاريع السياسية الكبرى في السودان، ومن خلال نظرتها ذات الاتجاه الواحد قد أوجدت ظاهرة السلطة الشمولية والانقلاب العسكري كما أوجدت ظاهرة الحرب الأهلية والتمرد المسلح. فالعقل السياسي الجنوبي، قد بات متيقنا بأن الجنوب والمواطن الجنوبي لا مكان له ضمن المشروعين السياسيين الأقرب للتحقق والأقدر على التجلي في السلطة، وإنه لابد له من الإعلان عن رفضه للمصير الذي يقرره له، وفى غيابه، كلا المشروعين. لأن هذا المصير لا يهدف إلا لتغيير هوية الانسان الجنوبي باتجاه الأسلمة والتعريب. لهذا ندرك الآن جزع الفعاليات السياسية الجنوبية كلما اقترب موعد تحول كبير في مسيرة الحركة السياسية السودانية. فلا يوجد إنسان على ظهر الأرض مستعد للتنازل عن هويته العرقية والثقافية عن طيب خاطر. إذ أن كل إنسان يرى أنه لا يوجد في الكون هوية عرقية افضل من هويته ولا ديانة أعظم من ديانته ولا ثقافة أفضل من ثقافته. هكذا خلق الله البشر مختلفين ولو شاء لجعلهم أمة واحدة.
قانون التدهور
إذ تناولنا بالتحليل آليات تحقق السلطة في السودان، وحاولنا الكشف عن قانون يحكم حركتها، فإنه سوف يتبين لنا بإنالقانون الوحيد الذي يحكم حركة هذه الآليات حتى الآن هو قانون التدهور. بمعنى إن هذه الآليات، وهي كما أوضحنا سابقا، الحزب السياسي والانقلاب العسكري والتمرد المسلح، قد أخذت تتحول جميعها في اتجاه عكسي يبعدها أكثر فأكثر عن ماهيتها وعن المفاهيم التي قامت عليها بنيتها.
ففي مسيرة الحركة السياسية السودانية تبادلت الظواهر السلطوية التي تحدثنا عنها سابقا التجلي والغياب في خط دائري تماما بحيث تكرر تجلى كل منها ثلاثة مرات. فهناك ثلاث ظواهر سلطوية ديمقراطية في عام 1956 وعام 1964 وعام 1985. وثلاث ظواهر سلطوية شمولية في عام 1958 وعام 1969 وعام 1989. وكذلك ثلاث حروب أهلية في عام 1955 وعام 1963 وعام 1983. وهذا يتيح لنا النظر في حالة الآليات المحققة لهذه الظواهر عبر ثلاث مراحل لكل اليه من الحزب إلى الانقلاب العسكري إلى التمرد المسلح.
الحزب السياسي
ا - حافظ الحزب السياسي في السودان على المفهوم العلماني للحزب السياسي طوال فترة مقاومة الأحزاب السياسية السودانية للسلطة العسكرية الأولى ما بين عام 1958 وعام 1964. بمعنى إن أدوات مقاومة الأحزاب السياسية الدكتاتورية الأولى قد ظلت أدوات وأساليب مدنية تتمثل في الضغط السياسي عبر جماهير الشعب السوداني من خلال العرائض والاحتجاجات والمظاهرات وحتى العصيان المدني. وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل تحولات الحزب السياسي، باعتباره الآلية الوحيدة لتحقق الظاهرة السلطوية الديموقراطية
ب- في المرحلة الثانية بدأ الحزب السياسي في السودان يفارق مفهوم الحزب المدني الذي يستمد قوته الحقيقية من تأييد الجماهير طوال فترة مقاومة الأحزاب للسلطة العسكرية الثانية ما بين عامي 1969- 1985. فقد اعتمدت هذه الأحزاب، في تلك الفترة، على أدوات نضال هي خليط من العمل العسكري الحربي والعمل المدني السياسي. وظهرت لأول مرة في تاريخ الحركة السياسية السودانية المليشيات ومعسكرات التدريب والصدامات العسكرية سواء في الجزيرة أبا وأمدرمان عام 1970أو في الخرطوم عام 1976. وهذه هي المرحلة الثانية.
ج- في المرحلة الثالثة ابتعد الحزب السياسي في السودان كلية عن المفهوم المدني للحزب السياسي منذ بداية حركة مقاومته للسلطة العسكرية الثالثة عام 1989. فقد تحولت مقاومة الأحزاب السودانية للسلطة الحالية كلية للوسائل العسكرية وأصبح لكل حزب جيشه ومواقعه التي يحتلها، بل إن حزبا سياسيا جديدا قد ولد كتنظيم عسكري ألا وهو حزب عبد العزيز خالد.
ويعنى هذا مباشرة أن الأحزاب السياسية السودانية باعتبارها آلية تحقق الظاهرة السلطوية الديموقراطية، قد قاومت السلطة العسكرية الأولى بوسائل مدنية صرفه مائة بالمائة. وإنها في المرحلة الثانية، قد قاومت السلطة العسكرية الثانية بوسائل نصفها مدني ونصفها عسكري، كما إنها في المرحلة الثالثة قد قاومت السلطة العسكرية الثالثة بوسائل عسكرية صرفه مائة في المائة.
وهذه المراحل الثلاث توضح بجلاء أن هذه الآلية، آلية الحزب السياسي قد بدأت تفقد مفهومها المدني وصفتها المدنية لصالح المفهوم الراديكالي للحزب السياسي والصفة العسكرية، وهذا يعني إن تنظيم الجماهير وأدوات النضال المدني لم تعد، في نظر هذه الأحزاب ذات جدوى كبيرة حتى صير إلى استبدالها بالتنظيمات العسكرية وأدوات النضال المسلح. ولا يكون كل هذا بالمعايير المعروفة سوي التدهور. ولعلاستعداد الأحزاب السياسية للانحدار والتدهور تجاه العسكرة مرة بعد أخرى، يجد تفسيره في ما ذهبنا إلية من وجود النزعة العسكرية كامنة في بذرة تكوين هذه الأحزاب. لهذا يسهل انحدارها وتدهورها تجاه استبدال العمل السياسي المدني بالعمل الحربي العسكري.
شكل 3 : مراحل تحولات آلية الحزب السياسي
المرحلة الأولى المرحلة الثانية المرحلة الثالثة
1964-1959 1969-1985 1989-2000
حزب سياسي حزب سياسي حزب سياسي عسكري
مدني100% مدني 50% 100%
عسكري 50%
الانقلاب العسكري
جاءت الانقلابات العسكرية في السودان بمثابة ثلاث مراحل من تطور آلية الانقلاب العسكري المحققة للسلطة الشمولية. وهي مثل سابقتها، آلية الحزب السياسي، قد سلكت خطا تدهوريا هابطا خلال ثلاث مراحل. فقد جاء انقلاب عبود عام 1958 عسكريا صرفا، لم يسع لدعم سياسي مباشر من أي حزب، كما لم يشرك معه حزبا في السلطة. وقد مثل هذا الانقلاب الطور الأول النقي من تحولا آلية الانقلاب العسكري المحققة للسلطة الشمولية في السودان.
مثل انقلاب نميري عام 1969 الطور الثاني الوسيط من تحولات هذه الآلية وفيه بدأت هذه الآلية تفقد نقاء صفتها العسكرية حيث اشركت العناصر المدنية، وبصفتها الحزبية، في السلطة منذ اليوم الأول للانقلاب. وبدا جليا منذ البيان الأول، أن ما وقع هو عمل سياسي نصف عسكري ونصف مدني. وقد ظلت السلطة الناتجة عن هذا الانقلاب معتمدة باستمرار، في نسبة خمسين في المائة من استمرارها، علي العنصر الحزبي المدني.
فإذ وصلنا إلى الطور الثالث من آلية الانقلاب العسكري، وهو انقلاب البشير عام 1989، فإننا نجد أنفسنا أمام انقلاب مدني مائة في المائة من حيث التخطيط والتنفيذ ورموز السلطة التي نصبها الانقلاب.
ومن حيث أن الانقلاب ظاهرة سياسية معسكرة وآلية عسكرية لاستلام السلطة ومناقضة جوهريا لآلية الحزب السياسي ووسائله المدنية في استلام السلطة، فإننا عندما نشهد آلية الانقلاب في السودان تتجه تدريجيا، وعبر ثلاث مراحل إلى التخلي عن جوهرها العسكري لصالح المدينة، فإننا لا نستطيع إلا إن نعتبر ذلك تدهورا. ولعل استعدادالانقلابات العسكرية في السودان إلى التدهور والانحدار تجاه المدنية بزيادة العنصر المدني فيها مرحلة بعد أخري، هو مؤشر سليم لما ذهبنا إليه من أن الانقلاب العسكري في السودان هو بالأساس عمل حزبي مرتبط بصراع التيارات السياسية الكبرى، وظل أثر هذه التيارات يزداد تجليا في تكوين الانقلاب العسكري مرحلة بعد أخري.
شكل 4: مراحل تحولات آلية الانقلاب العسكري
المرحلةالأولى المرحلة الثانية المرحلة الثالثة
1958 1969 1989
انقلاب عسكري 100%انقلابعسكري 50% انقلاب مدني 100%
مدني 50%
التمرد المسلح
الآلية الثالثة لاستلام السلطة في السودان هي آلية التمرد المسلح. وهي مثل الآليتين السابقتين، قد تحولت عبر ثلاث مراحل.
ا - جاءت الموجة الأولى من التمرد ارتجالية، لحد كبير، سيئة الإعداد، وعسكرية صرفه. وهي من الناحية السياسية، كانت تعتمد خطا سياسية فقيرا، يتمحور حول الانفصال هدفا نهائيا، ومقاومة الاستعمار الشمالي، هدفا تكتيكيا.
وقد كان المنطق الواقعي البديهي المبرر للهدفين الاستراتيجي والتكتيكي، واضح وبسيط وماثل للعيان. فقد أعطت حركة سودنة الوظائف الإدارية، مدنية وعسكرية، انطباعا عاما لدي المواطن الجنوبي بأنه سوف يستبدل مستعمرا بريطانيا بمستعمر شمالي. هذا بالإضافة إلى أن مستقبل الجنوب قد بدا غامضا في واقع اتفاقية السودان بين دولتي الحكم الثنائي لعام 1953 التي حددت مصير السودان في خيارين لا ثالث لهما وهما الانضمام لمصر أو الاستقلال تحت رأية المهدية الدينية. ولهذا كان لابد من أن تجيء الموجة الأولى من آلية التمرد انفصالية ومشبعة بالشعارات العنصرية ضد العرب المسلمين. ويورد الدكتور فرإنسيس دينق ما ذكره المؤرخ دستان في شرح هذه النقطة علي النحو التالي:-
(إن احتكار السلطة السياسية بواسطة الشمال، أكبد للجنوبيين بداية عهد استعماري ثاني، ومن الجانب الآخر، شعر الشمال بان له الحق الشرعي لصيانة وتنفيذ السياسات التي تؤثر علي القطر كله. إن فشل السياسيين الشماليين في تحقيق شراكه السلطة مع الصفوة السياسية من الجنوب، دعمت، وبشكل مستمر الشعور بالغربة والعزلة لدي الجنوب، والاعتقاد بأن الشمال في حقيقة الأمر، يعتبر خلفا للاستعمارالبريطاني.
وأيضا كانت محاولات الشمال إخضاع الجنوب تحت إمرته، أكثر ضررا منها نفعا في بلورة نظرة الجنوبيين حيال حكومات الخرطوم بعدم شرعيتها، مما أدي في النهاية للتمرد المسلح)[6]
ب. جاءت موجة التمرد الثانية جيدة الإعداد وقد تزايد فيها العنصر السياسي المدني، فأعلنت عن نفسها في بيان سياسي وزعته علي الوسائط الإعلامية العالمية عام 1963، وأسمت جناحها العسكري (أنانيا) أي اسم الأفعى . وحيث أن هذه الموجة من التمرد المسلح في الجنوب قد جاءت ردة فعل مباشرة ضد سياسية نظام الجنرال عبود القائمة علي فرض الأسلمة والتعريب عن طريق القوة، فإنها ما كان لها إلا إن تكون انفصالية وعنصرية.
غير إن هذه الموجة من التمرد المسلح، وفي مسيرتها خلال عقد من الزمان، انتهت إلى أن الانفصال ليس في صالح السودان ولا صالح الجنوب. لهذا، وعندما وافق الشمال، ممثلا في سلطة جعفر محمد نميري، علي منح الجنوب حكما ذاتيا عام 1972، ألقت (أنانيا) سلاحها، وعرف الجنوب السلام لأول مرة منذ فجر الاستقلال عام 1955. وبهذا تكون الموجة الثانية من التمرد قد سارت نصف الدرب عنصرية انفصالية، ونصفه قومية وحدوية.
ج - خلال سبعة عشر عاما من الحرب، تلتها عشر سنوات من السلم، ارتفع الوعي العام، ولا شك، للمواطن الجنوبي وازدادت الصفوة المتعلمة الجنوبية عدديا، وقد صار الجنوبيون أكثر إدراكا لمصالحهم وأكثر اعتزازا بهويتهم وأكثر حساسية وحذرا تجاه الحكومات الشمالية.
لهذا فقد كان الجنوب متنبها عندما بدأ الدكتاتور نميري، انطلاقا من حسابات خاصة باطلة عمر نظامه، يميل بالدولة السودانية كلها تجاه الأسلمة. ثم، ولتنفيذ ذلك، بدأت السلطة التي تحالفت مع الإسلاميين الراديكاليين، تمارس تكتيكاتها لإضعاف الجنوب حتى تقلل من فعالية ردة فعله تجاه الأسلمة. هنا اندلعت موجة التمرد الثالثة عام 1983، واهتز الجنوب بعنف لهذا التحول الكبير الذي حدث في مركز السلطة في السودان. وكان لا بد من التفكير في معالجة المشكلة السودانية من جذورها بصورة متكاملة. وقد اختلف الأمر هذه المرة، ولا بد من أن يتحمل الجنوب المسئولية الكاملة في الحفاظ علي وحدة البلاد أولا ثم حل(المشكل السوداني) ثانيا.
لهذا جاءت الموجة الثالثة من التمرد عام 1983 قومية الهوية ووحدوية التوجه. ودعت الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى إقامة (السودان الجديد). وحددت الحركة الشعبية لتحرير السودان بأن (القضية وطنية وليست جنوبية. فهي تضم في تركيبتها قوات مقاتلة من أقاليم معينة في الشمال وأفراد من كل إنحاء القطر. إن أي تسوية للنزاع علي أسس الشمال والجنوب، يجب إن تضع في الاعتبار ذلك البعد للتعقيد وتوسيع النزاع)[7]. وقد جاء في منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان البيان التأسيسي الآتي:
(إن المهمة الرئيسية للحركة الشعبية / الجيش الشعبي لتحرير السودان هي تحويل الحركة الجنوبية من حركة رجعية يقودها رجعيون وتهتم بالجنوب والوظائف والمصالح الذاتية، إلى حركة تقدمية يقودها ثوريون ومكرسة لتحويل كل القطر إلى الاشتراكية. ويجب التأكيد علي أن الهدف الرئيسي للحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان ليس هو فصل الجنوب، فالجنوب جزء لا يتجزأ من السودان، وقد تمت تجزئة أفريقيا بما فيه الكفاية بواسطة الاستعمار والاستعمار الجديد، وأن المزيد من التجزئة لن يخدم إلا أعداء أفريقيا.)[8]
وبالمقارنة مع آلية الحزب السياسي المحققة لظاهرة السلطة الديمقراطية التعددية والمنحدرة تجاه العسكرة، وآلية الانقلاب العسكري المحققة لظاهرة السلطة الشمولية والمنحدرة تجاه المدنية، فإن آلية التمرد المسلح تبقي هي الآلية الوحيدة السائرة تصاعديا من الانفصال تجاه الوحدة ومن العنصرية تجاه القومية.
لكل هذا فقد جاءت الموجة الثالثة من التمرد المسلح قومية ووحدوية، تحمل هما سياسيا عاما وليس هما سياسيا جنوبي.
شكل 5:- مراحل تحولات آلية التمرّد المسلح
المرحلة الأولى المرحلة الثانية المرحلة الثالثة
1955 1963 1983
انفصالي عنصري 100%انفصالي عنصري 50% وحدوي قومي 100%
وحدوي قومي 50%


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.