[email protected] ( 1 ) أطلّ الراحل علي المك أمام جمع من الدبلوماسيين ، حين دعاه المغفور له السفير الأديب عبد الهادي الصديق، لندوة في وزارة الخارجية، في منتصف سنوات الثمانينات من القرن الماضي. تساءل الراحل علي المك في حديثه ذلك اليوم، عن الصلة بين صنعة الترجمة والسفارة . لكنه قبل أن يجيب، آثر أن ينقل عن الراحل جمال محمد أحمد، قوله، وهو يحدث عن أسلوبه في الترجمة : (( يحملني هذا الذي أقول عن أسلوبي في الترجمة إلى الظن بأن المترجم والسفير كليهما ، إن كبتْ حرية اختياره ، فقدَ طريقه لمبتغاه. مقام الرجلين في السفارة والترجمة ، أوسع قدرة من حرية اختيار الوسائل . سيرميني البعض بالإسراف لأني أقابل بين مقام السفير وهو كبير ذو خطر وشأن، ومقام المترجم، وأكثر الناس لا يعرفون لعلمه مقاما ذا ذكر.)) ثم يقول الرّاحل علي المك معلقا على قول جمال : (( إنّ المترجم سفير . سفير هو من طراز آخر . هو مبعوثنا إلى اللغات الأخر . يعود إلينا بجواهرها و بلآلئها الباهرات . . " . انتهى قول علي المك ، وهو كلام مبين ، وقول سديد ، دون شك . . ثم يأتي الراحل عثمان عبد الرحيم "أبو ذكرى"، ليكتب مقدمة نظرية لأسلوبه في الترجمة ليشقّ طريقاً لا يفارق فيه قول الراحلين جمال والمك، وذلك في مفتتح المقالين اللذين حدثتك عنهما، وهما مقالان يعالجان أصل الفونج، كتبهما الآثاري البريطاني ، أ.ج .أركل ، وترجمهما عثمان ، ترجمة محكمة رصينة، ونشرهما في كتاب صدر عن دار عزة عام 2003 . قال عبد الرّحيم "أبو ذكرى " في مقدمته : (( إن المترجمين رسل حضارة، والناظر لما يدعو له عرب اليوم ومطالبتهم بنقل تكنولوجيا الحضارة الغالبة، يعلم أن أول ترجمة تمّت في الإسلام ، كانت في عهد بني أمية، لعلوم الكيمياء والنجوم والطب عن لسان اليونان والقبط والسريان . ولما جاء بعدهم بنو العباس ، أنشأوا بيت الحكمة وأجزلوا العطاء للمترجمين لنقل كتب الطب والرياضيات والطبيعيات والكيمياء والفلسفة والفلك، فتيسر للعرب كل ما هو مفيد من الناتج الحضاري اليوناني والهندي والفارسي والسرياني . ))، وما أصدق قول عثمان عن الترجمة وعمن يمتهنها. . (2 ) تلك مقدمة لازمة قبل إمعان النظر في السفر الأكاديمي الذي أنجزه الأمريكي "سبولدينق" منذ أعوام الثمانينات، وأخرجه مترجماً إلى العربية، صديقنا الباحث المنقب الدءوب د. أحمد المعتصم الشيخ . لعلك لن تعجب ، إن علمت أن الشيخ هو سفير أفنى عمراً في وزارة الخارجية السودانية ، مثلما أمضى عمراً موازياً، أشبع في منعطفاته نهمه للأكاديميات ، إذ حقّق ودرَس وتدارس، فنال من الشهادات في الترجمة، ما قاد إليه درجة الدكتوراة عن استحقاق وجدارة. من غرائب الأمور الإدارية في وزارة الخارجية، أن صديقنا أحمد المعتصم لم يتبوأ منصب السفير في إحدى سفارات السودان، وذلك إن تحقق لكان كسبا للسودان قبل أن يكون كسبا شخصيا له، فكأنّ القدر قد كتب له أن يكون سفيراً بالتوصيف الذي ارتضاه الراحلون الأجلاء : جمال وعلى المك وعثمان أبو ذكرى، لكونه صار سفيرا بين اللغات ورسولا من رسل الحضارة. السفر الذي كتبه الأمريكي "جاي سبولدينق"، تناول جانبا من تاريخ السودان السناري، عني بأيام سلطنة الفونج ، نشؤها وارتقاء ملوكها في تلك البقعة النيلية، وهي التي درسنا تاريخها مفصلا على ملوكها وأبناء وبنات ملوكها ولكن، لم تنزل روايات التاريخ إلى تفاصيل الحياة في دولة الفونج، وإلى أساليب الحياة فيها. ولعل من بديهيات دراسة التاريخ المعاصر أنه لم يعد يقتصر على الاحتفاء بذكر الملوك والسلاطين ، بل هو التوغّل في أحوال الناس، كلامهم ، عاداتهم، موألفاتهم، تجارتهم وتبادلاتهم، ومجمل ما تحمله المثاقفة بين أناس تقاسموا سكناً واحداً ومعاشاً واحداً ، ولنقل وطناً واحدا، إنْ شئنا الأخذ بلغة اليوم. في حقيقة الأمر أن "المواطنة" بالمعنى الذي نتوق لاعتماده في هذا الوطن المترامي الأطراف، بدأ يتشكل على استحياء في سنوات السلطنة الزرقاء. ألقتْ الطوائف والقبائل والإثنيات، أكثر سرابيلها الملتبسة، وتخلصت أعطافها من متعلقاتها، وتلاقت على قواسم تجاوزت أطرها السالفة ، حين تلاقى عمارة دنقس وعبدا لله جمّاع. في سنوات الارتقاء الشامخ ، وهي السنوات التي سمّاها "سبولدينق" سنوات البطولة، وهي مكان القلب من كتابه الشيّق. ( 3 ) "عصر البطولة في سنار" ، هو كتاب "سبولدينق" الذي أحكي لك عنه. كتب "سبولدينق" عن شرعية سلاطين الفونج، عن استقرار الحكم بأيديهم، عن "المقبولية" وأفضلها – تلطفاً- على كلمة "السيطرة"، في سنوات إنشاء الدولة السنارية/السودانية، على ضفاف النيل العظيم، وحتى انهيارها أمام الغزاة الأتراك . لا تضاهي سلاسة السرد وأسلوب الكاتب الأمريكي المدهش، إلا سلاسة الترجمة ونضارتها، تلك التي عكف عليها صديقنا السفير أحمد المعتصم. وأعجب كثير العجب لأن أحمد احتفظ بهذه الترجمة الرائعة لهذا السِّفر الهام لسنوات طويلة، وما قيض له أن يجد ناشراً متحمسا يخرجها للناس بعد انجاز ترجمتها مباشرة، إلا متأخراً من "هيئة الخرطوم للصحافة والنشر"، في بحر عام 2011، فيما صدر الكتاب في سنوات الثمانينات. ولقد كانت كلمة الناشر اعتذاريه في محتواها، وكأنه يشاركني الحسرة في تأخير نشر الترجمة لسنوات طويلة بعد صدورها أواسط الثمانينات من القرن الماضي. يقول الناشر : ((. . سلسلة (كتاب الخرطومالجديدة) إذ تقدم هذا الكتاب"عصر البطولة في سنار"، تعتذر نيابة عن جهات عديدة كان ينبغي أن تسارع إلى ترجمة الكتاب فور صدوره (1985)، وتوفره للقارئ السوداني وتتحف به المكتبة الوطنية، لأهميته الشديدة، ولما كان ينبغي أن يقوم به من سدٍّ لفراغ عريض في مجال الدراسات السودانية حول العصر السناري ودوره الكبير والراسخ في تشكيل وعينا القومي وهويتنا الوطنية، عبر منهج يمزج التاريخ بالسياسة والاجتماع بالاقتصاد، والثقافة بالحاضر، حتى عاد كتاباً فريداً في بابه)).. فيما حكى الكتاب تفاصيل الانهيار في شتاء عام 1820م، فإن كلا المؤلف والمترجم، حققا درجات عالية من السمو في تصوير الوقائع بانتقاء لغة استوفت مِن الرصانة أقصاها ، وَمِن السبكِ أجمله، فكأنك وأنت تقرأ تاريخ انهيار الفونج، تقرأ رواية صيغت بكلام أدبي غاية في الإمتاع . لم يقصر المترجم مهمته في النقل من لغة إلى لغة، لكنه تبحر في الرجوع لمراجع المؤلف في أصولها، وزين المتن بحواشي تفسر ما استغلق ،فكان بذلك أقرب للمحقق الصابر. رأيت "سبولدينق" وكأنه ضيف حلّ بصالون ، دكتور أحمد المعتصم . قلبت صفحات كثيرة من كتاب "عصر البطولة في سنار"، وكدت أن أصدّق حدسي أنّ المؤلف ليس "سبولدينق"، بل هو أحمد نفسه. ( 4 ) لعل من يطلع على فصول الكتاب، سيرى كيف كانت دولة "سنار" على استقرار في أحوالها لما يزيد عن القرنين، وأنها ابتدعتْ مقوّمات لثبات الحكم في أنحائها ، بما رسّخ ممسكات وحدة الأرض، فلا ترى "حواكير" تختص بأجزائها طوائف لا حدّ لأطماعها، بل بقاعاً تعايشَ سكانُها عيشاً مشتركا نافعا. لن تبهتك عند "الفونج" الموارد تقتسم قسمة ضيزى وغير ضيزى، بل هيَ ممّا نظمته العادات واقتضته التقاليد ورتبته الأعراف، دون ركونٍ مُتزمتٍ إلى ما اقتضاه الالتزام بالشريعة الإسلامية والقوم منذ ذلك الزمان وقبله مسلمون يعرفون الطريق إلى بيت الله كما يدلفون إلى "الأزهر الشريف" للدراسة وهم في رواقهم السنا ري المعروف.. يدهشك أن ترى الأمة رعايا وسلاطين، في تلك السنوات السنّارية الغابرة، وقد تبيّنوا تنوّع مشاربهم واختلاف ألسنتهم وثقافاتهم في جذورها، نامية تحت شجر التسامح الباذخ . أليس غريباً أن تلتبس الأمور نفسها على أقوامٍ عاشوا في ذات البقعة، جاءوا بعدهم بعد أكثر من قرنين من الزمان، آثروا أن لا يبصروا ما أبصر أسلافهم القدماء في "سلطنة الفونج"، ففقدوا الاتجاه والبوصلة معاً.. ؟ ( 5 ) أقول لصديقنا أحمد المعتصم : لقد أنجزت ترجمة مؤلف "سبولدينق" في اللحظة التاريخية المناسبة ، إذ نحن نحتاج الآن إلى النظر عميقاً إلى أحوالنا وقد لحقها ما لحقها من ممتهني عطارة الزيف والمعاجين المضروبة . ليت الناس تقرأ هذا الكتاب المفيد الممتع ، فإنك تجد الإمتاع في ترجمة حققت مراميها ، أما المعاني فإنك ستقف معي على حال الدولة السنارية القديمة، التي تبينت تنوع ثقافاتها، وما انهارت إلا بالغزو الخارجي، يهجم عليها ويفتّ من عضد تماسكها واستقرارها. وما أفلحت "التركية السابقة" بعد انهيار سلطنة الفونج- على كثرة شرورها- في الإضرار بنسيج سودان متماسك، فتأرجحت إدارتها للبلاد بين مركزية قابضة ولامركزية مترددة. أفلحت"المهدية" بعد "التركية السابقة" أواخر القرن التاسع عشر، في الحفاظ على ذلك النسيج بقدرٍ كبير. الاستعمار البريطاني وحده هو الذي أفلح، بقوانين المناطق المقفولة التي سنّها، من الاقتراب لنقض نسيجنا وغزلنا السوداني، وقد كان متماسكا في سنوات "البطولة في سنار"، كما يوحي هذا العنوان الرومانسي لكتاب "سبولدينق". ثم إني أنظر حولي، وقد فرغت من قراءة كتاب "سبولدينق"، فأرى حالنا وقد آثرنا أن نحتفظ من الوجدان بنصفه، واختار النصف الأضعف أن يذهب إلى حال ضعفه ووقفنا نأسى. تضرب الشعوب الأمثال لنفسها في أوقات الشدّة، وقد تقلبها رأساً على عقب، أو قد تقرأها من اليسار إلى اليمين، وإني أسمعك عزيزي القارئ تقول بلساني وتسأل معي: هل أفسد العطار الحالي ما أصلح الدهرُ في السابق؟ الخرطوم – 31 يناير 2012