في مناخ ما بعد هجليج الذي يسِمُ راهننا الوطني الدقيق هذا، والذي فيه ما يكفيه من توترات إثنية وأمنية وعسكرية ما تفتأ تتهددنا بخطر الانزلاق إلى هاوية حرب شاملة لا تبقي ولا تذر مع جارتنا الجنوبية، تلقينا في اتحاد الكتاب السودانيين، بقلق بالغ، نبأ إقدام جماعة متطرفة من الساعين بالفتنة، الناشرين لعكر الضلالات التكفيرية، المتربصين بالتعايش الديني والسلام الاجتماعي الدوائر، على حرق وإتلاف وتجريف مزرعة الجريف التابعة للكنيسة الإنجيلية المشيخية في السودان، وتدمير ممتلكاتها ومتعلقاتها بالكامل، إذ هي معهد للكتاب المقدس، ودار للمسنين، وملجأ للأطفال، وعيادة طبية، وداخليات للقساوسة، وقاعات كنسية للعبادة. إن وقوع ذلك، مباشرة، بعد عودة هجليج إلى حظيرة الوطن بالسبت 21 أبريل الجاري ليس من قبيل المصادفة، فالتحريض عليه من قوى الظلامية الدينية المنكفئة هو امتداد لما ظلت نفس تلك القوى تقوم به، كلما حسبت أوضاع السلطة على هواها، من حض على الكراهية بين الطوائف، واستخدام للدين مطية لفرض رؤاها الشاذة، ونفي رؤى الآخرين وحقوقهم في حرية التعبير والضمير، بل وسلبهم حتى حق الحياة نفسها، فمِن المحرضين على محرقة الجريف اليوم من كان وراء حرق معرض الكتاب المقدس بجامعة الخرطوم أواخر الألفية المنصرمة، ومِن المستجيبين لهم في الجريف غرب اليوم من سعى لمنع افتتاح دار للحزب الشيوعي بنفس الحي، حين أفتوا لهم بتكفير منتسبيه، ثم إنهم هم أنفسهم من وزعوا شهادات التكفير والاستتابة، ونادوا بتنفيذ حد الردة قتلاً في كل وطني خالفهم الرأي، وها هم، ما أن وقع انفصال البلاد الأليم الذي دفعوا باتجاهه دفعاً، حتى ركبوا موجة العنصرية الجاهلية الشائهة، وسنوا لأجلها أسيافهم سناً. ثم ما لبثنا أن تلقينا، بقلوب واجفة أيضاً، نبأ قيام السلطات الأمنية بنيالا، في 23 أبريل 2012م، ودون إبداء أي أسباب، بإغلاق العيادة الطبية التابعة لكنيسة المدينة، ومقار منظمة مجلس الكنائس السوداني، ومنظمة العون السوداني، واعتقال ثلاثة من موظفيها من مواطني جنوب السودان، واقتيادهم إلى جهة غير معلومة، فضلاً عن طرد بقية الموظفين، علماً بأن العيادة توفر العلاج المجاني للمواطنين، بينما المنظمتان تقدمان مختلف المساعدات الإنسانية لنازحي دارفور منذ بداية الأزمة. إن كل من قدر له أن يشاهد "عملية الجريف"، من خلال شريط الفيديو الذي بثته مواقع أسفيرية شتى، لا بد قد لاحظ المستوى من الحقد المرضي الذي كانت أفعال الجناة المشينة تصدر عنه، مما يستبعد تماماً إرجاع الحادثة إلى محض نزاع حول ملكية أرض، كما حاولت بعض الجهات تصويرها! وكان من الممكن اعتبارها عملية معزولة لولا تزامنها الغريب مع "عملية نيالا" المنسوبة إلى جهاز تفترض فيه المسؤولية عن أمن الناس، واطمئنانهم بالوطن، وبانتماءاتهم العقائدية فيه. إن التعايش السلمي بين شتى المجموعات الدينية، والعرقية، والثقافية، واللغوية السودانية، واحترام خصوصياتها، وتوقير مقدساتها، لهو من أهم ما يهم اتحادنا، حسب ما ورد ضمن ديباجة نظامه الأساسي. وانطلاقاً من هذه القناعات فإننا: (1) ندين هذه الجريمة الشنعاء في حق الوطن، وسلامه، واستقراره المأمول على قيم التعايش والتسامح. (2) نحيي الروح الطيبة التي تبدت، منذ اليوم التالي لكارثة الجريف، في حماس الشباب الغض، مسلمين ومسيحيين، والطرق الصوفية، والكيانات الإسلامية السودانية الأصيلة، والقوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، لتدشين حملات المناصرة للكنيسة والطائفة المعتدى عليهما، وتنظيف المزرعة الكنسية، وإعادة بناء ما تهدم منها، سعياً وراء الخير، ورتقاً لنسيج الوطن الذي عمدت يد العنصرية والكراهية والجاهلية البغيضة إلى فتقه. (3) نطالب رئاسة الجمهورية بالتدخل لإلغاء كل الإجراءات التي اتخذت في "عملية نيالا"، والتوجيه بالإسراع في الكشف عن الحقائق في "عملية الجريف"، والقبض على الجناة، وتقديمهم لمحاكمات عادلة وعاجلة؛ فبدون ذلك يبقى الوطن مرشحاً للتبدد ما بقيت قيم التساكن فيه نهباً لمرضى النفوس المتخفين وراء شعارات الإسلام، والإسلام منهم براء. الأمانة العامة 27 أبريل 2012م