حين هبطت مدينة دُبي بعد غيبة ليست بالطويلة (بحساب السنين)، أذهلني التغيير الهائل في المدينة مذ أن رأيتها آخر مرة؛ كأنهم هدموا المدينة القديمة وأقاموا عِوضا عنها مدينة أخرى، أرجلها تغطس في مياه الخليج المالحة، وباقيها مغروز في صحراء قفر يباب. زهرة ضخمة براقة من الصلب والأسمنت والزجاج، والبشر الذين اجتذبتهم رائحتها الفواحة من أقطار الدنيا: رائحة المال والحرية والفرص. أدهشني معمار دبي المتنوع العجيب؛ كأنهم استقدمو خيرة معماريي العالم وقالوا لهم: إبدعوا ولا يهمنّكم المال اللازم لإحالة أفكاركم إلى حقائق راسخة. خرجت إلى حيّز الوجود البنايات الشاهقة المبرومة، والاهرامات المقلوبة، والمراكز التجارية ذات الفخامة والضخامة وما تشتهي الأنفس من أركان الدنيا الأربعة. وخرجت من قاع البحر "النخلة" ومجمع أطلانطس، وما أدراك ما أطلانطس! وفي قلب دبي الجديد، ارتفع برج خليفة، يشكُّ ، كالإبرة العملاقة، خاصرة السماء التي تُلوِّنها أغبرة الصحراء، آية من آيات المعمار في العالم. حين رأيت دبي آخر مرة، كانت شوارع المدينة والطرق التي تربطها بأبوظبي والعين والشارقة والإمارت الشمالية تختنق بالسيارات التي تزحف وسط صهد الصحراء الحارق، ورطوبة الخليج الخانقة. لذلك دُهشت حين وجدتهم قد شيّدوا طرقا سريعة فسيحة في كل الاتجاهات، وكباري علوية تتلوى فوق حركة السير، وأنفاق تختصر الزمن والمسافات، وقطارا (مترو) علويا يربط قلب المدينة بالأطراف وخاصة جبل علي، بمحطات مُغلقة مكيفة الهواء. كل شئ مصنوع بدقة وفخامة وتجويد. غير أن عيني الثالثة، عليها اللعنة، لا تتركني أتملّى واستمتع بما أرى. تكشف، كأشعة أكس، المستور، وتُعرّي الواقع الوردي عن ثيابه الزاهية لترى البثور، وتُجري المقارنات عبر المسافات والأزمان. كلما نظرت إلى البنايات الشاهقة الفخمة محكمة الصنعة، أفسدت عليّ عيني الثالثة ذلك، وجعلتني كمن يرى تحت هذه الصروح الآلاف المؤلفة من العمال الآسيويين وغيرهم، يحملونها على أكتافهم العارية، في حر الخليج الخانق، كما تحمل أرتال النمل قطع الخبز التي تفوق وزنها عشرات المرات. دبي برج بابل هذا الزمن. جمع في مكان صغير بين البحر والصحراء أجناس الدنيا ومللها ونحلها ولغاتها وألوانها وسُحنها. تسير في مراكزها التجارية الكبيرة، فتصكّ أذنيك لغات تعرفها وأخرى لم تسمعها ولم تسمع بها وتكتحل عيناك بوجوه وسحنات وألبسة من قارات الدنيا الستة. يُفرغ مطار دبي الذي لا يهدأ كل يوم آلاف المسافرين، تحملهم كل خطوط طيران العالم، يبغون التجارة، واللهو المُباح وغير المُباح، وفرص العمل والإقامة، أو السياحة والتبضع. وحين عصفت رياح السياسة والتغيير والعنف بالمراكز الأخرى المُنافِسة كالقاهرة وبيروت، وأوصدت مدن الغرب أبوابها أو كادت، أضحت دبي قبلة جديدة مقبولة للمستثمرين والمغامرين، وللتجار من كل حدب وصوب، وللسياح، وللفارين بدينهم وبأموالهم (وأموال الغير)، ولطلاب العلم والعمل والعلاج واللهو. تأبى عيني الثالثة، كما تفعل دائما، أن تتركني أرى الدنيا كما هي أمامي. تدفعني لعقد المقارنات مع ما يحدث في بلادي لتُثير حسراتي. تُذكرني بأن حكامنا ووزارءنا وولاتنا وأعضاء برلماننا وكبار موظفينا، وضباط جيوشنا وأمننا وشرطتنا، ورجال أعمالنا، وأسرهم وأهليهم وجيرانهم، كلهم يأتون إلى دبي مرات ومرات، يشترون العقارات في الجُزر المقتطعة من مياه الخليج، ويضعون "مدخراتهم" في مصارفها، ويشترون لوازم زواج أبنائهم وبناتهم، ويروّحون عن النفس؛ يأتون مطار دبي النشط قاصدين وعابرين، ويُعجبون بحُسن تنظيمه . ثم يسلكون شوارع دبي الفسيحة وكباريها وأنفاقها جيدة الصنعة، ويرون حدائقها العامة وخضرة شوارعها، وتعجبهم هذه الخضرة في واد غير ذي زرع. وإذا ما عادوا إلى بلادهم، عادوا إلى ما كانوا عليه قبل أن يروا دبي ويعجبهم ما يرون: خططوا المُدن بعِصِيِّهم، وبنوا الشوارع رديئة الصنع، وقدموا الخدمات التي تؤخر ولا تُقدم، وتركوا المُدن جرداء غبشاء عاطلة من الخُضرة، والنيل بروافده يجري تحت أقدامهم. أفلا ينظرون ويتعلمون؟ دُبي تشتري الخبرة حيثما كانت لتبني وتُعمّر، ونحن نركل الخبرة المجانية التي بنتها البلاد، ونركن إلى خبرة "القوي الأمين" الذي هو في قوّة الثور في مستودع الخزف!