وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    تجارة المعاداة للسامية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقدية في ملابسات فوز الطيب صالح بجائزة القاهرة للرواية .. بقلم: عبد المنعم عجب الفيا
نشر في سودانيل يوم 22 - 07 - 2009

حينما أعلن عن فوز الطيب صالح بجائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية في دورتها الثالثة سنة 2005 لم أحس بشيء من الفرح او التفاعل الايجابي مع الخبر. لا ، بل حز في نفسي ان يظل الطيب صالح زاهدا في الجوائز الادبية طيلة هذه السنوات، ثم يقبل اخيرا بان ينال هذه الجائزة في دورتها الثالثة وهو الأحق بها منذ البداية، بل أحق باكبر جائزة روائية مهما كانت. واذكر انني كتبت هذا الرأي وقتها في أحد المنتديات بالشبكة العالمية.
هذا الاحساس بالغبن الادبي، دفعني أن اتجرأ وأسال الدكتورة يمنى العيد الناقدة الادبية اللبنانية الفذة وهي عضو في لجنة الجائزة عن أسباب عدم منح الجائزة للطيب في دورتها الاولى. فقالت لي إننا رشحناه منذ الدورة الأولى ولكنه رفض. هنا تذكرت رفضه الترشح لجائزة سلطان العويس الاماراتية رغم إصرار الاصدقاء والمعجبيين. فقد سعينا نحن ثلة من السودانيين بالامارات لترشيح الطيب صالح للجائزة ورحب القائمون على أمر الجائزة بشدة بالفكرة ولكن العقبة كانت ان الطيب رفض ان يتقدم بنفسه بطلب الترشيح حسب ما تقضي به شروط الجائزة .
ولذلك لم استغرب رفض الطيب صالح الترشح لجائزة القاهرة في دورتها الأولى كما ذكرت الناقدة الكبيرة يمنى العيد . والذي لا يساورني شك فيه ، أن الطيب صالح لم يرض بالجائزة في دورتها الثالثة الا من باب التضحية واحساسه بالمسؤولية لانقاذ سمعة الجائزة ، كونه أحد أعضاء لجنة الجائزة ، بعد ان رفضها الروائي المصري صنع الله ابراهيم .
ولكن كما يقول المثل " رضينا بالهم والهم ما راضي بينا " فقد كشف الناقد المصري المعروف الدكتور جابر عصفور، الذي أكن له التقدير والاعجاب، منذ أول مقالة نقدية قرأتها له بمجلة (فصول) المتينة في موضوعاتها ، في ثمانينات القرن الماضي ، كشف لأول مرة أنه كان ضد فوز الطيب صالح لجائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية في دورتها الثالثة وانه كان يفضل عليه روائي آخر من الاجيال التالية كان يراه أحق بالجائزة من الطيب صالح لكنه رضخ تحت الحاح بقية اعضاء لجنة الجائزة.
ففي استطلاع لشهادات الكتاب والمثقفين العرب نشر بالاتحاد الثقافي لجريدة الاتحاد الظبيانية العدد 80 بتاريخ 26 فبراير 2009 يقول جابر عصفور عن الطيب صالح : " بشكل شخصي اشعر بالامتنان له ففي عام 2005 كنت أمين عام المجلس الأعلى للثقافة وكنا قد عقدنا الدورة الثالثة لمؤتمر الرواية العربية وكان الطيب صالح مرشحا للجائزة وكان ينافسه ابراهيم الكوني وكان ميلي النقدي مع الكوني لكن اللجنة قررت فوز الطيب صالح ، فقلت لهم على بركة الله .. "
الامر الذي لا شك فيه ان ترشيح الطيب للجائزة في الدورة الثالثة قصد به رد إعتبار لها بعد ان رفضها الروائي المصري صنع الله ابراهيم في دورتها الثانية والذي حضر إحتفال تسليم الجائزة واعتلي المنصة ليفاجيء الجميع برفضه للجائزة لاعتبارات سياسية ، وكان لا بد للبحث عن مخرج لرد الاعتبار للجائزة . ولكن رد الاعتبار لا يكون الا من كاتب يتمتع بمكانة ادبية رفيعة ويحظى بقبول كبير وسط القراء والنقاد على السواء وله وزنه العربي والعالمي وهو ما يتوفر عند الطيب صالح ، وجابر عصفور مقر بذلك .
وبالتالي ان رفض جابر عصفور ترشيح هكذا شخص يتناقض تناقضا صارخا مع مقولة رد الاعتبار للجائزة والشعور بالامتنان الشخصي للطيب صالح لقبوله الجائزة. فهل أراد جابر عصفور بهذا الموقف المزدوج أن يرد الاعتبار لجائزته وهو يعلم جيدا أن لا أحد يمكن ان يمنحه هذا الاعتبار بلا طق وبلا شق مثل الطيب صالح ، ولكنه في ذات الوقت لا يريد ان يمرر ترشيح الطيب دون معارضة حتى ولو كانت معارضة لا تستند إلى شيء.
أقول معارضة لا تستند الى شيء من واقع ما كتبه الدكتور جابر نفسه إذ أنه بعد اسبوع واحد فقط من إعلانه عن معارضته فوز الطيب صالح بجريدة الاتحاد الظبيانية ، كتب جابر عصفور بجريدة الحياة اللندنية في عموده ( هوامش الكتابة ) مقالا مكون من حلقتين بعنون " وداعا أيها الطيب" نشر يومي 25/2/2009 و4/3/2009 وجل ما كتبه في هذا المقال في تقريظ نصوص الطيب صالح الروائية ، يصلح أساسا قويا لترشيحه ، ليس لجائزة ملتقى القاهرة للرواية فحسب بل لاكبر جائزة عالمية.
هذه المرة لم يتحدث عن معارضته هو شخصيا ، لفوز الطيب صالح لكنه حاول ان يلقي اللوم على زملائه في لجنة الجائزة زاعما ان بعضهم اعترض على الطيب صالح بحجة انه منطقع عن الكتابة وانه لم يصدر رواية خلال العشرة سنوات الاخيرة فرد عليهم هو أي جابر عصفور - بان اخرج لهم كتاب منسي الذي صدر في ذات السنة ( علما أنه يدري ان منسي ليست رواية وانما سلسلة مقالات اخوانية نشرت مجلة المجلة في التسعينيات) فوافقوا على منح الطيب الجائزة !!
وكان قد أستهل المقال بالحديث عن صداقته الحميمة للطيب صالح وكيف كان يتابع صحته في أيامه الاخيرة وعن حزنه لموته ، ثم يستعرض كتابات الطيب صالح ويعطيها حقها من التقييم النقدي وكل ما قاله عنها يكفي لتثبيت الطيب صالح عبقريا للرواية العربية إلى ما شاء الله ، الامر الذي يجعل المرء يستآءل عن السر في معارضته منح جائزة القاهرة للطيب صالح ، وعن السر في التصريح بذلك الموقف المعارض بعد رحيل الطيب صالح !!
فعن رواية موسم الهجرة الى الشمال يعبر جابر عصفور عن دهشته بروعة الرواية والهزة التي أحدثتها بقوله : " .. أدرات الرواية عقلي حين قرأتها ، وما أسرع ما أحدثت زلزالا في الثقافة العربية ، أخذ الجميع يتحدث عنها بوصفها حدثا فريدا ، إضافة كيفية إلى رصيد الرواية العربية ، وكانت الرواية انفتاحا على أفق إبداعي جديد ، مغاير ، في خطوات بالغة الجسارة ، سواء في اللغة أو في الموضوع أو في كيفية بناء الشخصيات والأحداث .. "
ثم يذهب الى حد وصف الرواية بانها عمل إستثنائي لا مثيل لها في الرواية العربية فجذبت النقاد من كل لون وإتجاه قائلا : " كانت رمزية الجنس الذي تعدد مشاهده في الرواية والحوارات بالغة الجسارة بين الشخصيات ، فضلا عن تقنيات تيار الوعي الحديث ، وعلاقة التوازي المتقلبة ما بين المشابهة والمخالفة في علاقة الراوي والمروي عنه ، مصطفى سعيد ، علامات على نوع استثنائي لا عهد به من قبل في الرواية العربية ولذلك انجذبت أقلام النقاد الى الرواية التي أصبحت مغوية لكل الاتجاهات النقدية ، إبتداء من نقاد الواقعية بانواعها ، مرورا بنقاد التحليل النفسي ، أنصار الوجودية ، فضلا عن المتنمين الى الاتجاه الرمزي من المتاثرين بتقاليد يونج وفيريز ، وظلت الرواية حمالة أوجه ، لا تكف عن إثارة الانتباه إليها ، وذلك لانها نص إبداعي إستثنائي يظل في حاجة إلى الكشف ولم يكن من الغريب أن يقبل نقاد خطاب ما بعد الاستعمار على إلاهتمام بها والتحليل الميكروسكوبي لدلالالتها الفاضحة للخطاب الاستعماري المنطوي على معاني الهينمة والاستعلاء والتخييل . "
ليس رواية موسم الهجرة وحدها التي تنال هذا الاعجاب والثناء من الدكتور جابر عصفور بل رواية عرس الزين ، تلقى عنده ذات الحفاوة والتي يقول عنها: " نالت من الاستقبال ما يقارب إستقبال موسم الهجرة ، وكانت زغرودة للحياة كما وصفها المرحوم على الراعي بحق . وقد جعل الطيب صالح محورها المركزي الزين الذي كان شخصا استثنائيا .. لا نمنع أنفسنا من الاتحاد الوجداني مع الزين الذي ينوس بنا ما بين الحس والعاطفة والتلقائية محتفين بفرحة عرسه التي هي فرحة الحياة وشهوتها التي تصل بمعاني حضورها الى ذروة الاكتمال والكمال في الوجود بالوجود . "
ثم يضع جابر عصفور، الطيب صالح في مكانة واحدة مع نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل حيث يقول : "تتابعت أعمال الطيب صالح الذي صار في صدارة الصف الاول من كتاب الرواية العربية ، جنبا الى جنب العمالفة يوسف ادريس ونجيب محفوظ وفتحي غانم ,وأمثالهم على امتداد أفق الرواية العربية . "
ثم يعرض للخصائص التي أهلت الطيب ان يتبوأ المكانة العالمية الحقة بقوله : " حملت روايات الطيب صالح من صفات الانسانية الجوهرية ما جعلها مقروءة عبر الترجمة في الكثير من لغات العالم التي ترجمت اليها وكان إنجاز الطيب الذي مضي إبداعه الى العالمية الحقة ، عبر الغوص في أعماق القرية السودانية ، نظير إنجاز نجيب محفوظ الذي وصل إلى جائزة نوبل عبر إلابحار قي قرارة القرار من الحارة المصرية . "
لكل هذه الاسباب يعبر جابر عصفور في ختام مقالته عن اسفه لتوقف الطيب صالح عن الكتابة الروائية اذ بتوقفه أبى " علينا أن نهل من النبع الصافي الذي ترقرقت منه أعماله القليلة المؤثرة التي ستبقى علامات ناصعة الضوء في خريطة الابداع العربي والعالمي على السواء أما خسارتنا نحن أصدقاءه الحميمين فهي أكبر من أن توصف. "
هنا لا يملك القاريء الا ان يتساءل مندهشا : وماذا يريد جابر عصفور من الطيب صالح حتى يحظى بتاييده في الفوز بجائزة القاهرة للرواية العربية ، ماذا يريد منه اكثر من ذلك ، بعد ان شهد هذه الصفات ؟
فاذا كان نجيب محفوظ الذي يقف معه الطيب صالح جنب الى جنب في صدارة الصف الاول حسب وصف جابر عصفور ، قد فاز بجائزة نوبل ، فكيف نستكثر على الطيب صالح أن يفوز بجائزة القاهرة في دورتها الثالثة ؟
لقد تملكتني الحيرة وأنا أتامل في موقف الدكتور جابر عصفور واقلب في احمالات تاويله حتى ذهبت بي الظنون الى حد الاعتقاد بان جابر عصفور لم يقف ضد فوز الطيب صالح. إلى أن قرأت أثناء انشغالي بكتابة هذا الرد ، ما كتبه مؤخرا الدكتور محمد شاهين استاذ الادب الانجليزي بالجامعة الاردنية وعضو لجنة جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية الذي أكد معارضة جابر عصفور فوز الطيب صالح.
وكان الدكتور شاهين مشاركا في مدولات اللجنة وحاضرا لحظة تسلم الطيب للجائزة ، بل كان في رفقة لصيقة به قبل وبعد تسلم الجائزة. فهو من المعجبين المتحمسين جدا للطيب صالح وصديق مقرب منه كما عبر عن ذلك في أكثر من مقالة.
ففي إطار ملف هزيل مكون من مقالتين نشرته مجلة العربي( عدد يونيو 2009 ) بمناسبة رحيل الطيب صالح، كتب محمد شاهين : " عندما وقف الطيب صالح يلقي كلمته من فوق مسرح الاوبرا كان الجمهور يعبر عن فرحة لم يسبقها مثيل همس الصديق الناقد المعروف الذي عارض فوز الطيب صالح في أذني ونحن نقف خلف الطيب نستمع الى كلمته قائلا الطيب (بيهجص ) كان ردي عليه ان الطيب يقرأ علينا رواية جديدة لم تنشر من قبل ."
لا شك أن الدكتور محمد شاهين يقصد بالصديق والناقد المعروف ، هنا ، الدكتور جابر عصفور. اذن معارضة جابر عصفور كانت حقيقية ولم تكن موقفا مختلقا كما ظننا ،وعلينا الان ان نبحث عن اسباب لهذا الاعتراض يزيل علامات الاستفام التي اسبتدت بتفكيرنا . فهل يمكن ان تقودنا كلمة (بهجص ) او بهقص حسب النطق والتي وضعها محمد شاهين بين قوسين الى مفتاح لفك الحيرة.
لقد ظننت أول وهلة ان جابر عصفور يعبر بذلك عن اعجابه بكلمة الطيب صالح.ولكن كم كانت الفاجعة عندما علمت ان الكلمة تعني في اللهجة المصرية " يقول أي كلام " من باب الفشار والبوبار ، أو نحو ذلك ويبدو ان تعليق جابر عصفور بتلك الكلمة قد أستفز دكتور محمد شاهين فجاء رده على جابر عصفور حاسما بان قال له لا يا صديقي ان الطيب صالح يقرأ علينا رواية جديدة لم تنشر من قبل.
كذلك أشار الدكتور محمد شاهين في مقالته المنشورة بمجلة العربي ان الذين عارضوا فوز الطيب صالح تحججوا بقلة انتاج الطيب زاعميين: " ان موسم الهجرة لوحدها لا تفي بالغرض سيما وانه توقف عن الكتابة بعدها " ويتولى محمد شاهين الرد على هؤلاء بقوله: لكن الدافع من وراء هذه المعارضة هو في اعتقادي خلفية ثقافية تستند الى معيار الكم ومعيار الكم غير معمول به في الغرب كما يقول محمد شاهين ويضرب مثالا على ذلك بالروائي ي م فورستر الذي أكتسب مجدا روائيا من خلال روايته (الطريق الى الهند ) وهو في وضع مشابه جدا لوضع الطيب صالح : كتب أربع روايات جلبت له الشهرة وانتبه العالم الى روايته الاخيرة هذه دون سواها .
ويمكن الاشارة الى عشرات الامثلة اضافة إلى ما ذكره محمد شاهين في هذا السياق ، ودونكم جائزة نوبل التي منحت لادباء لم يكتبوا اكثر من عمل واحد ناجح. نذكر على سبيل المثال ألبرت كامي وصومئيل بيكيت وغيرهما. ولهذا نستغرب جدا ان يكون هذا سببا وراء موقف جابر عصفور المعارض خاصة في ظل تمجيده لروايات الطيب صالح وإيمانه بقوة ما تركته من أثر في الرواية العربية.
إن إسهام الطيب صالح يقاس بالقفزة النوعية التي حققها للرواية العربية التي كانت قبل الطيب صالح تزحف على استحياء في اتجاه أفقي تقليدي وبرواية واحدة نجح الطيب صالح بان يحقق طفرة رأسية قذفت بالرواية العربية دفعة واحدة الى بؤرة الاهتمام العالمي. ومن يومها صار الكتاب العرب يلقدون الطيب صالح ولا يفلحون الا قليلا ، فاكثر انتاجهم ثرثرة مضجرة يطلق عليها تجاوزا أدب وفن.
ويبدو ان جابر عصفور بعد اعلان الجائزة ظل دائم التفكير بينه وبين نفسه في موقفه المعارض لفوز الطيب صالح ، وكانه لم يكن واثقا من ذلك الموقف. يقول بمقاله بجريدة الحياة : "وقد جلست إلى نفسي ، بعد إعلان الجائزة بايام عدة ، لاسترجاع خصائص الكتابة الروائية عند الطيب صالح ، فلاحظت، أولا ، ان رواياته قصيرة على وجه الاجمال تصلها كثافة لغتها بالشعر.وثانيا انها روايات بطل واحد . وثالثا ان كل رواياته تبدأ من القرية السودانية وتعود اليها. "
ثم يضيف : " أما الخاصية الأخيرة فهي ثقافة الطيب صالح المذهلة التي تتجلي في كتابته وهذا مصدر ما لاحظه ادوارد سعيد من تشابه بين بعض ملامح موسم الهجرة ورواية جوزيف كونراد " قلب الظلام" وهو تشابه أقرب الى ما كان يسميه البلاغيون العرب وقع الحافر على الحافر وهو يحدث حين تتشابه تيمة او اكثر بين عمليين لا يعرف كاتبهما عمل الاخر خصوصا حين يكون الثاني لاحقا في الزمن . "
أما القول بان روايات الطيب صالح ، ذات بطل واحد ، فلا ادري ما الدلالة النقدية التي يقصدها الدكتور جابر عصفور من وراء هذه الملاحظة. في تقديري ان هذه الملاحظة تخلو من اي دلالة نقدية ولا محل لها عند الأعراب او الأغراب. فكل رواية ، شرقية أو غربية تقليدية او حديثة ، تتمركز بالضرورة حول بطل او شخصية محورية تمثل بؤرة انطلاق ومبرر بروز بقية الشخصيات. هذا بالرغم من أن وصف البطل الواحد ، لا ينطبق على روايات الطيب صالح ولا حتى على موسم الهجرة التي صار بطلها مصطفى سعيد أشهر شخصية روائية عربية. فهنالك في الرواية شخصية روائية لا تقل أهمية عن شخصية مصطفى سعيد وهي شخصية الراوي ,وقد اشار جابر عصفور نفسه في مقاله الى التقابلات والتبادلات بين الرواي ومصطفى سعيد في سياق حديثه في تمجيد الرواية .
بل على العكس مما ذكر جابر عصفور ان للطيب صالح الريادة في كسر قاعدة البطل الواحد وذلك في روايتيه ضو البيت ومريود . ففي هذين الروايتين من الصعب الحديث عن بطل واحد أو شخصية محورية واحدة. فرواية ضو البيت ليست عن ضو البيت وراية مريود ليست عن مريود. فكل شخصية في هاتين الروايتين تكاد تكون محور السرد. وفي هذا السياق يجدر بنا القول ان كل رواية من الرواتين تمثل وحدة سردية قائمة بذاتها وتقرأ على نحو منفصل، وبالتالي أن الحديث بان الروايتان يشكلان رواية واحدة لم يكمل الطيب صالح كتابة جزءها الثالث كما أشار جابر عصفور حديث غير دقيق.
حتى رواية عرس الزين من الصعب القول انها رواية البطل الواحد ، فالبطل هنا ليس الزين وانما مجتمع القرية بكل ما يموج به من عوالم والزين نفسه ليس بطلا بالمعنى التقليدي للبطل وانما رمز كوني لحالة وجودية على النحو الذي وصفه جابر عصفور نفسه في مقاله بجريدة الحياة .
أما قوله أن رواية موسم الهجرة الى الشمال تتشابه مع رواية جوزيف كونراد الى درجة وقع الحافر على الحافر ، لا يعدو كونه ، شطحة نقدية ، وقراءة غير صائبة لاشارات ادوارد سعيد عن المقارنة بين الروايتين. إذ لا يوجد إي تشابه بين اي ثيمة من ثيمات الروايتين.
فالمعروف أن رواية (قلب الظلام ) تبدأ بمجموعة من الرجال البيض يتسامرون على قارب شراعي على نهر الثيمز بلندن . يبدأ احد هؤلاء الاصدقاء بان يقص عليهم تجربة بحار يدعى مارلو سافر الى افريقيا وتحديدا الى الكنغو للالتحاق باحدي الشركات البلجيكية للعمل هنالك . في طريق وصوله الى هنالك تصادفه بعض الاحداث من قبل البلجيكيين ضد السكان المحليين تجعله يتشكك في المهمة الحضارية التي يزعم الرجل الابيض انها تعطيه الحق في اخضاع افريقيا لحكمه وسيطرته لاخراجها من الظلامات الى النور .
عندما يصل مارلو الى الكنغو تكلفه الشركة التجارية بالذهاب الى اعماق نهر الكنغو لانقاذ تاجر ابيض مريض يدعى كيرتز وهو اهم عملاء الشركة واكبر المزودوين لها بالعاج ( سن الفيل ). وقد اقام ذلك التاجر محمية له لتجارة العاج هنالك ونصب نفسه سيدا وصار يتصرف كإله بين الاهالي الى درجة انه زين سياج بيته من جماجم المتمردين الذين يخرجون عن طاعته. ولكن فجاة يصحو ضمير كيرتز المتجبر المتسلط ، فيصاب باضطراب نفسي ويمرض وعندما يصل مارلو اليه يجد ان المرض اخذ منه كل ماخذ ثم ما يلبث ان يموت بعد لقائه له .
وكانت اخر الكلمات التي نطق يها كيرتز : "الرعب! الرعب ! " بعد موت كيرتز يعود مارلو الى بلجيكيا حيث يلتقي خطيبتة كيرتز التي حزنت عليه حزنا شديدا . وحينما سالت مارلو عن اخر الكلمات التي نطق بها كيرتز لم يشاء أن يخبرها بالحقيقة ويقول لها ان آخر كلماته كانت :" الرعب! الرعب! " وانما قال لها ان اخر كلماته كانت : اسمك . وهكذا تنتهي الرواية .
فاين التشابه الذي يبلغ وقع الحافر على الحافر بين ثيمات رواية موسم الهجرة وقلب الظلام ؟ إن زبدة حديث ادوارد سعيد في كتابه Culture and Imperialism " الثقافة والامبريالية 1993 " هي قوله ان العلاقة بين الروايتين علاقة معكوسة. بمعنى أن نص موسم الهجرة الى الشمال مواز لنص رواية قلب الظلام من حيث مقاربة الروايتين لموضوعة الاستعمار الاوربي لافريقيا.
وقد وضع دكتور محمد شاهين يده على مفصل حديث ادوارد سعيد في مقالته المنشورة بمجلة العربي والمشار اليها آنفا عندما قال : " علق إدوارد سعيد على موسم الهجرة الى الشمال قائلا إنها أنموذج رائع بل خطاب محكم للرد على خطاب الاستعمار إذ يعتقد سعيد أن خير رد على خطاب الاستعمار هو خطاب مواز يستطيع النفاذ الى ذلك الخطاب write back اي الرد بالمثل على خطاب الاستعمار تجنبا لما يمكن ان نقع فيه من سلبية الرد بسباب او شتيمة . "
وأقول إن التوازي بين الرواتين وليس التطابق ، تفرضه حقيقة ان كل رواية مستلهمة من تجربة حياتية واقعية مختلفة عن الأخرى. فالطيب صالح كان يصدر عن تجربته الشخصية في لندن في فترة ما بعد الاستعمار الأوربي ، وجوزيف كونراد كان ايضا يصدر عن تجربة شخصية عاشها في الكونغو في وقت كان فيه الاستعمار الأوربي لافريقيا في أوج نشاطه.
لذلك ان مقاربة الاستعمار التي تجمع بين الروايتين صادرة من قاهر ومقهور ومن هنا ياتي الاختلاف بين الثيمات . في قلب الظلام نجد كيرتز يخوض تجربة الاستعمار كمستعمر (بالكسر ) بينما مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح ، يخوض التجربة كمستعمر (بالفتح). واذا كان كونراد نظر الى الاستعمار كعمل بشع ولا انساني وغير حضاري ولا بد من ان ينتهي متخذا من موت كيرتز علامة على نهايته الحتمية . فان فشل مصطفى سعيد في الانتقام والثار لكرامته من المستعمر بذلك الاسلوب الذي وصفته الرواية بالالتواء ، تمثل اشارة من الطيب صالح على ضرورة تجاوز مرارات التجربة الاستعمارية والانهماك في معركة التعمير والرقي من خلال العلم والعقل والتعايش السلمي والاحترام الثقافي المتبادل.
علاوة على ان مقولة وقع الحافر على الحافر ، اجترحت أصلا لنقد الشعر العربي القديم وقامت عليها الموازانات والسرقات . وقد أفسدت هذه المقولة الذائقة النقدية العربية وحولت أجود الشعراء مثل ابوتمام : رائد الحداثة الشعرية العربية كما يصفه ادونيس ، الى مجرد سارق وما هو بذلك. وقد ثار ابو تمام على ذلك التقليد النقدي القاتل للابداع قائلا: " طريقة القول أهم مما يقال " اي طريقة الاداء الادبي والابداعي عموما أهم من المضمون وبذلك سبق كل منظرو الحداثة الاوربية وما بعدها في تغليب الدال على المدلول . والى ذلك ذهب الجاحظ فقال ان المعاني والافكار والموضوعات مبذولة على قارعة الطريق وانما يتمايز الادباء والشعراء في الصياغة لا في المعاني. وبهذا أخذ عبد القاهر الجرجاني فابتدع نظرية النظم وقال ان سر الأدب والشعر يكمن في النظم اي في الصياغة (الدال ) .
فكيف اذن يسترجع جابر عصفور ، مقولة وقع الحافر على الحافر ليصف بها مقاربة الروايتين لموضوعة الاستعمار ، ودونه نظريات الحداثة وما بعد الحداثة التي يقيم المعارك الادبية من أجلها ويستميت في سبيلها ، فهذه النظريات تهزأ من مفاهيم ، الابداع ، والاصالة ، وتستبدلها ، بالتناص والتكرارية والعود الابدي ، وموت المؤلف ، لتنتهي بنا الى ان الابداع كله وقع حوافر على حوافر !!
ومن الاشارات السالبة التي يمكن تحسب الى جانب موقف جابر المعارض حديثه عن قصة ( دومة ود حامد )التي يعدها كثير من النقاد أفضل قصة قصيرة عربية ، حيث يقول : " و لا يزال يساورني إحساس ان الطيب صالح مضى في خطى يحيى حقي في روايته قنديل ام هاشم التي تنتهي بامكان المصالحة بين القديم والجديد على نحو من الانحاء. "
لاحظ كلمة " يساورني إحساس " وما تشي به من دلالات. فهل مجرد موضوع الصراع بين القديم والجديد دليل على حذو الطيب صالح حذو يحى حقي؟
إن الاعمال لا تقاس بالافكار والموضوعات التي تعالجها وانما بتميزها من حيث الحبكة والخصائص الأسلوبية ،والتفنن في طرائق التكنيك السردي ورسم الشخصيات وتوظيف اللغة ايحائيا ورمزيا في خدمة الرؤى فنيا ، والدكتور الفاضل ، أدرى مني بذلك.
لقد أشار كثير من النقاد الى أن العلاقة بين الشرق والغرب سبق معالجتها من قبل روايات سابقة على موسم الهجرة الى الشمال ، مثل رواية ، عصفور من الشرق ، لتوفيق الحكيم ، وقنديل أم هاشم ليحي حقي ، ورواية الحي اللاتيتني ، لسهيل ادريس. لكنهم اجمعوا على ان هنالك فارقا نوعيا من حيث القيمة الفنية بين تلك الروايات المبكرة ورواية (موسم الهجرة الى الشمال).
حتى من ناحية الموضوع والتطور الفكري ، هنالك اختلاف نوعي بين أعمال الطيب صالح وروايات اؤلئك الرواد . فتلك الروايات السابقة ، في رأي ، لم تتجاوز عتبة الطرطشات العاطفية. وهنا أترك المجال للطيب صالح يحدثنا عن الفرق . فقد سأله الناقد خلدون الشمعة في حوار نشر بكتاب عبقري الرواية العربية بقوله :" ألاحظ أن هنالك تطورا ملحوظا من حيث الفكر في روايتك هذه بالنسبة للاعمال الروائية العربية بشكل عام . في ذهني على سبيل المثال رواية يحى حقي ، قنديل أم هاشم . نحن نلاحظ أن الصراع أشرس في موسم الهجرة وان الشخصية ترفض أن تتمثل للبيئة . "
لا يمكن أن أختم قبل أن أوميء إلى "الاشارت العرفانية" التي كتبها الشاعر اللبناني عباس بيضون عشية رحيل عبقري الرواية تحت عنوان " رواية المستقبل" واصفا بذلك روايات الطيب صالح. لقد " .. كانت احتفالية وملحمية عرس الزين وسحرية أو فانتازية «بندر شاه ومريود» قفزة اكثر مما يحتمل( القاريء) ، كانت فتحا روائيا بحق ولحظة في الرواية لم تتأخر عن العالم بل وجدت، بدون جهد او تقصد، فيه، لكن القارئ لم يكن بهذا التطلب."
" لقد كان مقلا ومع ذلك لم يستنفد، وبهذا المتاع القليل نحلم ان المستقبل سينصفه أكثر من الحاضر فكاتب في قامته لا يفوته المستقبل."


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.