( 1 ) نوفمبر 1976. . رحلتك الاولى إلى كمبالا، رحلة إلى عمق المجهول . مهمة دبلوماسية ستأخذ من عمرك زمنا وستشكل ملامح أيامك القادمات، فيما أنت قليل خبرة بالعمل الدبلوماسي. السفارات السودانية بالخارج لم تكن ساحة لتدريب وصقل قدرات أشبالٍ عرفوا التظرية وينقصهم التطبيق. المطر المنهمر في مطار "عنتيبي" بلّل هندامك وأنت تعادر الطائرة، ولا تجد أحداً من سفارتك في استقبالك. المساءُ مبلولٌ من غيمٍ يُمهّد لغربة ماثلة، ستطول لياليها وسيتواصل انهمار أمطارها، لتكون بعد سنوات وسنوات، فصلاً في كتابك "دفاتر كمبالا". . فجأة تقاطر أناسٌ في معاطف سوداء لامعة ومظلات مشرعة والسماء لا تكفّ عن الانهمار. تبيّنت أنهم جماعتك. ناس السفارة السودانية. لا يعرفك أحدٌ منهم. لا أحد، ولا ذلك الفارع الطول يتقدمهم . هل هو السفير. .؟ لا . . قال القنصل رشيد بابكر : إنه "المُوزَي". .! - كمبالا ترحب بك على طريقتها. .أنا القائم بالأعمال وقد تأخرنا عليك، إذ كنا نودّع زميلاً لنا يغادر على ذات الطائرة التي جئتَ أنتَ على متنها. يلقبونني بال"مُوزي"، سواحيلية تعني الرجل الكبير، لأني أسنّهم هنا . .! - أتكون أنت عباس أباسعيد . .؟ ( 2 ) تزامن وصولك إلى كمبالا مع رسائل رمزية من وزارة الخارجية، لأمرٍ طاريء وعاجل. الدرس الأول : دليل الدبلوماسي الناشيء لإعداد التقارير السياسية ولفكّ رسائل الخرطوم المشفّرة. دليلك وعرّابك إلى مفاتيح المهنة، أيّها المحظوظ، هو السيد أباسعيد. . في المساء كنّا في سهرة تعارف حميمة مع "ناس السفارة" وأصدقاء "ناس السفارة". من السودانيين القادمين من الجنوب: عكاشة وأمبكوره وجبرا وتيموثي لوقالي، وكثيرين لا تحصيهم هنا. الدّرس الثاني : دليلك إلى حياة المجتمعات الجديدة عليك، وعلى ثقافة أهلها، "الباقندا" وسواهم من قبائل البلاد. جامعة "ماكريري". مهندسو الري في عنتيبي. المهندس كمال التلب. الإسلامي اللامع في يوغندا محمد عبد الله جار النبي. الليل الهاديء والصاخب بين "كولولو" و"نكاسيرو". الرشيد بابكر في بيته العامر في "بقولوبي" يتذكر كيف يكون تذوّق موسيقى الديسكو الأمريكي برفقة "الموزي"، وقد سمقتْ تلك الموسيقى في منتصف سنوات السبعينات من القرن الماضي. "لوف تو لوف يو بيبي.. ". دليلك إلى غنائيات السمراء الأمريكية "دونا صومر" أيّها المحظوظ، هو السيد أباسعيد. . في العقد الأول من الألفية الجديدة تبدّلت مفاتيح المهنة بعد الانترنت، وودعنا الشفرة القديمة، وخلاله تقاعد السفير أباسعيد لبلوغه سن الستين . . في مايو 2012 غادر إلى القاهرة في رحلة الصيف، وفي مايو 2012 ، رحلتْ "دونا صومر" إلى غيابها السرمدي . . ( 3 ) كمبالا . . 1977 في حفل عشاءٍ بدار القنصل في ضاحية "بقولوبي" في قلب كمبالا، يجلس "الموزي" إلى صديقه القائم بالأعمال في سفارة غانا، السيد "آيدوو". تذكرك ملامح الدبلوماسي الغاني على الفور بملامح رجل غانا المفكر "كوامي نكروما". عينان واسعتان وفمٌ عريضٌ مزموم. أيكون "آيدوو" من أقرباء الزعيم الكبير؟ يدعوك أباسعيد للحوار المتبادل بينهما، فيكون درساً عن أحوال ومتغيّرات منطقة التمثيل. الجنرال عيدي أمين هو مصدر معلومات السيد أباسعيد، والدبلوماسي الغاني لن يجادل فيما يسمع. من مصادره الأخرى إعلاميون كبار وبعض وزراء الجنرال ومعاونيه. يزورون داره آخر الليل وبدايات الفجر، فيجدون الأبواب مشرعة والموائد ملأى بأصناف من المأكولات والمشروبات. صديقك القنصل يسمّيهم "الجراد"، إذ هم يهجمون على الموائد، نساءهم قبل رجالهم، ولا يهدأ للطباخ "جيمس" بال، إلا بعد أن يقضوا على المأكل والمشرب كله ! لكن للجراد فوائد لا تُرى، إلا بعد أن تتنزل المعلومات والشائعات سيولا، تعين السفارة في استجلاء ما علق بعلاقات كمبالا مع دول الجوار في تقاريرها إلى الخرطوم. ليس في الأمر من حرج إذ سفارة السودان كما يعرفها الدبلوماسيون الأ جانب في كمبالا، هي "سفارة الحزب الحاكم". . ( 4 ) تونس . . 1980 كانت محطتك التالية سفارة بلادك في تونس الخضراء، وقد سبقك عرّابك إليها يشغل وظيفة رفيعة في المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم في مقرها الجديد هناك. الخضرة في تونس ليست لوناً فحسب، بل هي روح وحميمية و "مشموم". كانت دار السفير أباسعيد منتدى الأصدقاء من السودانيين والمصريين وغيرهم من العرب، في الجامعة العربية وقد نزحت إلى تونس بعد "كامب دافيد"، مثلما فعلت أمانة منظمة الثقافة والتربية. تلك أيام مذهّبة بحضور لافت لسفراء مرموقين ولأعضاء من السلك الدبلوماسي السوداني في تونس، ولنجوم من الخدمة المدنية السودانية. موسى عوض بلال. سيد أحمد الحردلو. اللورد محمد أحمد ميرغني. بشير محمد الحسن. سيد أحمد البخيت. الجنيد بشير أحمد. في ضفة أخرى، هنالك خليفة عباس العبيد. كمال سنادة. الدرديري أحمد عبدالله. محمد علي الاريتري/ السوداني. حسن النور عثمان. نور الدائم. عبد المجيد محمد ابراهيم. طه حسن النور. القائمة تطول، وتونس أطيب محفلا في صحبة "الموزي". حين يطلّ على تونس سفيرٌ زائر، لهُ لمعٌ وبريقٌ مثل فخر الدين محمد، تزيد معرفتك بسجايا السفير أباسعيد، بقدراته وألمعيته. كنت وصديقك هاشم عبد الرازق، كبيرين مع الكبار الذين يحلون ضيوفاً على الكبير. . ( 5 ) "الخرطوم اتنين" ، مارس 2012 . . كنتَ تعرف ولعه بالمطالعة والتهام الكتب الجديدة. لا تزوره في بيته العامر، إلا وبيديك رواية أو روايتين من جديد ما كتب المبدعون السودانيون. أعياه ألم الإنزلاق الغضروفي فهوعلى سريره لا يغادره إلا اضطرارا. بين أوجاعه لا تفتر عيناه عن التهام كتبه وصحفه ومشاهدة قنواته المفضلة. قرأ روايتك "نقطة التلاشي" فرأى تونس في صفحاتها واستعاد بعض ذكريات عن شخوص تماهتْ ملامحهم مع كثيرين عرفهم أوائل الثمانينات من القرن العشرين، وقت أن كان يدير مكتب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في تونس الخضراء.يلاقي الأستاذ أحمد عبدالحليم ثم يدلف يستقبل د.جعفر ميرغني. وهناك أروب يور. . أدهشته في رواية"نقطة التلاشي" ، سرد الوقائع المصرية فيها . . - كنت أعرف أنك لم تزُر القاهرة قبل أن تكتب روايتك، لكنك أقنعت القاريء كراوٍ متفاعل مع شخوصه، أنك كنت هناك. . - كثيرون استرابوا في الذي كتبت، وكاد يجزم بعضهم أن لي قصة كبيرة مع المصرية "فاطمة سالم"، بطلة الرواية التي وردت علاقتها بالرّاوي في "نقطة التلاشي".. لكنك كتبت عملاً روائياً مميزا. . كنت تعرف عن "الموزيه" غرامه بالأدب وبالنقد، وقد كان كاتباً راتباً في صحافة الخرطوم في الستينات من القرن الماضي، وقلّ أن يقول ذلك عن نفسه. تقول عنه أنه مثقف ابن عصره، وعصره كان مشمولاً بدخان الحرب الباردة. في أوج عراكها، يكون في القاهرة دبلوماسياً نشطاً، يعرفه رهطٌ معتبرٌ من مثقفي القاهرة الناصرية. سنوات الهزيمة العربية الكبرى، شكلت وجدانه، بل أضافت إليه الكثير. رهانه كان على ضمير اليسار العربي، ينقذ ما يمكن انقاذه. في جراحات الوطن بعد 1971 وصديقه الحميم "أبوالعوض"، يكتب له القدر أن ينتقل إلى سفارة السودان في موسكو. ثمّة أوجاع لكنّهُ تحملّها على صبرٍ وخلق كريم. مايو 2012. الأنس يحلو وأيام الصيف تدنو والرحيل إلى القاهرة خيار "الموزي". كنت والسفير أمين عبداللطيف تجلسان إليه ، وما كنتما تعرفان أنّهُ اللقاء الأخير. . ( 6 ) 29 سبتمبر 2012 ... حدّثك بالنبأ الفاجع صديقك السفير عبد المنعم مبروك، ولم تصدق للوهلة الأولى. رسالة السفير صلاح محمد علي في هاتفك الجوّال، تحدّثك عن رحيل "الموزيه". مات أباسعيد. .؟ صعب عليك أن تصدّق. هذا موعده مع الخرطوم. أكتوبر كل عام، نلمّ زكائب الذكريات وترّهات ما نعايش، ثم الجلوس لطق الحنك، و"كريمة"- أمّ إيهاب- تعدّ الضيافة في حنوّها المعتاد. لا. . ليس لنا أن نلاقي الموزيه في الخرطوم، أكتوبر هذا العام. ليس في الأمر مزحة. عليك أنْ تصدّق أنّ ربّ العباد قد استردّ وديعته. غلبتك دمعة على أخ كبير، على عرّابك الأول . رحم الله محمد العباس أباسعيد، دبلوماسياً واسع الأفق، قويّ الشكيمة، وطنياً محباً لوطنه حتى الممات . . . الخرطوم- أول أكتوبر 2012 jamal ibrahim [[email protected]]