عاشت كينيا تجربة مؤلمة في عام 2008 تمثلت في العنف القبلي الذي أعقب الانتخابات الرئاسية والذي خلف أكثر من 1300 قتيلاً وتسبب في تشريد ما يقارب الخمسمائة ألف من ديارهم بأنحاء مختلفة من البلاد. استدعت الأحداث التي رافقت الانتخابات الرئاسية عندئذٍ تدخل المجتمع الدولي الذي أدهشه حجم العنف ونتائجه المأساوية ، وانتهى الأمر بإحالة الموضوع للمحكمة الجنائية الدولية التي تطالب حالياً بمحاكمة عدد من المسئولين الكينيين من بينهم مرشحان في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في مارس القادم هما أوهورو كينياتا وويليام روتو. وها هي عجلة الزمان تدور وتستقبل كينيا الانتخابات مرة أخرى في ظروف يصاحبها الكثير من القلق والخوف من تكرار التجربة السابقة. فوجئت الأوساط السياسية الكينية هذا الأسبوع بتصريحات لنائب رئيس الوزراء والمرشح لرئاسة الجمهورية مودافادي يقول فيها أن الأشخاص الأربعة المطلوبين من جانب المحكمة الجنائية الدولية بسبب أحداث العنف القبلية في عام 2008 هم مجرد كباش فداء ، وان كل الكينيين مسئولون عما جرى في عام 2008. وأشار مودافادي إلى أن اتهام اربعة بجريرة أربعين مليوناً ليس عدلاً ، ومضى قائلاً: "إن هؤلاء الأربعة يمثلون عارنا القومي ، لكن لا يجب أن يتحملوا وحدهم المسئولية الكاملة عن الأحداث". وأعلن رفضه التام لتسليم الأربعة للمحكمة الجنائية الدولية باعتبار أن ذلك يعني تنازل الدولة عن سيادتها ، مؤكدا أن محاكمة الأربعة داخل كينيا يمثل جانباً من تحمل البلاد مسئوليتها الأخلاقية عن أحداث عام 2008 مما يساعد في التئام جراحها. شن نائب رئيس الوزراء هجوماً عنيفاً على المحكمة الجنائية الدولية ، واصفاً إياها بأنها جزء من المشكلة ومشيراً لما حدث مؤخراً خلال أحداث دلتا نهر تانا في جنوب شرق البلاد حيث فقد العشرات ارواحهم وذلك عندما أحجم أفراد الشرطة عن مواجهة مثيري الشغب هناك خوفاً من أن تطالهم اتهامات المحكمة الجنائية الدولية على حد قول مودافادي. المعروف أن المنطقة شهدت اشتباكات بين الرعاة والمزارعين حول الموارد المائية ، وهو أمر يتكرر من حين لآخر فقد وقعت أحداث مماثلة بذات المنطقة في عام 2001 راح ضحية لها 130 قتيلاً وعشرات الجرحى. وبالرغم من أن تصريحات مودافادي التي أدلى بها في لندن كانت تهدف فيما يبدو للسعي من أجل تحقيق المصالحة الوطنية ، إلا أن مطالبته بعدم تسليم المرشحين الرئاسيين للمحكمة الجنائية نظر له من جانب الكثير من السياسيين والإعلاميين على أنه نوع من المناورة السياسية إذ أنه يرمي للتأثير على فرص رئيس الوزراء رائيلا أودنقا المرشح أيضا لرئاسة الجمهورية. ويتهم مناصرو المرشحين المطلوبين بواسطة المحكمة الجنائية الدولية أودنقا بأنه يقف وراء قرار المحكمة بغرض إبعاد منافسية على رئاسة الجمهورية. رفض الكثيرون تصريحات مودافادي باعتبارها تنصلاً من المسئولية إذ أنه ليس من المعقول أن يتحمل الأربعون مليون كينياً المسئولية ما دام الذين حرضوا على أحداث العنف القبلي معروفون للجميع. لقيت تصريحات مودافادي الكثير من الاستهجان من جانب منظمات المجتمع المدني وبعض نواب البرلمان الكيني ، وقد رأى الكثيرون فيها محاولة للكسب السياسي الرخيص فالواضح أنه يحاول زيادة شعبيته المتضائلة بكسب ود بعض المجموعات القبلية خاصة قبيلة الكيكويو الكبيرة والتي ينتمي لها أوهورو كينياتا. وقد وصف رئيس المركز الكيني للسياسة والنزاعات التصريحات بأنها غير مسئولة ، وأنها تشجع فقط على الإفلات من العقاب. أما صحيفة الستاندرد الأليكترونية وهي من الصحف واسعة الانتشار في كينيا فقد أشارت إلى أن البلاد مقبلة على موسم انتخابي مهم ، وأن المواطن الكيني تعود على سماع الكثير من السخافات خلال مواسم الانتخابات. وتشكك البعض في مدى صدق مودافادي وتساءلوا أين كان الرجل يا ترى عندما صوت حزبه السابق "الحركة الديمقراطية البرتقالية" بالاجماع ضد دعوة نائب رئيس الجمهورية موسيوكا بعدم تسليم المسئولين الأربعة للمحكمة الجنائية الدولية ، أو عندما صوت نواب البرلمان باغلبية كبيرة ضد مشروع قرار يدعو لمحاكمة المذكورين أمام المحاكم المحلية. كما تشير بعض التحليلات إلى أن التصريحات جاءت على ضوء ما رشح من حديث عن محاولات متعددة للتحالف بين بعض كبار المرشحين بغرض حسم الانتخابات في الجولة الثانية المتوقعة ، مما اثار قلق مودافادي الذي كان خارج البلاد. جاءت تصريحات نائب رئيس الوزراء غير الموفقة في وقت تشهد فيه كينيا العديد من الأفعال والأقوال التي تعكس حالة من التوتر تسود البلاد وهي مقدمة على انتخابات يتوقع الكثيرون أن تكون حامية الوطيس ويخشون أن تعيد انتاج أزمة عام 2008 ، وأن تساعد على إبراز الولاءات القبلية لسطح السياسة الكينية بصورة تزيد من التوتر. فبالرغم من أن تصريحات المرشحين الرئاسيين تدعو كما هو متوقع لتجاوز الاننتماءات القبلية والتصويت وفقاً لبرامجهم المطروحة ، إلا أن أفعالهم تشير لغير ذلك حيث يعمل الجميع على حشد التأييد القبلي وخلق التحالفات التي تقوم على أساس الانتماءات والمصالح القبلية الضيقة. بل إن بعض التصريحات التي يدلي بها السياسيون من حين لآخر تؤكد هذه الحقيقة ، ولعل فقدان مساعد وزير الثروة الحيوانية لمنصبه بسبب الدور السلبي الذي قام به في أحداث دلتا نهر تانا في شمال شرق البلاد يقف دليلاً على ذلك. جاءت أحداث دلتا نهر تانا خلال أغسطس وسبتمبر الماضيين كإشارة تنبيه لما يمكن أن تكون عليه الأحوال في الانتخابات القادمة ، فبالاضافة لإقالة مساعد الوزير التي أشرنا لها أعلاه فقد ذكرت منظمة هيومان رايتس ووتش أن ثلاثة سياسيين آخرين ساهموا في إثارة الفتنة هناك. تقيم في المنطقة المذكورة قبيلتان هما بوكومو وأورما ، الأولى تمتهن الزراعة بينما تمارس الثانية الرعي لذلك فقد كانت النزاعات بينهما حول الأرض والماء من الأشياء المألوفة. وتقول بعض المصادر أن معلومات قد وصلت للشرطة منذ يونيو الماضي حول نشاط يقوم به بعض المرشحين في الانتخابات القادمة ويسعون من خلاله لإثارة الفتنة بين القبيلتين ، غير أن الشرطة لم تحرك ساكناً إلى أن وقعت الأحداث التي راح ضحية لها العشرات من القتلى ورفعت من حدة التوتر في المنطقة. ولعل مما فاقم الأوضاع أن قرب المنطقة من الحدود الصومالية الكينية كان سبباً في سهولة حصول المتقاتلين على أسلحة حديثة أدت لوقوع الكثير من الضحايا. ومما زاد من تعقيد الأمور أن منطقة الساحل ظلت تشهد منذ فترة أحداثاً مثيرة أحد اطرافها المسلمون في المنطقة والذين بدأت اصواتهم ترتفع رفضاً للمعاملة غير العادلة التي يلقونها من جانب الحكومة التي تسيطر عليها قبائل الوسط الكيني. وقد تطورت هذه الأحداث بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة عندما أعلن مجلس ممباسا الجمهوري عن مطالبته الصريحة بانفصال إقليم الساحل والذي يقول أن الوثائق تؤكد أنه ظل دائما إقليماً مستقلاً تابعاً لسلطان عمان إلى أن وقعت البلاد تحت الاستعمار الإنجليزي حيث تنازل السلطان عن الاقليم ليكون محمية بريطانية. وتقول أدبيات المجلس أن جومو كينياتا أول رئيس لجمهورية كينيا المستقلة هو الذي قام بضم الإقليم بصورة غير شرعية. ارتبط اسم المجلس خلال الأسبوع الماضي بحدثين أولهما مقتل عدد من أفراده وآخرين بعد صدام وقع بين إحدى القبائل في المنطقة وعدد من الشباب الذين كانوا يؤدون قسم الولاء في إحدى الغابات ، ورغم أن المعلومات المتوفرة لم تؤكد أرتباط المجلس بموضوع القسم إلا أن الأنباء التي تواترت أشارت لذلك. أما الحدث الثاني فقد تمثل في هجوم قامت به مجموعة من أفراد المجلس على لقاء جماهيري في ممباسا تحدث فيه أحد الوزراء مما أدى لمقتل اربعة أشخاص من بينهم الحرس الخاص للوزير. حدا ذلك بالحكومة للإعراب عن رغبتها في أن تراجع المحكمة العليا قرارها الصادر في يوليو الماضي والقاضي بعدم ارتباط المجلس بأعمال العنف في المنطقة ، ومن ناحيته صرح وزير الأمن الداخلي أن المجلس يعمل على عرقلة الانتخابات في المنطقة وأنه يقوم بحملة دعائية لإقناع سكان الإقليم بعدم التعاون مع لجنة الانتخابات. من ناحية أخرى ، فإن سقوط مدينة كسمايو آخر معاقل حركة الشباب المجاهدين في يد القوات الكينية ينذر بوقوع عمليات انتقامية من جانب الشباب داخل المدن الكينية نفسها. وبالرغم من السعادة البالغة التي أبدتها الحكومة الكينية بسقوط كسمايو إلا أنها تتوقع أن تتزايد موجة العمليات الإرهابية في البلاد ، لذلك فإنها تدرس الآن كما تقول بعض المعلومات مسألة انسحاب قواتها من الصومال بطريقة منظمة حتى لا تبدو كمن يطمع في الأراضي الصومالية مما يشكل كرتاً رابحاً في يد حركة الشباب. ولعل الحدث الذي شهدته منطقة الساحل في الأسبوع الماضي والمتمثل في مقتل الشيخ عبود روغو الذي تقول المعلومات أنه ممثل تنظيم الشباب المجاهدين في كينيا ، وما تبع ذلك من مظاهرات واضطرابات في المنطقة يؤكد مخاوف الحكومة الكينية. ومما لا شك فيه أن كل هذه الأحداث ستنعكس بصورة أو أخرى على الانتخابات الرئاسية القادمة ، مما جعل الكثير من المراقبين يحذرون من احتمال وقوع احداث عنف شبيهة بتلك التي وقعت في البلاد بعد الانتخابات الرئاسية الماضية في عام 2007 ، خاصة وأن الحملة الانتخابية تشهد استقطاباً قبلياً واضحاً. Mahjoub Basha [[email protected]]