قد لا يصعب عقد مقارنات إيجابية بين حركتي 23 يوليو والإخوان المسلمين وذلك رغم أن الفكر الدارج يتجه إلى عقد المقارنات السلبية، وتصوير الحركتين بصورة النقيضين المتنافيين. وبالتأكيد فقد ساعد في تقديم تلك الصورة وترسيخها بعض الأطراف المتشددة في الحركتين، ثم جاءت أحداث الصدمة الدموية لتخلى الذاكرة العربية من معظم أوجه الشبه التي تربط بين الحركتين. جذر واحد للحركتين: أكثر ما يربط بين الحركتين أنهما كانتا امتدادا لحركة التحرير الوطني الكبرى التي قادها أحمد عرابي ضد السيطرة الأجنبية على مصر، وبقراءة مواثيق ومتبنَّيَات الإخوان وثورة يوليو يتضح أن الهم الأول من هموم الحركتين كان باتجاه تصفية السيطرة الإنجليزية على مصر، وتصفية العرش الملكي الذي هو الآخر امتدادا لسيطرة أجنبية. يلى ذلك هم تحرير الاقتصاد المصري، وإعادة توزيع الملكية الزراعية، ومساندة حركات التحرير الوطني الأخرى في فلسطين، والجزائر، والمغرب العربى بشكل عام . وكما قرر المؤرخ أحمد محمد شاموق فإن معظم المعارك التي خاضها جمال عبد الناصر كان حسن البنا يخطط لخوضها منذ أواخر الثلاثينيات، بل كان ينسق لخوض تلك المعارك مع الضباط الأحرار ، ومنهم أنور السادات الذي بدأ اتصالاته به باكرا منذ 1940م. ولم تقتصر تلك العلاقة على هذين الطرفين فقط وإنما كانت علاقة ثلاثية ضمت – إلى جانب البنا والسادات – ذلك الوطني القديم عزيز المصري الذي عرف بمجاهداته المتعددة في حراسة القيم وتأجيج الروح الوطنية. ومن بين ثلة الضباط الأحرار كان لكل من صلاح سالم، وعبد الحكيم عامر، ومحمود رياض، وعبدالفتاح غنيم، وكمال الدين رفعت، وصلاح هدايت، وحسن التهامى، بل وجمال عبد الناصر نفسه الذي كانت له اتصالات قوية بالإخوان أثناء حرب فلسطين 47-1949م، وأثناء حرب القنال 51-1954م، حيث قاموا بنقل الذخيرة إليهم أثناء خوضهم للعمليات الفدائية ضد الإنجليز. كما نسقوا معهم في بعض العمليات ضد عن طريق ضابط البوليس الإخواني صلاح شادي حيث كانوا يطمحون إلى القيام بعمل مشترك يؤدى إلى إغلاق القنال. الجذور الشعبية: أما على صعيد الأفكار والبرامج السياسية فقد كانت حركة الإخوان في تصوراتها الأولى حركة شديدة الالتصاق بالفقراء وكان حسن البنا نفسه أحد فقراء الصوفية المجاهدين المحتسبين؛ لذا كان دائم التجوال بين الفلاحين في قراهم وكفورهم، ويقول أحد حوارييه في تلك الفترة وهو الشيخ محمد الغزالي أن البنا تمكن من زيارة عشرة آلاف قرية بمعدل زيارتين لكل قرية. وغنى عن القول أن حركة الإخوان المسلمين نفسها تأسست عضويتها الأولى من عمال شركة قناة السويس بالإسماعيلية , وقد ظل ذلك الأثر العمالي والفلاحى قويا في الحركة إلى أن التحقت بالجامعة واستوطنتها، وأصبح جل المنتمين إليها من بعد من أفراد الطبقة المتوسطة. في تلك الفترة أفرز حسن البنا أدبيات سياسية شديدة الاهتمام بالتغيير الجذري للأوضاع الاقتصادية. وظلت تلك الاهتمامات تتصاعد إلى أن وصلت إلى درجة الثورة العارمة وذلك في (المؤتمر السادس) التي طالب فيها بتأميم الشركات الأجنبية وإعادة توزيع الملكية الزراعية وإنهاء الإقطاع، ويبدو أن تلك الرسالة قد سببت بعض المتاعب للحركة فآثرت طيها، ولم تنشر من بعد إذاعتها الأولى إلا حديثا جدا. ميرابو الثورة المصرية: أما سيد قطب الذي لم يكن منتميا للإخوان حينها فقد كانوا يعتبرونه من مفكريهم مثلما كان الضباط الأحرار يعتبرونه من ملهميهم، وكان ينشر أفكاره السياسية في مجلة (الرسالة) ثم ضمنها كتابيه عن (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و (معركة الإسلام والرأسمالية) وقد حمل الكتاب الأول نظرية واضحة في التحول الاجتماعي والاقتصادي المنشود. والغريب أن سيد قطب كان حينها مقبولا من كل الأطراف حتى أن الأستاذ خالد محيى الدين زعيم حزب التجمع السابق وأحد الضباط الأحرار آنذاك وصف أفكار سيد قطب بأنها كانت أوضح وأنقى الأفكار في مرحلة ما قبل الثورة . ومن الطريف أن الكاتب الإسرائيلي أوليفر كارى يقول في كتاب له نشر حديثا بالولايات المتحدةالأمريكية أن أفكار سيد قطب في الإصلاح الزراعي كانت أكثر راديكالية من الجناح اليساري في حزب الوفد، ومن آراء الضباط الأحرار أنفسهم، بل ربما استقى منه أولئك الضباط بعض الأفكار. وهكذا لم تكن البرامج السياسية والاقتصادية للإخوان وثوار يوليو في حالة تناقض أو تضارب حين حدث الصراع بين الطرفين، وإنما جاء ذلك التناقض والتضارب في فترة متأخرة، وبعد أن وقع الصراع بالفعل، أو ربما بسبب من ذلك الصراع. هذا هو ما نريد أن نستخلصه بمثابة درس من دروس التاريخ السياسي العربي الحديث. محاولة للجواب: ودعنا نلتمس إجابة هذا السؤال عن أسباب الخلاف بين الإخوان وثورة يوليو في متغير (الثقافة السياسية). إذ أن كثير من الأمم تسمح ثقافتها وتقاليدها السياسية بانبثاق مواثيق وعقود (غير مكتوبة)، تسير عمليات التفاهم السياسي، وتشكل أرضية مواتية للتعاون والتخاصم في حدود ما يسمونه بقوانين اللعبة السياسية. فالسياسة هي أساسا فن المساومة، وإنجاز الممكن، وليست بحال فن للتعلق والهيام بالمطلق، والإصرار على إنجاز المستحيل. والحالة الأريحية الأولى هي حالة الثقافة السياسية المدنية التي تسمح بتطوير العمل السياسي الديمقراطي التعاوني. وأما الحالة الثانية فهي عنوان سياسة الاستحواذ والإقصاء والتوجس من كل الأطراف. وهى حالة تسمح لا تسمح بأي عمل سياسي ديمقراطي مستقر. ويبدو أن هذا هو ما كان عليه الحال عشية اندلاع الصراع. كلتا الحركتان الوطنيتان (الإخوان وثورة يوليو) كانتا تتمتعان بشعبية ضاربة؛ فقد كان عدد الإخوان الملتزمين يزيد على النصف مليون، وكان سائر الشارع الشعب مع برامج ثورة يوليو. وهنا ربما تسلل الحذر إلى نفوس الإخوان من أن تتنامى شعبية الضباط الأحرار بحيث تغطى على شعبيتهم ومجاهداتهم في فلسطين والقنال. تلك المجاهدات التي جعلت من الإخوان - قبيل الثورة – بمثابة القوة الكبرى في النضال الوطني وجعلت مجاهدات قوى المعارضة الأخرى تبدو وكأنها مجرد أعمال هامشية بجانب مجاهداتهم. وفى الجانب الآخر كان جمال عبد الناصر نفسه بحسه السياسي الفائق شديد التوجس من قوة الإخوان وإمكاناتهم السياسية والعسكرية وقدراتهم في الاتصال الوثيق بالشعب عن طريق المساجد والمنتديات والجامعات. تلك القدرات التي يمكن أن تصبح خصما على شعبيته وقدراته في المستقبل. كان عبد الناصر شديد الإيمان بأن مصادر قوته تكمن في قدراته على تثوير الجماهير واستقطابها لخطه السياسي وشخصيته البطولية (الكارزمية)، ولم يكن يغفل عن ذلك طرفة عين واحدة، بل لم يكن يقبل أن يشاركه فى تلك القدرة أحد! سلاح المايكروفون: ويحكى محمد حسنين هيكل أن إيمان عبد الناصر بمكمن تلك القوة دفعه ذات مرة - أثناء حرب اليمن - إلى توزيع مائة ألف جهاز راديو لأفراد القبائل اليمنية ليضمن استماعهم إلى إذاعة (صوت العرب")؛ وانحيازهم من ثم إلى اتجاهه في النضال. ويبدو أن إيمان عبد الناصر المطلق بقيمة جهاز الراديو في دعم نظامه وضمان حشد الجماهير وراءه كان له ما يبرره؛ فقد انزعجت الإدارة الأمريكية عندما اندلع الصراع بينها وبين عبد الناصر من تلك القدرات الاستقطابية لإذاعة (صوت العرب) وخشيت من أن تنجز تلك الإذاعة مهمة خطرة تتمثل في رص الشعوب العربية برمتها وراء عبد الناصر. ويحكى هيكل أيضا أن وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جون فوستر دالاس قام مرة بتوسيط الأمين العام للأمم المتحدة حينها داج همرشولد ليطلب من عبد الناصر تقديم بعض التنازلات وعلى رأسها إيقاف إذاعة (صوت العرب)، وأدرك عبد الناصر سر اللعبة ورد على المبعوث قائلا: " إن فوستر يريد بذلك أن يجردني من أقوى أسلحتي في الصراع .. سلاح المايكروفون " ! بالفعل كان عبد الناصر كان يؤمن بالاتصال المباشر بالشعب بذلك النحو، وكانت حركة يوليو بقيادته تؤمن حقا بقيام حكومة من أجل الشعب، ولكن بشرط ألا يديرها الشعب، لا مباشرة، ولاعن طريق الانتخابات الديمقراطية والمنافسة الحرة المفتوحة. فالنخبة الثورية وحدها هي المؤهلة لأداء تلك المهمة لإسعاد الشعب، وعلى الشعب أن يلتف حولها ويساندها! هذا المفهوم أدى بالطبع إلى إقصاء مختلف الأحزاب وإسكات مختلف الأصوات، لاسيما الأحزاب ذات الأصوات الكبيرة مثل حزب الوفد والإخوان المسلمين، وكان طبيعيا أن يسعى عبد الناصر إلى إسكات صوت الإخوان خاصة عندما ارتفع يعارض بعض سياساته. إحساس عبد الناصر بضخامة الجسم الجماهيري للإخوان وتفوق الكثير من قادتهم عليه من حيث القدرات الخطابية والاتصالية غدا يشكل هاجسا مقلقا بالنسبة إليه، ولم يفكر في مشروع حل لذلك الإعضال المقلق إلا بإغلاق ذلك الجهاز الجماهيري الضخم والإطباق عليه بين جدران السجون، وهذا ما كان حيث انتهز عبد الناصر فرصة اندلاع النزاع بين الطرفين حول تفاصيل خطة الجلاء في أكتوبر 1954م ليقوم بإيداع نحو من 55 ألف منهم بالسجن. أحس بعد ذلك بالراحة وظل مزهوا بذلك الإنجاز حيث تفاخر مرة بأن أجهزته اعتقلت 18ألف (إخوانى ) في ليلة واحدة . عقابيل الصراع: وقد أدى اعتقال الأخوان الطويل ( 1954-1972) إلى أضرار ضخمة لحقت بحركة الفكر والحركة السياسية المصرية والعربية، مثلما أدى إلى أضرار بحركة الإخوان نفسها . انطلقت حركة يوليو على إثر ذلك يسارا واستصحبت كل كراهية وأحقاد وعقد اليسار العربي نحو الدين، وغدت تتوجس ليس من الإخوان بمثابتهم جهازا حركيا فحسب، , وإنما من المؤسسات الإسلامية ومن أي صلة للدين بالفكر السياسي على الإطلاق. أكثر من ذلك فإنها اتجهت إلى تقليص دور الدين في مجالات الحياة الاجتماعية وحتى دوره في مجالات الحياة الدينية (الرسمية)، وإلا فلماذا اتجهت إلى الأوقاف تلك المؤسسة الحضارية العريقة لتقصقص أجنحتها، ولماذا ألغت المحاكم الشرعية، وأحكمت قبضتها على الأزهر وألغت استقلاليته. وأصدرت قانونا جديدا لتنظيمه حسنته اليتيمة أنه سمح بتعليم البنات بالأزهر؟! ولم تنج الطرق الصوفية من سطوة الحكومة حيث عملت على تخفيض نشاطها الجماهيري الحيوي، ورتبت لها مجلسا أعلى لإدارتها بتوجيه وإشراف حكومي بيروقراطي (استخبارى). وبالعموم فقد أفلحت حركة يوليو - إلى حين – في كبت النشاط الديني وشل فعاليته، وأمنت من ارتفاع أي صوت جرئ يتصدى لها احتجاجا على ذلك بعد أن زجت بالإخوان في السجن . ومن ناحية ثانية فقد أدت فترة سجن الأخوان الطويلة إلى إلحاق أضرار فادحة بتلك الحركة، وتحتاج آثار تلك الفترة إلى تحليل خاص غير تلك الأدبيات التي أنتجوها هم عن تفاصيل فترة إقامتهم في السجن؛ فقد كان للسجن كما كان لذلك الصراع آثاره العميقة على حركتهم إذ تمت عزلتهم عن الأحداث كما طرأت على حركتهم عزلة فكرية وأخرى (شعورية) بتعبير سيد قطب. وأصيب العقل السياسي للحركة بشبه شلل، وتحولت الحركة بفعل فكر سيد قطب من حركة ذات مبادئ وأجندة سياسية واقتصادية واضحة، إلى حركة عقائدية ذات أفكار متصلبة حول مفاهيم (الحاكمية) و(الجاهلية) و(الولاء) و(البراء) ،وهى الأفكار التي استعارها سيد قطب من الإمام المودودى. وهكذا قام سيد قطب بنسخ أفكاره السياسية والاجتماعية الأولى، ونسخ "التصورات الأولى" للإخوان التي وضعها حسن البنا، وأخذ يكتب (معالم فى الطريق) الحركي الجديد ،وبأسلوب مخيف جدا حسب وصف الصادق المهدي الذي أفزعه كثيرا الأسلوب الثوري الذي سطر به سيد قطب كتابه سالف الذكر. لقد خسرت مصر كثيرا كما خسر العالم العربي والإسلامي من صراع ثوار يوليو والإخوان المسلمين، حيث أدت انتهازية السياسة، وتخلف الثقافة، إلى تجاهل نقاط الالتقاء الكبرى بين الطرفين. لقد كان بإمكان حركة يوليو – بوصفها حركة وطنية - أن تستفيد من كثيرا من عطاء الإسلام الفكري والثوري، عوضا عن اتجاهها لقمع دعاته، والهيمنة على مؤسساته، (الرسمية) و(الشعبية)، وتسخيرها للهتاف السطحي للاشتراكية والقومية العربية الجاهلية. لقد خسرت مصر كما خسر العالم العربي والإسلامي كثيرا جدا، وزاغت فرصة من فرص التاريخ النادرة، هي تلك الفرصة التي حملت وعدا سخيا بتزاوج القيم الوطنية والإسلامية، وإفراز فكر سياسي جديد، وتوطيد مناخ ثقافي صحي، يكفل نجاح مساعي بذر القيم الديمقراطية، ونشر برامج تحديث نهضوية، كانت قمينة بتوجيه العالم الإسلامي وجهة أخرى تقيه عقابيل الهزائم والهزات التي تخضه حاليا من أقصاه إلى أقصاه.