شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    افتتاح المعرض الصيني بالروصيرص    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاروق أبوعيسى: سودان جديد وسياسيون قدامى ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 29 - 07 - 2009


[email protected]
(1)
كنت طفلا صغيرا ألعب " البِلّي" حين اندلعت ثورة الحادى والعشرين من اكتوبر عام 1964 فلم ادرك الانتفاضة الشعبية الباسلة وتداعياتها. ولكننى بطبيعة الحال استدركت واستحفظت الكثير عنها مع توالى السنوات. وكنت طفلا كبيرا اقرأ مجلة ميكى حين (اندلع) الانقلاب العسكرى فى الخامس والعشرين من مايو عام ولكن الوعى السياسى لدى كما هو لدى كل من كانت نشأته فى مصهر الحديد والنار والثقافة السياسية، الذى يسمى عطبرة، إشتعل باكرا فلم يُخطئنى اسم الاستاذ فاروق ابوعيسى، ولم يغب عنى نفوذه المتسلط وسلطته المتنفذة بين قادة الانقلاب ومدبريه. ولكن سطوة فاروق وسلطته سرعان ما انحسرتا واندثرتا وطمرهما النسيان بعد تخليه قسراً عن مناصبه الوزارية عُقيب الانقلاب الشيوعى المندحر عام 1971. أقول مناصبه الوزارية، لأن الرجل كان على عهد طبعة مايو الاولى يتولى المناصب ازدواجا لا انفرادا، بالجملة لا (القطاعى)، فكنت تسمع فى المذياع: (صرح السيد فاروق ابوعيسى وزير شئون الرئاسة ووزير الخارجية). بل أنه فى احدى المرات تولى وزارتين بالأصالة ووزارة ثالثة بالانابة، فكنت تسمع: ( صرح السيد فاروق ابوعيسى وزير الخارجية والعمل ووزير العدل بالانابة). كانت لفاروق فى عهده ذاك أيامٌ زاهيات باهيات خُضر. أيامٌ لها ايقاع!
غير أننى اكاد اجزم أن الرجل لو سئل اليوم عن الصفحة الاكثر التماعاً واشراقا التى يود لو أنها تصدرت كتابه، عندما تكتب الكتب، لذكر " يوم المتاريس "، ولما ذكر غيره. وأكاد اجزم أيضا – بغير كثير حذر- أن الرجل لو سئل عن الصفحة الاكثر قتامةً وحُلكة فى تاريخه السياسى كله لذكر " يوم المتاعيس "، يوم مبادرته فى بدايات هذا الشهر بدعوة جموع الشعب للخروج الى الشوارع لمواجهة نظام الانقاذ الذى أعلن فاروق من طرف واحد، انقضاء أجله وانتهاء صلاحياته الدستورية وزوال شرعيته. وهى الدعوة التى وقعت على آذان صماء كما هو فى علم الكافة.
فأما يوم المتاريس فهو اليوم من أيام اكتوبر 1964 الذى حدثنا عنه الرواة. فى ذلك اليوم هبّ فاروق ابوعيسى وهتف فى الناس عبر اذاعة ام درمان ان يخرجوا الى الشوارع لحماية ثورة الشعب، بعد ان تناهت هنا وهناك أنباء متضاربة عن استعداد كتائب من الجيش للتحرك بغرض تمكين الطغمة النوفمبرية من العودة الى سدة الحكم. وقد استجابت لنداء فاروق على الفور الجموع الحاشدة من أبناء الشعب، وغمر مئات الآلاف من البشر- بين غمضة عين وانتباهتها - شوارع العاصمة تسد مداخل الجسور وتحتل القواطع الرئيسية، حتى تجهض التحرك الانقلابى المظنون فى مهده، وتحمى الثورة الشعبية الوليدة بالدماء والمُهج. ولا بد أن أمجاد يوم المتاريس وطبول نصره التاريخى ورنين أبواقه العازفة كانت تملأ على فاروق أقطار نفسه حين أطلق دعوته المفاجئة قُبيل اسابيع قليلة الى جماهير الشعب للخروج الى الشوارع لمدافعة نظام الانقاذ وإجباره على التنحى عن السلطة وافساح الطريق امام حكومة قومية.
(2)
لم يكن غريبا أن يُقابَل نداء فاروق ابوعيسى للجماهير المنضوية تحت ألوية المعارضة بالخروج والتمرد على النظام بالاستهجان والغضب من لدن العصبة المنقذة، ولها فى ذلك عذرها. صحيح أن دعوة فاروق لم تلق صدىً ولم تصادف هوىً ، فأرتدت الى مسقط رأسها منكسرةً تجرجر اذيال الخيبة دون ان تحرك ساكناً، إذ لم يستجب لها إنس ولا جان. ولم يكن لها من حصاد سوى ان كشفت عن عورات كيانات المعارضة وأبانت على الملأ هوانها وقلة حيلتها. ولكن ذلك كله لا ينفى ان التاريخ فى بعض الاحيان يعيد نفسه ولو بصور عبثية مفارقةٍ للتوقعات. وهناك على مدار الزمان المعاصر شواهد على حالات عديدة استجابت فيها الجماهير استجابات مفاجئة لمثل هكذا نداءات تحرض على الثورة تمرّدا على الانظمة والاحوال القائمة. لا سيما أن كان الواقفون خلف مثل هذه النداءات شخصيات ذات كاريزما وطنية مرصودة تاريخيا ومُختبرة جماهيريا. وبطبيعة الحال فإن آخر ما يتمنى حرس العصبة المنقذة، القدامى والجدد، أن يروه فى يومهم هذا هو انهمار سواد الناس الى الشوارع تحديا لسلطة الانقاذ وتشكيكا فى شرعيتها وتبشيراً بزوال عهدها الذى طال واستطال. غضبة العصبة المنقذة، والحيثيات كذلك، نفهمها حق الفهم. ولكن الذى لم نفهمه هو النهج والاسلوب الذى اختارته بعض الجهات النافذة للتعبير عن هذه الغضبة ومباشرتها على المنابر الاعلامية التى تخيرتها ساحةً للنزال.
لم تتجه الحكومة فى تعاملها المضاد مع الحدث الى جوهر الخطوة التى خطاها فاروق بتوجيهه النداء لفصائل الشعب بالخروح الى الشوارع، ولو فعلت لما لامها أحد، فهى حكومة الامر الواقع ولا بد لمثلها من التصدى لمخطط يستهدف أصل وجودها. لم يولد بعد النظام الذى تخترق أسماعه صيحات الخروج عليه، ويرى تحت الرماد وميض النار، فيجلس أهله بلا حراك وكأنهم أعجاز نخل خاوية. ولكن العصبة المنقذة عوضا عن توجيه ردة فعلها الى مضمون النداء ومعالجته سياسيا، من حيث هو عمل سياسى محض فى مبتدئه ومنتهاه، فإنها صوبت سهامها الى شخصية فاروق نفسها وأرادت ان تتعامل مع شخصه تعاملا أمنياً بحتاً. ومن هنا كانت الحيرة، أو قل: خيبة الأمل. جاء فى التصريح الذى نسبته وكالة شبه رسمية الى مصدر أمنى رفيع أن الحكومة ( تغاضت كثيرا عن عمالة فاروق ابوعيسى ومعارضته بالفنادق من الخارج). وتعبير "معارضة الفنادق" تعبير مايوى صرف، صكه واحد من كتبة السلطان فى الزمان الغابر وأدمنه الرئيس الراحل جعفر نميرى وجلاوزة اعلامه إدمانا جاوز الحد. وربما كان فاروق نفسه قد وظّف ذات التعبير، أيام سطوته وجبروته على عهد مايو الاول، فى وصم المرحوم الشريف حسين الهندى و معايرة جماعته ممن فروا مباشرةً عقب انقلاب مايو ولجأوا الى فنادق لندن وجدة. ومن عجيب تصاريف السياسة السودانية وأقدارها أن يدور الزمان دورته فيقع فاروق نفسه ضحية لذات الصفة إذ يطلقها عليه حلفاء الشريف الهندى فى الزمن الذاهب، بعد أن استلت بعض كوادر الانقاذ السياسية والاعلامية والامنية ذات التعبير وأحيته من رماد النار – كما طائر الفينيق- واستصحبته معها فى رحلة التشهير بالخصوم والمعارضين.
ومن الحق الذى لا يقبل المماراة ان المصدر الذى اطلق على فاروق هذه الصفة تجاوز الحق تجاوزاً بيّنا على الاقل من الوجهة التقنية البحتة. اذ لم يعرف عن فاروق طيلة سنوات اقامته بالقاهرة، حيث مارس المعارضة النشطة ضد نظام الانقاذ، أنه اقام فى فندق او انه عارض النظام من داخل فنادق، فكما هو فى علم الكافة فقد تولى الرجل منصب الامين العام لاتحاد المحامين العرب لدورات ثلاث إمتدت لاثنى عشر عاما أقام خلالها بمنزل خصصه له الاتحاد بضاحية جاردن سيتى، ثم انتقل بعد انتهاء ولاياته الثلاث الى داره العامرة بمدينة المهندسين بالقاهرة. ومما هو معلوم أيضا فإن جميع انشطة المعارضة فى مصر كانت تدار من أماكن محددة تراوحت بين فيلا طيبة، حيث مقام السيد محمد عثمان الميرغنى، ودار الحزب الاتحادى الديمقراطى بمصر الجديدة، ومكتب التجمع الوطنى بوسط القاهرة، فضلا عن دار اتحاد المحامين العرب نفسه. وأظن انه قد آن الاوان لكى تقلع كودار الانقاذ عن منابزة الخصوم السياسيين بتوظيف كليشيهات المعايرة المستوردة من الانظمة السابقة، و التعابير التشهيرية المتزيّدة والمجحفة كتعبير "معارضة الفنادق" وغيرها، التى لا تصف واقعاً ولا تنجز غرضاً سوى التجديف السياسى والترادح بين الاطراف اتهاما وانكارا. وتزداد الحاجة الى الاقلاع عن هذا النهج عندما يكون هؤلاء الخصوم ممن قبلوا من النظام مواثقاً وعهودا، وانخرطوا فى مؤسساته بأمل تجنيب البلاد أحزان الشقاق والاحتراب والارتهان للأجنبى، وتأمين التداول السلمى للسلطة من خلال آليات الاحتكام الى الشعب.
غير أن أكثر ما يثير العجب فى أمر التصريح المنسوب للمصدر الحكومى هو العبارة التالية: ( مثلما أوجدت الحكومة مقعدا للرجل [فاروق ابوعيسى] فى المجلس الوطنى فهى قادرة على التعامل معه بما يناسبه). وهى عبارةٌ أعيت الفقهاء واحتار فى مدلولها العلماء. مصدر الحيرة أن مثل هذه الاقاويل تصدر منسوبة الى جهات حكومية نافذة، فى وقت يواجه فيه هذا النظام أكبر التحديات فى تاريخه السياسى، وهو تحدى بناء وتدعيم جسور الثقة بينه وبين كافة القوى السياسية والمدنية وفصائلها الشعبية، بما يعينه على توسيع قواعد الممارسة الديمقراطية، توسعةً تنتقل بالحريات العامة والحقوق الاساسية من الهوامش الى المتن، وتأهيل نفسه لقيادة عملية التحول الديمقراطى المنشود الذى تتطلع اليه الأمة بصبر ويقين. وأكثر ما أضر بمصداقية الانقاذ – فى أعين معارضيها - هو تاريخها الأغبر فى التنصل من العهود وإعلاء منطق البيع والشراء وتغليب العقلية الأمنية واتخاذ مناهج العصا والجزرة سبيلا لتسوية القضايا السياسية. ولا اعرف كيف يمكن ان يؤمّن النظام لنفسه فلاحاً فى مشوار بناء الثقة وأن يجبر الآخرين على أخذ عهوده والتزاماته مأخذ الجد، فى وقت يبدى فيه بعض الناطقين باسمه كل هذا الاستخفاف بمؤسسسات النظام الرسمية التى زعمت الحكومة لها – فى مواجهة المعارضين - دورا مفصليا فى قيادة مسيرة التحول الديمقراطى فصدقوها، ودعتهم للانصهار فى بوتقتها فصاهروها. فكأن اصحاب هذه التصريحات من كهنة معبد الانقاذ يمدون ألسنتهم لمن ركنوا الى عهودها وانخرطوا فى مؤسساتها، ويعالنونهم على الملأ بأن هذه المؤسسات إنما هى فى حقيقتها جمال من طين القصد منها التلهية والتسلية وأن مقاعد هذه المؤسسات لا تعدو ان تكون عطايا قابلة للمنح والمنع كغيرها من طيبات خزانة السلطان. والا فما هو تفسير ما جاء فى التصريح عن فاروق - بلهجة الامتنان - من ان النظام ( قد أوجد له مقعدا فى المجلس الوطنى)، ثم ما تبعه – بلهجة السنان والطعان – من ان النظام ( قادر على التعامل معه بما يناسبه)؟! تلك لغة تصلح بين المنتفعين المسترزقين لا بين المتعاهدين المتواثقين.
(3)
يبقى سؤال ينتصب أمامنا ننتظر أن يجيبنا عليه فاروق أبوعيسى. ما الذى هداك يا استاذنا أساسا الى توجيه النداء لجماهير الشعب لكى تخرج الى الشوارع لمناهضة نظام غير دستورى؟ العمل السياسى المكتمل والناضج له مقوماته وشروطه. وعندما يكون العمل السياسى من الهول والجسامة بحيث يصل الى مستوى الخطوة التى ارادها فاروق تتعزز وتترسخ الحاجة الى تأمين وتوكيد هذه المقومات والشروط أضعافا مضاعفة. فهل حقا ظن قيادى سياسى محنك فى قامة فاروق ابوعيسى أن المشادات والمجاذبات والفذلكات القانونية حول تفسير بعض مواد دستور 2005 واتفاقية نيفاشا تشكل أرضية سياسية اكتملت مقوماتها وشروطها لقيام انتفاضة جماهيرية تخرج بموجبها جموع الشعب الى الشوارع لمناهضة النظام؟! الذى يعلمه الكل أن دستور 2005 دستور انتقالى لم تضعه هيئة منتخبة، وانما هو نتاج لتوافق بين تنظيمين سياسيين حمل الاول السلاح وانطلق به من الهامش لمواجهة المركز، وانقلب الثانى على السلطة المركزية من داخلها، وجالد حملة السلاح القادمين من الهامش جلاداً أفضى الى تصالح – رعته قوى أجنبية - على اتفاقٍ ودستور. وهما اتفاقية السلام الشامل والدستور الانتقالى الذين يكملان بعضهما بعضا. وكلاهما، الدستور والاتفاقية، ينضحان فى أصليهما بالنقاط الخلافية وأوجه التحفظ والاعتراض من قبل جهات سياسية متعددة يقف بعضها على يمين الحكومة القائمة، وبعضها الآخر على يسارها. وقد قبلت الكثير من القوى السياسية هذه الاشكال القانونية على علاتها، وارتضتها –على مضض- إطارا دستوريا حاكماً، رغبةً منها فى تكريس خيار السلام وتأمين الانتقال السلمى للسلطة.
من وجوه التخليط الظاهرة فى هذا الاطار الدستورى ان المادة 55 التى يستند اليها فاروق وشيعته، والتى دعا بموجبها الجماهير للخروج الى الشوارع، تعطلها وتبطل مفعولها مواد اخرى من اتفاقية السلام الشامل، التى منحها دستور 2005 الانتقالى نفسه، بموجب المادة 252 منه، قوة النصوص الدستورية الواجبة النفاذ. ومن بينها النص 2/2 من الجزء (ب) الخاص بتفصيلات انتقال السلطة الذى يلزم الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير السودان بتنفيذ اتفاقية السلام الشامل خلال فترة انتقالية تمتد الى ست سنوات. حيث تنص المادة 226/9 بأن يحكم الدستور الفترة الانتقالية ويظل ساريا الى تاريخ اعتماد دستور دائم. والفترة الانتقالية التى يشير اليها هذا النص هى التى بدأت فى التاسع من يوليو عام 2005 وتستمر حتى التاسع من يوليو من العام 2011. وبناء على نص المادة 225 التى تمنح نصوص اتفاقية السلام الشامل قوة النصوص الدستورية فإن التفسير الذى انتهى اليه فاروق وزمرته بانقضاء شرعية السلطة القائمه لا يعدو – فى افضل الاحوال – ان يكون رأيا قانونيا قابلا للأخذ والرد والمدارسة فى اطار الفقه الدستورى، لا أكثر ولا أقل. أما أن يتخذ منه سببا لاستنفار الامة للخروج الى الشوارع ومناهضة الحكومة فأمرٌ لا ينم عن حصافة أو رشد سياسى يتوخاهما المرء عند أمثال فاروق. الجماهير لم يدعها الداعون للخروج الى الشوارع فى سنوات مظلمة مكفهرة من عمر الانقاذ، ليلها كنهارها، توالت عليها فى اتونها الحصارات الخارجية فمنعت عنها الماء والهواء، واخذت بخناقها الازمات الداخلية، وتنكبتها الفتن والمحن وتحوطتها الويلات والابتلاءات، حتى خيل للمرء ان الانقاذ صارت مثل نبى الله سليمان تنتظر منسأتها دابة الارض فتخرُّ ساقطة. فما الذى يدفع هذه الجماهير للخروج اليوم وهى ترى ضوء الشمس بأُم عينيها فى نهاية النفق، ومَن مِن عامة الشعب يقيم، أصلا، وزنا لمقارعات ومباريات قانونية بيزنطية تشبه فى جوهرها مطارحات العربان الشعرية؟!
ومما يثير الحيرة أن فاروق وبعض شيعته ممّن سعوا لاقامة الحجة على زوال شرعية الحكومة الراهنة تأسيسا على النص الدستورى الذى يلزمها بتنظيم انتخابات عامة فى ظرف اربعة سنوات، كانوا ابتداءً قد توافقوا وتواثقوا مع ذات الحكومة على مبدأ تأجيل الانتخابات حتى فبراير 2010، وهو توافق وتواثق كان بعض فقهاء القانون الدستورى قد افتوا فى حينه بأنه ليس دستوريا. وهنا يستبين التناقض الفاضح فى موقف فاروق وشيعته من حيث مشاركتهم للحكومة فى خرقها للدستور، بالتواطؤ معها على تجاهل مقتضيات النص الذى يلزم الحكومة والمعارضة معا بخوض الانتخابات فى موعد اقصاه التاسع من يوليو من العام الحالى، ثم عودتهم ليملأو الدنيا زعيقا عن فقد الحكومة لشرعيتها لان الانتخابات لم تقم فى موعدها المحدد دستوريا، وذلك مع انهم هم انفسهم كانوا قد وافقوا على هذا التأجيل وباركوه وأجازوه واستحسنته احزابهم وتنظيماتهم ورحبت به!
(4)
غير أن أكثر الأشياء غرابة وإثارة للدهشة فى مولد (خروج جماهير الشعب الى الشوارع)، هو أن النص الدستورى الدى احتكم اليه الاستاذ فاروق ابوعيسى لاعلان انقضاء شرعية الحكومة يطال البرلمان نفسه. اذ انه يقتضى قيام حكومة منتخبة وكذلك برلمان منتخب. فاذا انقضت شرعية الحكومة فان شرعية البرلمان تنقضى تبعا لذلك. واذا كانت الحكومة قد اختارت ان تستمر فى النهوض بمسئوليات الحكم، فان ذلك لا يلزم اعضاء البرلمان فى شئ. كان بوسع فاروق، وشيعته من المعارضين من أعضاء البرلمان، ان يعلنوا من طرف واحد ان المؤسسة التشريعية، المسماة المجلس الوطنى، قد فقدت شرعيتها وانهم قد تخلوا عن مقاعدهم فيها تبعا لذلك، وانهم ما عادوا يعتبرون انفسهم جزءاً منها. ولو فعلوا لكانت لخطوتهم نتاجات دستورية وسياسية ذات تأثير وخطر مقدّر على الاصعده المحلية والاقليمية والدولية. ولكن الذى حملته لنا الاخبار هو أن شيعة فاروق من رجال المعارضة الاماجد ونساؤها الماجدات إثّاقلوا الى بلاط البرلمان وتمترسوا داخل قبته وربطوا أجسادهم الى مقاعد النيابة المفترضة بحبال غلاظ، ولسان حالهم يقول لكبيرهم: اذهب انت و(جماهيرك) فقاتلا، انا ها هنا قاعدون. وان كان من يفترض انهم يمثلون الشعب ويعبرون عن آماله وآلامه قد شقَّ عليهم الخروج من تحت قبة البرلمان ولم يهن عليهم التخلى عن مخصصاته وامتيازاته، فإنه يبدو عصيا على الفهم استيعاب مبادرة الاستاذ فاروق ابوعيسى ومناشدته جموع الشعب للخروج الى الشارع واجبار الحكومة على التنحى!
نقلا عن صحيفة ( الاحداث )
مقالات سابقة:
http://www.sudanile.com/arabic/index.php?option=com_content&view=category&id=61:2008-12-04-08-34-48&Itemid=55&layout=default


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.