منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جِبَالُ النُّوبَا .. الاِنْجِلِيزِيَّة (4)
نشر في سودانيل يوم 04 - 02 - 2009


لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ
(وَسطَ الكَرْكَبَةِ والضَّجِيجِ أهْدَرَتْ ذِهْنِيَّةُ الأَسْلَمَةِ والتَّعْريبِ كُلَّ مَعْنىً لوُحْدَةِ التَّنَوُّعِ وحوارِ الثَّقَافَات)!
كمال الجزولى
(1)
(1/1) فى الحلقات الماضية اعتبرنا تغيير الحركة الشعبيَّة لغة التعليم والتخاطب من العربية إلى الانجليزية فى مناطق إدارتها بجبال النوبا ، بمثابة التأكيد على عجز مزدوج: عجزنا كجماعة مستعربة مسلمة عن ترتيب مساكنتنا للآخرين ، وعجز الآخرين أنفسهم عن وعى مكوِّناتهم الثقافيَّة ، ولهذا اعتبرنا (نيفاشا) محض (عَرْضَة) خارج حَلبَة (الوحدة)! وقلنا إن ما ينبغى أن نسمعه ونعقله جيداً هو أن نومتنا المتطاولة عن استعلاء التيار (السلطوىُّ) فينا على الآخرين بالعِرق والدين واللغة والثقافة ، ينبغى أن يوقظنا منها الآن مشهد الآخرين يثفلون لغتنا ، بعد مئات السنوات من التساكن المعلول ، كما لطعة الدم من الحلقوم! وتساءلنا عمَّا إن كانت تلك مسئولية تيار الاستعلاء من سلطنة (الكَكَر) إلى سلطة (الجبهة) ، أم تيار الغفلة عن استحقاقات (الوحدة) من (أنيانيا وَنْ) إلى (الحركة الشعبيَّة)!
(1/2) ولأن الاجابة الكاملة مما يستلزم مبحثاً مستفيضاً فى الاقتصاد السياسى للعلاقاتنا الاثنيَّة فى السودان ، فقد حاولنا ، بالنسبة للشق الأول من السؤال ، أن نضئ باقتضاب حقيقة انحدار غالب الجماعة المستعربة المسلمة من العنصر النوبىِّ الذى ينتمى إليه (الجلابة) ممن تركزت فيهم السلطة والثروة ، تاريخياً ، فتَشكَّلَ بينهم تيار الاستعلاء من أقصى الشمال إلى مثلث الوسط. على أن شخصيَّة (الجلابى) التى لا تستبطن الوعى (بهويَّتها) النوبيَّة انطلقت تزعم تشكلها بالاسلام والعروبة كنموذج (قومىٍّ) قامع (للآخر).
(1/3) وعدنا بسيرورة ذلك (التكوين) إلى نظام التجارة البسيط ، وفق نمط التشكيلة ما قبل الرأسمالية فى القرن السادس عشر ، على حساب العبيد والمزارعين والرعاة وصغار الحِرَفيِّين المنتسبين بالأساس إلى التكوينات القوميَّة والقبليَّة فى الجنوب وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق ، كمورد رئيس للرقيق والعاج وسلع أخرى كانت تنتزع بالقوة ، مما أفرز تأثيراته السالبة فى المدى البعيد ، حيث استعصم العنصر الزنجى مع لغاته وثقافاته بالغابة والجبل ، على حين مضى (الجلابى) يتيه بأوهامه حول (شرف) محتده (القرشىِّ) المتصل ببيت النبوَّة نفسه ، صائغاً منه وحده صورة الوطن ، ومُقصياً (وضاعة الآخر) الذى لم يعُد سوى موضوع (للأسلمة) و(التعريب) ، ومُهْدِراً بذلك كلَّ فرصة سنحت لتوحِّد البلاد أجزاءها وتعى ذاتها وتنتمى لنفسها! ومن ثمَّ دعونا لنزع الأقنعة عن كلِّ ما لا يُقال ، وفضح المسكوت عنه فى تاريخنا الاثنى ، باعتبار أن ذلك هو المخرج الوحيد الصائب من مأزقنا الوطنىِّ الراهن. وفى ما يلى نواصل:
(2)
(2/1) لا تنتطح عنزان ، بالطبع ، على كون الاستعمار البريطانى لعب دوراً قصديَّاً مباشراً فى تكريس المشكلة ومفاقمتها. غير أن نقطة اختلافنا هى أنه لم (يخلقها) كما فى اجترارنا لبعض المتداول غير المفكر فيه. لقد استند البريطانيون إلى ذاكرة الرق التاريخيَّة ، وإلى الموروث من (أحاجى) نهب الموارد كما مارسه (الجلابة) منذ القرن السادس عشر ، مما سلفت الاشارة إليه ، ليكرِّسوا ، بما يخدم استراتيجياتهم الاستعماريَّة ، أوضاعاً إثنيَّة تاريخية وجدوا عليها السودانيين عند دخولهم البلاد. لقد صاغوا وطبقوا (السياسة الجنوبية) منذ مطالع عشرينات القرن المنصرم ، على جملة قوانين وترتيبات هدفت لِلجْم التقارب ، ناهيك عن التثاقف ، بين إثنيات البلاد المختلفة فى الشمال والجنوب وجبال النوبا الشرقية والغربية ، كقانون الجوازات والتراخيص لسنة 1922م وقانون المناطق المقفولة لسنة 1929م وقانون محاكم زعماء القبائل لسنة 1931م ، علاوة على فرض الانجليزية لغة رسمية فى الجنوب ، وتحديد عطلة نهاية الاسبوع فيه بيوم الأحد ، وتحريم ارتداء الأزياء الشمالية على أهله ، وابتعاث الطلاب الجنوبيين لإكمال تعليمهم فى يوغندا ، وما إلى ذلك.
(2/2) غير أنه ، وبعد انقضاء أقل من ثلاثة عقود على تطبيق تلك السياسة ، اتخذت الإدارة البريطانية قراراً بتغييرها عام 1946م ، وعقدت مؤتمر جوبا فى يونيو عام 1947م لإقرار السياسة البديلة التى تبقى الجنوب ضمن حدود السودان الموحد بنظام الحكم الذاتى ، ثم شكلت الجمعية التشريعية بمشاركة الجنوبيين فى ديسمبر عام 1948م. ويفترض د. أسامة عبد الرحمن النور ، فى محاولة لإعطاء تفسير علمى لمتغيِّرات السياسة البريطانيَّة فى السودان ، أنها لا بد قد جرت فى ملابسات الأثر الذى أحدثه تطوُّر علم الانثروبولوجيا بالانقلاب على أسس الاثنوغرافيا ، أو ما صار يعرف فى بريطانيا بالأنثروبولوجيا الكلاسيكية. وكانت الأنثروبولوجيا الاجتماعية البريطانية قد حققت طفرة كبيرة فى الفترة 1860م 1880م بظهور مؤلفات المدرسة التطورية الرائدة مثل (حق الأم) لباخوفن ، و(المجتمع البدائى) لتايلور ، و(نظم القرابة والمجتمع القديم) لمورغان علاوة على أعمال آخرين كماين وليبوك. وقد قدَّموا جميعهم ، بوعي أو بدونه ، التنظير الذى احتاجه الاستعمار ، باستثناء مورغان الذى اتخذ موقفاً متميِّزاً من التمدُّن ومن مجمل النظام البورجوازى فى القرن التاسع عشر ، قبل أن تستقل الانثروبولوجيا لاحقاً ، كعلم خاص ، عن احتياجات الاستعمار فى مرحلة الأبحاث الميدانية ، فتنجح ، ولو بدرجة نسبية ، فى تحويل الأيدولوجيا الاستعمارية (موقع "ARKAMANI" على الشبكة العالمية).
(2/3) مهما يكن من شئ ، فقد دخل السودان مرحلة ما بعد اتفاقية الحكم الذاتى فبراير 1953م وهو (موحَّد) ، ودخل مرحلة ما بعد الاستقلال يناير 1956م وهو (موحَّد) ، وما كان ذلك ليكون لولا أن النوَّاب الجنوبيون صوَّتوا فى البرلمان الأول (1955م) مع استقلال السودان (الموحَّد) مقابل (كلمة شرف) ، مجرَّد (كلمة شرف) من القوى السياسية فى الشمال بتلبية أشواقهم للحكم الفيدرالى بعد الاستقلال! بل وكان من الممكن أن يشكل ذلك أيضاً ، فى ما لو كنا أوفينا بوعدنا ، نموذجاً فى التعامل المستقيم مع أشواق (الآخرين) من النوبا وغير النوبا على امتداد السنوات الخمسين الماضية. فهل ترانا نعى الآن (كعب آخيل) فى ما جرى على (درب الآلام) الشائك والطويل هذا ، والذى اضطررنا لقطعه حفاة ، منذ أن حنثنا بقسمنا ذات يوم أغبر ، وإلى أن أتى علينا حين من الدهر لم يعُد فيه (الآخرون) يصدِّقون شيئاً مما نقول إلا بضمانات أجنبيَّة؟!
(3)
(3/1) تصدَّت إنتلجينسيا المستعربين المسلمين (الجلابة) لقيادة الحركة السياسية الشمالية منذ ما قبل مرحلة الاستقلال السياسى. وطوال ذلك التاريخ لم تكف هذه (النخب) ، وبالأساس تيارها (العقلانى) بمختلف مدارسه الفكرية وانتماءاته السياسية ، عن اجتراح مختلف الاطروحات حول قضية (الهُويَّة). لكن ، ولأن صعوبات معرفة (الآخر) التى لا يحفل بها التيار (السلطوى/التفكيكى) أصلاً ، والقائمة ، بالنسبة للتيار (العقلانى/التوحيدى) ، فى حاجز اللغة والثقافة والمعتقد ، غالباً ما تشكل إغواءً بالركون للشائع عن هذا (الآخر) فى الذهنيَّة العامة ، فقد ظلت تلك الاطروحات تصطدم فى كل مرة بتلك الصعوبات ، مما أسلم أغلبها لاستسهال التفسيرات التى تحيل الأمر برمته إلى محض (مؤامرة) استعماريَّة قطعت الطريق أمام (التحاق) الاثنيات الافريقية السودانية ، خصوصاً فى الجنوب ، بحركة الاستعراب والتأسلم التى استكملت نموذجها الأمثل ، من زاوية النظر هذه ، فى الشمال والوسط. وبإزاء مصاعب البناء الوطنى بعد الاستقلال عام 1956م ، ولأن الاستسهال يقود للمزيد منه ، فقد أفرغت معظم هذه الاطروحات ، على تنوُّع منطلقاتها ، وبالأخص وسط القوى التقليدية التى ورثت السلطة من الاستعمار ، فى برامج وسياسات رسميَّة:
أ/ حيث أعلنت (العربية) لغة رسمية ، فشكل ذلك إهداراً لكلُّ ثراء البلاد اللغوى لجهتى التعدُّد والازدواج ، إذ توجد فى السودان ممثلات لكلِّ المجموعات اللغويَّة الأفريقيَّة الكبيرة ، ما عدا لغات الخويسان فى جنوب أفريقيا (S. H. Hurreiz, Linguistic Diversity and Language Planning in the Sudan ضمن: عبد الله على ابراهيم ؛ 2001م). وبحسب إحصاء 1956م فإن اللغات التى يتحث بها أهل السودان منها حوالى الخمسين لغة. ويتحدث 51% من جملة السكان (البالغة آنذاك 10,262,536) اللغة العربية ، ويتحدث 17,7% اللغات النيلية (11% منهم بلغة الدينكا) ، ويتحدث 12,1% بلغات غير العربية فى الشمال والوسط (المصدر).
ب/ وحيث استسهل ، فى الشأن الداخلى ، رسمُ السياسات التى تتمحور نهائياً حول مركز الدين الواحد (الاسلام) واللغة الواحدة والثقافة الواحدة (العربية) ، الأمر الذى أقصى كلَّ أقوام التعدُّد والتنوُّع الثقافى واللغوى ، باعتبار خاصيَّة اللغة كحامل للثقافة ، وأحالها إلى مجرَّد هدف للأسلمة والتعريب. كما استسهلت ، فى الشأن الخارجى ، المراهنة على الاندغام بعين البعد الواحد فى قوام الأمة العربية والاسلامية ، ومؤسساتها كالجامعة العربية والرابطة الاسلامية وما إليهما ، واعتبار ذلك بمثابة (الممكن) التاريخى الوحيد المتاح لحلِّ مشكلة (الوحدة).
(3/2) لم يقع ذلك الاستسهال خبط عشواء بعد الاستقلال ، بل كانت له مقدماته الفكريَّة التى بلورتها ، قبل ذلك ، الاتجاهات والميول الغالبة على الحركة الوطنيَّة عموماً ، ووسط إنتلجينسيا (الجلابة) بالأخص. ففى عام 1941م حدَّد محمد احمد محجوب ، مثلاً ، وقد كان من أبرز مثقفى تلك الحقبة ثم أصبح ، لاحقاً ، أحد أميز قادة الفكر السياسي فى حزب الأمة ، شروط المثل الأعلى للحركة الفكرية "فى هذه البلاد" ، على حدِّ تعبيره ، بأن "تحترم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف ، وأن تكون ذات مظهر عربي فى تعبيرها اللغوي ، وأن تستلهم (التاريخ) القديم والحديث (لأهل) هذه البلاد و(تقاليد شعبها). هكذا يمكننا أن نخلق أدباً (قومياً)، وسوف تتحول هذه الحركة الأدبية فيما بعد الى حركة سياسيَّة تفضى الى الاستقلال السياسى والاجتماعى والثقافى" (أقواس التشديد من عندنا ضمن: أسامة عبد الرحمن النور ؛ مصدر سابق). ومن نافلة القول بالطبع أن المحجوب لم يكن يرى فى كل البلاد سوى (تاريخ) و(ثقافة) و(لغة) المستعربين المسلمين وحدهم! وتكتسى ، بلا شك ، دلالة خاصة فى هذا السياق عودة الإمام الصادق المهدى ، رئيس حزب الأمة ، بعد ما يربو على نصف القرن ، لينتقد ما أسماه (الأحاديَّة الثقافيَّة) لدى القوى السياسيَّة الشعبيَّة التى حكمت السودان بعد الاستقلال مما أدى إلى استقطابات دينيَّة وثقافيَّة حادة (ندوة مركز دراسات المرأة حول "تباين الهويات فى السودان: صراع أم تكامل" ، قاعة الشارقة بالخرطوم 23/3/2004م).
ج/ ورغم أن السودان لم يُشرَك أحياناً فى بعض المنظمات العربية بسبب وضعه الطرفى ، أو لعدم حسم مسألة العروبة فيه (محمد عمر بشير ، 1991م) ، إلا أن العروبة والديانة الاسلاميِّة ترسختا ، مع ذلك ، لا (كخيمة) يؤمَّل أن تسع قضيَّة (الوحدة) بقدر ما تسع قبول (الآخرين) طوعاً من خلال حركة مثاقفة طبيعيَّة بين مُكوِّنات التعدُّد السودانى ، وإنما كأيديولوجية قامِعة لدى نخب (الجلابة) الفكريَّة والسياسيَّة. هكذا تمدَّد تيار التعريب والأسلمة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافياً ، جاعلاًً من الاسلام إطاراً وحيداً لمنظومة القيم فى كل البلاد ، ومن العربية وسيلة وحيدة للصحافة والراديو والتلفزيون ودواوين الحكومة ومناهج التربية والتعليم ، كما جرى "تأطير المجتمع .. على تلك الأسس .. (مما) أعاق .. فرص الأقليات التي لا تتوافق مع النموذج السائد فى مجالات التطوير الذاتى .. و .. تكّون حاجز نفسى/سلطوى .. فى وجه أي مراجعة .. للشأن الداخلي يُظن أنها قد تمس جوهر الانتماء العربى" (يوسف مختار الأمين ؛ موقع "ARKAMANI" على الشبكة العالمية).
(3/3) ولأن الثقافات (الأخرى) غير منسجمة فى السياق ، بل وقد تتسبب فى إرباكه ، فقد جرى إقصاؤها أغلب الأحيان ، أو محاولة إدماجها قسراً assimilation فى (أفضل!) الأحوال ، على طريقة الاستعمار الفرنسى (!) ويكفى أن نشير ، من بين جمهرة النماذج التى لا حصر لها ، إلى نموذجين ساطعين:
أ/ أما الأول ففرقة الفنون الشعبية على أيام مايو ، حيث غالباً ما كانت العروض من الشرق والغرب والجنوب تتماهى مع إيقاعات وحركات الشمال والوسط ترميزاً مزعوماً (لوحدة) مدعاة ، فتتحوَّل الخشبة إلى (مولد) سياحىٍّ (زائط) بالأزياء والألوان وجلود الحيوانات على أجساد الراقصين والراقصات ، وصنوف الخرز والسُّكسُك والسيور على أعناقهم ومعاصمهم وأرجلهم ، قبل أن يجرى ، منذ مطلع التسعينات الماضية ، (تحجيبهم) بمقايسات (الزى الاسلامى) ، أو (تغييبهم) بحظر عروضهم نهائياً ، وكفى الله المؤمنين القتال!
ب/ وأما الثانى فيتمثل فى ما يُعرف (بالأوركسترا القومى!) و(فرقة البالمبو). وكنت أبديت تخوُّفى قبل زهاء ربع القرن (SUDANOW, February 1980) من خطة د. خالد المبارك ، مدير معهد الموسيقى والمسرح أوان ذاك ، لتكوين أوركسترا (قومى!) يلعب العازفون فيه على آلات من مختلف أقاليم البلاد. وقد استندت إلى عِلم وخبرة الماحى اسماعيل ، مدير قسم الموسيقى العربية بإذاعة كولون ، فى التنبيه إلى كون هذه الآلات تنتمى ، فى الأصل ، إلى بيئات ثقافية شتى ، وأنها ، لهذا السبب ، سوف تحتاج لإعادة دوزنتها ، بالضرورة ، أى لانتزاعها عملياً من قلب تربتها الثقافية ، تمهيداً لإرغامها على الأداء (المنسجم!) مع بعضها البعض ، فيكون الناتج ، بدلاً من جماع ثقافات ، مجموعة أصفار كبيرة! ودعوت لتأمل ما ينطوى عليه ذلك من مخاطر فادحة على مستقبل حوار الثقافات وتساكن القوميات ، حين يستحيل إلى محض تنضيد قسرى لرموز وإشارات وأشكال تفتقر ، أول ما تفتقر ، إلى الروح. وقد أحزننى أن أرى تلك الخطة العقيم تبعث مجدداً ، بعد إذ قبرت فى مهدها. فلئن كانت دعاوى (الوحدة فى التنوُّع) و(التنوُّع فى الوحدة) و(حوار المكوِّنات الثقافيَّة) هى سيرورات ، فى جوهرها ، لا محض إجراءات ، فإن الفهوم الاداريَّة الميكانيكيَّة تهدر كلَّ معنى لها ، حين تنتهى بها ، وسط (الكركبة) و(الضجيج) ، إلى مجرَّد مسوخ شائهة تخضِع ثقافات الجنوب والشرق والغرب والجنوب الشرقى الموسيقيَّة لمقتضى دوزنات الشمال والوسط ، فلا يُصار إلى أكثر من إعادة إنتاج الأزمة الناشبة بين (المركز) و(الهامش) ، وإن كان فى سياق آخر!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.