شملت أول زيارة خارجية للرئيس الصيني الجديد شي جينبنق ثلاث دول أفريقية هي تنزانيا وجنوب أفريقيا والكونغو برازاڤيل. وصل الرئيس جينبنق إلى تنزانيا من موسكو بعد زيارة قصيرة لروسيا الاتحادية ، وتأتي الزيارة خلال أقل من أسبوعين بعد انتخاب جينبنق رئيساً للصين مما يؤكد اهتمام الحكومة الصينية البالغ بعلاقاتها الأفريقية. قام الرئيس جينبنق في تنزانيا بافتتاح عدد من المنشآت التي تمت بدعم من جانب الصين والتوقيع على عدد اتفاقيات التعاون بين البلدين في عدة مجالات ، كما قدم محاضرة عن العلاقات الصينية الأفريقية في قاعة نيريري للمؤتمرات التي شيدت بدعم سخي من جانب الحكومة الصينية نفسها. أما في جنوب أفريقيا فقد شارك الرئيس الصيني في مؤتمر القوى الناهضة المعروفة اختصاراً باسم "بريكس" وهي المجموعة التي تضم كلاً من الصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل. ولعل من أبرز قرارات قمة بريكس توقيع اتفاق بإنشاء بنك للتنمية تابع لهذه الدول يهدف لتخليصها وغيرها من الدول النامية من ربقة صندوق النقد والبنك الدوليين. من الواضح أن مجموعة "بريكس" أصبحت تتخذ منحى جديداً يهدف إلى تحقيق بيئة دولية اقتصادية اكثر عدالة من البيئة الحالية التي تسيطر عليها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي. كانت الزيارة مناسبة لإثارة موضوع العلاقات الصينية الأفريقية من مختلف جوانبها الإيجابية والسلبية بالمقارنة مع علاقات دول القارة مع أوربا والولاياتالمتحدةالأمريكية. اختلفت الآراء حول تقييم هذه العلاقات باختلاف منطلقات الكتاب والمعلقين الذين تناولوها بالتحليل ، فموقف الصين الحيادي والذي ينأى بها عن ربط العون الاقتصادي بنوع الحكم في الدول المتلقية أثار آراء متضاربة. فمن قائل بأن عدم تدخل الحكومة الصينية في الشئون الداخلية للدول الأفريقية يعد محمدة بالنظر لمحاولات الدول الغربية التي تسعى لربط المساعدات للدول النامية باتخاذ هذه الدول توجهات معينة في سياساتها الداخلية والخارجية ، ومن قائل بأن تجاهل الصين لممارسات بعض الأنظمة المتسلطة والمتمثلة في الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان يعد دعماً لهذه الأنظمة التي تصادر الحريات وتعمل على قمع الشعوب مشيرين إلى أن النظام في الصين نفسها لا يؤمن بالحريات والديمقراطية. وكانت السيدة هيلاري كلنتون قد أشارت لهذا الأمر بطرف خفي في السنغال خلال زيارتها الأخيرة للقارة الأفريقية في منتصف العام الماضي عندما قالت أن بلادها - على خلاف ما يفعله آخرون - تقف مع الديمقراطية وحقوق الإنسان حتى عندما يكون غض الطرف عن هذه المبادئ السامية هو الخيار الأسهل والأكثر ربحية. وقد وجد تصريح السيدة كلنتون عندئذٍ رد فعل غاضباً من جانب وكالة الأنباء الصينية "شينخوا" التي وصفته بأنه "محاولة رخيصة لدق إسفين في العلاقات الصينية الأفريقية خدمة للمصالح الأمريكية الضيقة". وقد لا يكون من محض الصدف أنه في الوقت الذي يقوم فيه الرئيس الصيني بزيارته لعدد من الدول الأفريقية ، يقوم الرئيس باراك أوباما باستقبال أربعة من الزعماء الأفريقيين بالبيت الأبيض للتشاور حول توطيد أركان الديمقراطية في أركان القارة المختلفة. ولعل مما يثير قلق الولاياتالمتحدة وحليفاتها من الدول الغربية أن الصين تقدم نموذجاً لدول العالم الثاث يؤكد بأنه يمكن تحقيق الرفاه الاقتصادي دون المرور عبر بوابة الديمقراطية الليبرالية ، وهو الأمر الذي سبق أن طرح على نطاق واسع في الاعلام الغربي في العقدين الأخيرين من القرن الماضى عندما حققت النمور الآسيوية وعلى رأسها سنغافورة تحت حكم لي كوان يو المتسلط طفرات اقتصادية ملفتة للنظر. وبينما يرى البعض أن الصين قد استطاعت أن تجعل العديد من السلع المتطورة في متناول يد المواطن الأفريقي العادي بتخفيض تكلفة الانتاج ، فإن آخرين يرون أن كلما فعلته الصين هو أنها أغرقت السوق بالسلع المزيفة ذات المستوى الردئ. ولعل ما يجري تداوله بين الناس في بلادنا بشأن السلع الصينية التي تنتج على حسب متطلبات المستورد وبالقيمة التي يحددها يؤكد ما ذهب إليه منتقدو الواردات الصينية رخيصة الثمن والتي يبدو أنها تخضع لمعايير تختلف من مكان لآخر. كما يشكو الكثيرون من الوجود الصيني الكبير في شكل عمالة في المشاريع التنموية التي تقوم الصين بتنفيذها في عدد من الدول الأفريقية ويقولون أن العمالة الصينية في أفريقيا تفوق المليون عامل ، وتسري معلومات غير مؤكدة أن جانباً من هذه العمالة هم في الأصل من السجناء أصحاب السوابق. ومع هذا الرقم الكبير المتداول في الكثير من الكتابات التي تتناول الموضوع فإن نسبة العمالة الصينية قد يكون مبالغ فيها ، فالاقتصادي دامبيسا موي يقول أن الاحصائيات تشير إلى أنها لا تتجاوز 7% في بلاده زامبيا. من جهة أخرى ، فإن العديد من الصينيين يعملون كباعة متجولين ينافسون المواطنين الأفريقيين في ساحات الأسواق ، ولعل الأحداث التي وقعت بمنطقة باب الزوار بالجزائر العاصمة في أغسطس 2009 والتي تمثلت في اشتباكات عنيفة بين باعة جزائريين ورصفائهم من الصينيين تعكس حالة التوتر التي صبغت العلاقات بين الطرفين. تمكنت الحكومتان الجزائرية والصينية من محاصرة هذه الأزمة في مهدها ، إلا أن الكثير من الجزائريين ظلوا يشكون من طبائع وعادات الصينيين التي لا تتوافق مع الثقافة الاسلامية ومنافستهم للباعة من مواطني البلد. ومن المؤكد أن مقدرة العمالة الصينية الرخيصة للتنافس في أفريقيا ستنحسر مع تقدم مستوى المعيشة في الصين ، ولعله من الحكمة أن تعمل الدول الأفريقية منذ الآن على تدريب العمالة المحلية لجعلها أقدر على المنافسة حتى توفر البديل المناسب للعمالة الصينية. ومن أقسى ما ورد في انتقاد تعامل الصين مع الدول الأفريقية ، ما جاء في مقالٍ لمحافظ البنك المركزي في نيجيريا سنوسي لاميدو في 19 مارس الحالي أشار فيه إلى أن الغرض من تعاون الصين مع الدول الأفريقية يتمثل فقط في أمرين هما حاجتها البالغة للمواد الخام وخاصة النفط والغاز واستغلالها للأسواق الأفريقية التي تنمو بمعدلات عالية لتسويق منتجاتها. وذهب سنوسي للقول بأن هذه هي عين الأهداف التي كانت تسعى من أجلها الدول الأوربية عندما أخضعت أفريقيا والعالم الثالث للاستعمار ، لذلك فإنه يرى في الوجود الصيني نوعاً من الاستعمار الجديد. وخلص سنوسي إلى القول بأن على الدول الأفريقية أن تنظر للصين كمنافس وليس كشريك ، قائلاً أنه ليس من المعقول أن تقوم هذه الدول بتصدير نفطها خاماً للصين مؤكداً أن توفر السلع الصينية زهيدة الثمن قاد لإغلاق الكثير من المصانع في الدول الأفريقية مما أدى إلى وأد الصناعة الأفريقية في مهدها وساهم في تخلف المجتمعات الأفريقية. والواضح أن الصين ترى في هذه الانتقادات التي تنشرها بعض الصحف الأفريقية والأجنبية حملة منسقة تقودها الدول المنافسة في محاولة لإخراجها من السواق الأفريقية خاصة وأنها تجاوزت الولاياتالمتحدة في 2011 لتصبح الشريك التجاري الأول للقارة. وقد أوحت تصريحات وزير الخارجية الصيني مطلع مارس الحالي لذلك عندما قال أن بلاده تتعاون مع الدول الأفريقية بناء على رغبة شعوب هذه الدول ، وأن على الآخرين احترام رغبة الشعوب الأفريقية في إقامة نظام دولي يتسم بالعدالة والمساواة. وفي الخطاب الذي ألقاه خلال زيارته لتنزانيا أكد الرئيس جينبنق التزام بلاده بالاستمرار في دعم الدول الأفريقية ، قائلاً أنهم يدركون تماماً المشاكل التي تعترض طريق التعاون بين الطرفين وأنهم على استعداد لبذل أقصى الجهود لتجاوز هذه المشاكل حتى يقوم التعاون بينهما على مبدأ المصالح المشتركة. الواضح أنه بالرغم من الأصوات التي ترتفع من حين لآخر في بعض الدول الأفريقية منتقدة أسلوب التعامل الصيني فإن الصين لا زالت تمثل البديل الأنسب أمام الدول الأفريقية للتخلص من هيمنة الدول الغربية التي تربط دعمها الاقتصادي وتعاونها مع الدول النامية بالكثير من الشروط. ويرى الكثيرون أن منظمات التمويل الدولية وعلى رأسها البنك الدولي ما هي إلا أداة في يد الدول الغربية ، وأن شروطها ووصفاتها الاقتصادية لم تؤد إلا إلى إفقار الدول النامية في أفريقيا وغيرها وربط اقتصاد هذه الدول باقتصاد الدول المتقدمة في العالم الغربي. ومما لا شك فيه أن الكثير من الدول النامية تنظر الآن بالتفاؤل والأمل للخطوات التي تخطوها مجموعة دول "بريكس" نحو خلق نظام دولي أكثر عدالة وبعيداً عن سيطرة الدول الغربية. بل إن بعض المراقبين يتحدثون عن ميلاد نظام جديد يقوم على أساس الشراكة لتحقيق التنمية وليس الاستدانة التي أثقلت كواهل الكثير من الدول النامية. لا يمكن القطع بأن هذه الجهود ستقود فعلاً لنظام دولي أكثر عدالة فهي لا زالت في بداياتها ، إلا أن مجرد المحاولة للتخلص من هيمنة الدول الغربية يجد الكثير من الدعم والتأييد وسط الدول النامية بصفة عامة والدول الأفريقية التي ظلت تعاني من التهميش على الساحة الدولية بصفة خاصة. Mahjoub Basha [[email protected]]