مسؤول الإطعام لمكتب حجاج السودان بالمشاعر المقدسة: هنالك بعض الأطعمة يطلبها الحجاج نحن نمنعها لأنها عرضة للتسمم    تعاقد الريال مع مبابي يرعب برشلونة    مهندس سابق في ميتا يقاضي الشركة لإقالته بسبب محتوى متعلق بغزة    باتمان الطائر    هجوم مسلح على السفارة الأميركية في عوكر.. لبنان    صاحب الأغنية الأشهر (يا أغلي من دمي، يا حبيبتي يا أمي) حادث ينهي حياة الفنان السوداني حمد البابلي    لرفع معدل الولادات في اليابان.. طوكيو تطبق فكرة "غريبة"    " صديقى " الذى لم أعثر عليه !!    وجدت استقبالاً كبيراً من الجالية السودانية...بعثة صقور الجديان تحط رحالها في أرض الشناقيط    "مركز بحري روسي عسكري" في بورتسودان.. تفاصيل اتفاق وشيك بين موسكو والخرطوم    بلينكن يناقش في اتصال هاتفي مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان تطورات الأوضاع في السودان    صراع المال والأفكار في كرة القدم    وانتهى زمن الوصاية والكنكشة    حب حياتي.. حمو بيكا يحتفل بعيد ميلاد زوجته    شاهد بالصور.. أبناء الجالية السودانية بموريتانيا يستقبلون بعثة المنتخب الوطني في مطار نواكشوط بمقولة الشهيد محمد صديق الشهيرة (من ياتو ناحية؟)    شاهد بالصورة والفيديو.. عروس "مصرية" ترقص وتحتفل بزفافها على أنغام الأغنية السودانية (الليلة بالليل نمشي شارع النيل)    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة "خواجية" تشارك عروس سودانية الرقص في ليلة زفافها وساخرون: (نحنا العلمنا الخواجات الزنق)    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    "إكس" تسمح رسمياً بالمحتوى الإباحي    شاهد بالصور: أول ظهور لرونالدو بعد خسارة نهائي كأس الملك يستجم مع عائلته في البحر الأحمر    حادث مروري بين بص سفري وشاحنة وقود بالقرب من سواكن    نيمار يحسم مستقبله مع الهلال    السودان..نائب القائد العام يغادر إلى مالي والنيجر    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    أخيرا.. مبابي في ريال مدريد رسميا    نائب البرهان يتوجه إلى روسيا    وفد جنوب السودان بقيادة توت قلواك يزور مواني بشاير1و2للبترول    صدمة.. فاوتشي اعترف "إجراءات كورونا اختراع"    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحسناوات .. والصبية الأشقياء .. بقلم: ناجي شريف بابكر
نشر في سودانيل يوم 28 - 04 - 2013


شئٌ من التاريخ وعبقُ الذكريات
صغاراً كنا في عمر الزهور نُقضّي ساعات النهار في المدارس طلابا للعلم .. ونعود يقتلنا الظمأ لمسامرة الخلان وأصدقاء الصبا .. ينازعنا الحنين إلي لعب الكمبلت في ميدان بير فرح الشاسع الذي كان يمتد وقتها من منزل إسماعيل ود ناصر من الناحية الغربية وشرقا حتي دار الأصم رحمة الله عليهما.. في عودتنا من المدارس نتعجل التخلص من متعلقات يوم طويل، من كتبه وإزيائه التي ضاعت ألوانها تحت خليط من العرق والغبار.. ثم لا نلبث أن نتسلل لواذاً عبر النفاجات والأبواب الصغيرة متحاشين أعين الرقيب .. والشمس لم تضع بعد أوزارها.. لنلعب ماطاب لنا من "الكمبلت"، "التيوة" و"أم الحفر" و"شليل وينو" ما قبل المغيب وبعده .. حيث نبدأ مع الشفق في إنسحابٍ قهري للديار كأنما نُجرّ لها جرّا، لتمطرنا التعليمات والتحذيرات المكررة، ونُوَبّخُ ونُعاقب علي ما أقترفناه تجاه بعضنا البعض أثناء اللعب من اللعنات والعنف المتبادل، مما يعده الكبار نشوزاً يستدعيهم ونحن عنهم راغبون.. ثم نمكث لأداء ما ينتظرنا من واجبات وأعباء مدرسية ومنزلية، كخاتمةٍ كالحةٍ ليومٍ حافل باللهو والسعادة تظل ذكرياته عالقةً حتي صباح اليوم التالي ..
كانت لنا طرائف وملاسنات مع كثيرٍ من نساء الحي المكتنزات اللاتي كنّ ينتهكن الميدان جيئة وذهابا .. حينما يتعمدن العبور وسط المباريات الحامية فيحدثن إرتباكاً في إنسيابها. ويتسبب ذلك في إثارة اللاعبين المتحمسين وتعكير صفوهم، فيتزمرون إحتجاجاً علي هذا الإختراق المكوكي المتعمد.. وحينما تنفلت حبال الصبر لا تمر تلك الحوادث دون مخاشنة لفظية مع أولئك النسوة المشاكسات العابرات، تعقبها إصابات متعددة غير بريئة بالكرة.. يستغثن منها ولا مغيث، ثم يسابقن الريح زحفاً بأجسامهن الثقيلة، حتي إذا ما صرن في مأمن من مرمي الكرة ومن مكر الصغار، ينقلبن وأعينهن يتطاير منها الشرر، فيُمطِرننا بسيل من السباب واللعنات، ويتوعدننا بالويل والثبور وسوء الطالع..." عيال فرح .. الله لا غزا فيكم بركة " .. " عيال فرح شكيتكن علي الله، أتّان متل النمل" .. كانت الأيام بريئة وشفافة كبراءة قلوبنا وصافيةً كصفائها، تسكنها الإثارة والدهشة، والمفاجآت السعيدة.. كما لا تُخطئها الهنات والمخالفات البريئة التي قلّما تستوجب قصاصا منا أو تعذيرا ..
فيما بين ذلك كانت تمر علينا لحظات لا تنسي .. نرتكب فيها من الحماقات ما يستدعي علينا العقاب والمناجزة ..أذكر أشهرها يوم أن أقيمت دعوة عشاء جامعة في منزل عمي، تداعي إليها المعارف والجيران وأصدقاء الأسرة وتراصت الشاحنات التي قدموا علي متنها.. البدفورد الموريس.. الهينو.. ألايزوزو.. التيمس.. بدت السيارات اللامعة النظيفة وكأنها تتلألأ في الظلمة من فرط ما دهنت وأتقنت نظافتها، كانت زاهيةً تسطع منها خيوط من الضوء كالبروق الملونة.. فقد زُيّنت بعقودٍ من حجارة الأضاءة الذاتية الجذابة.. وما أن تصاعدت من باحة الدار، روائح الشواء وما رافقها من الطيبات واللذائذ، حتي أصبح المدعوون في شغلٍ عنّا لساعةً من الزمان.. ولو أنهم علموا ما دُبّر لهم بليلٍ، لما غفلوا عنا، ولما طاب لهم الطعام والشراب، فلم يكد العشاء ينفض، حتي أدرك السائقون، بعد فوات الأوان، أن الشاحناتِ قد جُرِّدت تماماً من كل العواكس الصغيرة الذاتية الإضاءة، فأصبحت ملساء كحجر الصوان، جرداء خالية من كل عناصر الزينة يلفها سواد أبديٌ كئيبٌ، فصارت بعد رونقها، باهتةً كالأرامل الحزينة.
امتدت أصابع الإتهام يومها لثُلّةٍ تَعَثّر بها الحظُ من الصبية الكبار الأشقياء.. أن أُرسل في المدائنِ حاشرين، و سرعانما جُمِع المتورطون للعقاب القاسي دون إتاحة مساحة كافية للدفاع عن النفس .. في ساحة منزل العم "علي" رحمة الله ورضوانه عليه.. فنُصبت مراسم العقاب الصارمة المعهودة، عنقريب القِد .. أُم سعد الله .. حبال التيل .. ليتم دهن الآثمين من الضحايا بخليط الملح والماء ويشدّون عُراةً كالسحالي، بمعاونة رفقائهم الناجين مصادفةً من العقاب، علي عناقريب من الخشب والحبال وهم واجمون دون مقاومةٍ، كأنما يُساقون إلي الموت وهم ينظرون.. ثم تطرح علي أجسادهم القطع المبللة ويجلدون كفاحاً بالكرباج المفتول.. فيملأ الصياح القرية من أقصاها إلي أقصاها، وتتعالي الإستغاثات بأسماء الأمهات، رغم كل ما كان يستدعيه ذِكرُ الأمهاتِ بأسمائهن من حرجٍ وتهكمٍ، طالما تحاشاهما الذكور من الصبية في ذلك الزمان.. تظل الرواية عن تلك الحادثة الفضيحة، تنتظم مجالس الصبية في الحي ويتناقلها الرواة، لاتكاد تخرس عن تردادها المجالس حتي بعدما تندمل الجراح..
* * *
الحائط الأسمنتي الصلب المنصوب في الحدود الشمالية لمنزل الجد "ود علي الياس" طيب الله ثراه والذي لم يكن مأهولاً وقتذاك، كانت تقابله من الجانب الآخر من الشارع، غرفتان منفصلتان، بينهما ممرٌ ضيّقٌ لا يكاد يتسع لعبور شخصين في وقت واحد. الغرفة الشرقية منهما شُيّدت من الآجر الأحمر وكان قد إتخذ منها ود الرشيد، عطَّر الله قبره بريح الجنة، حانوتاً يستقبل فيه عملاءه ويبيعهم أغراضهم عبر نافذة واسعة في الجدار الجنوبي من الحانوت.
أما الغرفة الغربية فقد شيّدت هي الأخري من اللبن، وطليت من الخارج بخليط الروث الجاف. ظل يشغلها لزمن طويل آدم ود طه (الغسّال) كمعملٍ لغسيل وكيّ الملابس. تبدو أمام دكان الغسّال من الناحية الجنوبية أربعة عيدان خشبية متعرجة ذات رؤوس مزدوجة، نصبت في الأرض وشُدّت عليها أسلاكٌ معدنية سميكة كان يستخدمها لتجفيف الملابس المغسولة المبتلة.
ما بين الغرفتين والحائط الصلب، إمتدت كثبان من الرمال البيضاء الناعمة، التي كانت تحتفظ ببرودة الليل حتي ضحي اليوم الذي يليه. كان يكثر فيها المتسكعون والسابلةُ والعابرون، ويشغلها الصغار تحت ضوء القمر في الأمسيات والليالي البيضاء. طالما تجمع فيها بعض الصبية الأشقياء في العصر الباكر يتهامسون وأعينهم تنضح مكراً ودهاءا. فينصبون شراكاً من الحبال المشدودة علي إرتفاع ذراع كامل ما بين الحائط وعيدان الغسيل، يُحكمون شدّها ووثاقها، ثم إخفاءها عن أنظار المارة تحت الرمال المنبسطة.
وعلي مقربة من الفخاخ المنصوبة، يتخذ الصبية مرابض آمنةً علي الحائط، يطبقون فيها علي أنفسهم في صمت كصمت القبور، أنفاسهم مكتومة ينتظرون مرور أفواج من طالبات المدرسة المتوسطة اللاتي يدرسن في الكورسات المسائية لإعدادهن لإمتحانات الشهادة الثانوية.
يتخير الصبية من مرابضهم الخفية، مرور الفتيات الأكثر فتنة وحسنا، ثم فجأة يشدون الحبال المنصوبة بقوة مفاجئة فيتسبب ذلك في سقوط مباغتٍ وجماعي للفتيات الحسناوات، تعقبه فوضي وأضطراب وبهرجة من الألوان الأخاذة، ثم صراخ وشتائم ولعنات متتابعة، لا يلبث الصبية بعدها أن ينطلقوا كالريح دون أن يخلفوا أثراً.. حتي لا تتمكن الفتيات الغاضبات من الفتك بهم أو التفرس في ملامحهم..
* * *
عمت الكهرباء في بواكير السبعينيات من القرن الماضي الكثير من الدور والشوارع الكبيرة بالقرية.. فاستحال ليلها نهارا. وتوشحت القرية بالضياء بعد أن طال ثباتها في ليلٍ مدلهمٍ إمتد عبر السنين .. دخول الكهرباء شكل شيئا من البهجة والصدمة في آنٍ معا .. فاللعب تحت أنوار النيون الباهرة البياض كان ذا طعمٍ فريد ورائحةٍ أيضا.. وذا متعةٍ لا تضاهي ..
في تلك السن المبكرة كنا لا نعبأ كثيراً بالظلام .. ولا نعرف له قيمة .. فالأنوار التي أدخلت علينا تلك البهجة ربما، بالمقابل، قد أفسدت بهجة كثيرين من الناضجين الذين كانوا يكبروننا سناً، فلطالما تغنوا بالليل وتغزلوا بكرمه الحاتميّ ومحاسنه، ونظموا فيه القوافي وسحر الكلام. لكنا رغم ذلك كله، لم نشأ أن نشاطرهم العزاء حزناً علي ذلك الفردوس المفقود ..لأننا ببساطة، لم نكن مطَّلعين علي ما ظل يهبهم إياه الليل بظلامه وسكونه من النعم والمسَرّات.. إذن فقد كنا لا نمانع أن يذهب الظلام إلي الجحيم ..
لكن الحرب لم تضع أوزارها، فلطالما أفسدت جلساتنا تحت قناديل الكهرباء في شوارع القرية السالكة كثيراً من المسرّات وصفاء التناجي .. أذكر أنا كنا متجمعين في مساء أحد الأيام تحت أعمدة الأضاءة في الشارع العريض المار غرب المدرسة الأبتدائية للبنين. وبينما نحن سعداء نترنم بصوت عالٍ بالأناشيد المدرسية، إنهالت علينا فجأة ضرباتٌ موجعاتٌ من ناحية الفراغ المظلم الممتد من خلفنا. الضربات المباغتة جعلتنا نصيح كمن أصابه المسُّ، حتي حلّقت فوق رؤوسنا أسرابٌ من الخفافيش المرعوبة التي كانت تزدحم بها الأسقف الحديدية في المدرسة الغربية. فإذا بنا وجهاً لوجه مع أحد معلمي المدرسة الشرقية، أصلبهم عوداّ وأشدّهم بأساً، وهو يسبنا بصوت عالٍ متهدج ويتوعدنا بالويل والهلاك إذا ما عدنا مرة أخري لما نحن فيه .. لم نتعود أن نجادل الكبار في ذلك الزمان ..فانطلقنا بسرعة البرق وأخلينا المكان، وظل هو في أثرنا يسب ويلعن محاولاً بلا جدوي جرجرة أقدامه وخطاه المتعثرة، آملاً في اللحاق والظفر بنا لتكبيدنا أذيً أكثر ورعباً أشد..
لم تتسع عقولنا ولا أبداننا الهشة، لإستيعاب تلك الكراهية المفرطة وذلك الهجوم العدواني الكاسح، اللهم إلا تلك الحرب السجال التي ظلت تدور رَحَاها في القرية سراً، ما بين الكهرباء ومملكة الظلام.. فنحن لم نكن يومذاك نمارس ما يستوجب العقاب أو التوبيخ.. كنا صغارا في سن متماثلة، في أولي ساعات المساء، جالسين تحت الضوء نتسامر ونترنم بأناشيد مدرسية بريئة..فما الذي جعل طموحاتنا الصغيرة المتواضعة ترتطم بتلك الإرادة الجبارة؟. ألجمتنا الدهشة ومازلنا حائرين ومعاقين نفسياً، نتحسس، بلا جدوي، مواطن الوجع الذي خلّفه فينا ذلك الحدث البائس الحزين، فلا سقفَ في قريتنا لطغيان الكبار وسطوتهم.
* * *
دارهم التي تجاورنا من الناحية الجنوبية، كانت من أوائل الدور التي وصلتها الكهرباء في الحارة .. فكادت الحيرة أن تقتلنا عمّا هو السر الذي تحمله تلك الأسلاك الجهنمية الرفيعة الفتاكة.. وكيف لأسلاك نحاسية مصمتة لا ميزة لها أن تحمل في طياتها تلك الطاقة السحرية الخارقة حتي أنها تجعل الآلات الصلبة الساكنة تدور كالعفاريت من تلقاء نفسها.. كما تحيل أنابيب النيون الباهتة البيضاء إلي وهج ساطع كالبرق يكاد يخطف الابصار.. وكنا نسائل أنفسنا عما هو حجم البأس الذي تدخره تلك الأسلاك الرقيقة الحمراء.. فكلما نصحنا وحذرنا منها الكبار، كلما زادنا ذلك التحذير فيها توقاً وهياما.. بل ربما زادنا ذلك ولعاً وجسارةً لمراودتها وسبر غورها وفك ما بها من أسرار وطلاسم..
أخذت المبادرة وحب المغامرة بتلابيبنا .. بطبعنا كنا قلقين لا نستسلم للحيرة حتي نصرعها .. فلما ناءت بحملنا حبال الصبر، غامرنا بغرز المقطع المعدني (وهو أحد أدوات علبة الهندسة في زماننا براسين مدببين) داخل مصدر الكهرباء، فأحدث ذلك إنفجارا هائلاً طارعلي إثره المقطع المحترق بعيدا وأنقطعت الكهرباء فخيم الظلام علي الدار .. فلم يكن من الهروب للنهر بدّ تحاشياً لعقابٍ وشرٍ مستطير .. فقد كانت معاقرة النهر وعفاريته لثلاث ليالٍ متتاليات، أهونُ آلاف المرات مما كان ينتظرنا من العقاب وسوء المنقلب ..
كان عمي رحمة الله ورضوانه عليه، رجلاً مثقفا ومطلعاً ومتديناً.. لكنه لا يميل كثيراً للدعابة .. تجده جاداً معظم أوقاته يتلو القرآن في الديوان الكبير المقام في الساحة الشرقية من المنزل ..أو تجده في حانوته الصغير أثناء ساعات النهار .. داره دون سواها في الحي تمتلئ بأعدادٍ من طلاب العلم من القري المجاورة .. يعيشون داخل الدار جنباً إلي جنب مع أبنائه .. يطعمون طعامها وينامون في كنفها حتي يكملون دراستهم بالمراحل المختلفة .. ومن ثمَّ يفارقون الدار وهم يلهجون بالشكر والثناء لما لقوه من طيب المعشر وكرم الضيافة .. وما أكتنزوه من ذكريات وصداقات تظل في ذاكرتهم مدي الدهر.. كلهم وسعتهم الدار وأطعمتهم وسقتهم حتي بلغوا مرادهم من العلم. وما زال الكثيرون منهم يرتادونها وفاءً لها ولإهلها ..
في الأيام التي كان يغيب فيها الكبار في السفر خارج القرية تنقلب الدور إلي معامل تنكرية بكامل معداتها ومقتضياتها .. يتم فيها تلوين وجوهنا وملابسنا لنصير أشبه ما نكون بالكائنات الفضائية .. نخرج في المساء نطارد المارة من أهل الحي من العشاء إلي الربع الأخير من الليل ..كان كل منا يأخد ناحية من القرية ننشر الرعب والدعابة في شوارعها المظلمة .. وكنا إذا التقي منا الواحد بالآخر تسري فينا رعدة طاغية .. فما أدرانا بأن الذي في قبالتنا هو رفيقٌ لنا أم أنه واحدٌ من شياطين الجن التي تحتشد بها أساطير القرية وأطلالها .. لذلك كنا كثيراً ما يطارد بعضنا البعض ويقع بعضنا فريسة للآخر.. ثم نعود إلي الديار مرهقين مع إقتراب الفجر لنظل النهار بطوله ونحن نغط في نوم عميق .. وقد كان رجالٌ من أهل القرية ممن يرتجف الناس أمامهم نهارا يسابقون الريح هرباً منا بالمساء ونحن متنكرين في تلك الأزياء الغريبة.. لنجتمع ونتندر بمن فرّ منهم .. ومن صرخ طالبا النجدة والعفو ..
(يتبع)..
Nagi Sharif Babiker [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.