كالعادة كانت الجلسة تمضي رتيبة مملة.. النواب يجرجرون ارجلهم في تكاسل داخلين وخارجين.. الصحفيين الجالسين بالشرفة العلوية للقاعة يتثابون ويثرثرون في احاديث جانبية تسلية للوقت وكسراً للرتابة التي اعتادوا عليها .. اذ ان البرلمان نادراً ما كانت جلساته تستحق المتابعة، وتجبر من بالقاعة على الاستماع لانشتطه في اهتمام.. نوابه لا يستطيعون الخروج عن خط حزبهم الذي يهيمن على البرلمان بالاغلبية.. يقولون ما يريده الحزب لا الشعب.. فبدت اعمال مجلسهم على النحو الذي ظهر للعامة لا الصحفيين وحدهم.. جلسة أمس التي بدأت ادارتها نائب رئيس المجلس سامية أحمد محمد كانت تمضي في ذات الاتجاه المعروف، اذ انها كانت مخصصة لمناقشة بنداً واحداً حسب جدول اعمال المجلس المعلن وهو تقرير اللجان المشتركة حول مشروع مصرف التنمية الصناعية.. بيد انه وبصورة مفاجئة ونادرة وربما لاول مرة جاء رئيس البرلمان أحمد ابراهيم الطاهر عقب إجازة مشروع القانون ليجلس على كرسي رئاسة الجلسة بعد ان تنازلت عنه سامية الى مقعدها المعروف.. تعاقب الرئيس واحد نوابه على ادارة الجلسة ليس غريباً، فالمعروف ان ينسحب الطاهر في منتصف الجلسة ويترك كرسي الرئاسة لاحد نوابه لمواصلة ادارة الجلسة، لكن ان يحدث العكس فهذا ما لم يكن مالوفاً.. حينما دخل الطاهر لاعتلاء دفة القيادة وجد النائب مهدي عبد الرحمن اكرت يتحدث في خطبة مطولة يهاجم فيها رئيس تحرير صحيفة اخر لحظة الاستاذ مصطفى ابو العزائم على خلفية كتابته مقالاً هاجم فيه نواب البرلمان اتهمهم بحسب اكرت بالدهماء والغوغائين ، وانهم اذا اجتمعوا اضروا واذا تفرقوا نفعوا، كما وصفهم بالخونة ولا علاقة لهم بالشعب. واعتبر النائب البرلماني هذا الحديث اهانة بالغة للبرلمانيين وتجني عليهم، كما اعتبره دعوة صريحة لرئيس الجمهورية بحل البرلمان وتسريح نوابه وفقما راي كاتب المقال بانهم اذا تفرقوا نفعوا.. ووصف الحديث بانه خطاب ميت وكلام فج ولغة بائسة، واعتبره نوع من الافلاس الفكري. واضاف "كانما اراد ان يقول للنواب اذهبوا وارعوا باغنامكم ولا شأن لكم بالشعب".. وبينما اكرت في قمة انفعاله وهيجانه.. يخرج الكلمات كانها حمماً ولهيباً علها تشفي ما اختلج بصدره مما اعتبره اهانة ، دخل الطاهر واعتلي كرسي الرئاسة دون ان يتنبه له اكرت او هكذا اوحي للحاضرين حينما قال "اختي الرئيسة" فضج البعض بالضحك ليتوقف عن الحديث فيعلم ان المخاطب مذكر فقال معالجاً موقفه: "الرئيس وصل، الله اكبر".. ومضي في مرافعته عن النواب. بيد ان المفارقة كانت في حديث رئيس البرلمان الذي عقب على اكرت وما اثاره من موضوع.. ومضي الطاهر في حديثه يبحث العذر لرئيس التحرير بعدما وصفه بالكاتب الرصين لم يعتاد منه ان يكتب بمثل هذه اللغة، ونبه النواب الى ان الكاتب اعتذر لاحقا.. كما نبههم الى حق الصحفيين ان ينتقدوا اداء البرلمان واداء الدولة، لجهة ان الصحافة تعتبر مؤسسة تشكل الراي العام.. لكنه فجأة بدل لهجته المادحة الى ذم وانتقاد لصحفيين اخرين لا يعرف احد ما الذي زج بهم هنا.. قال الطاهر ساخراً ان بعض صغار الصحفيين يهاجمون وينتقدون البرلمان بطريقة ابعد ما تكون عن الموضوعية من أجل ان يبنوا اي الصحفيين انفسهم على حساب البرلمان ونوابه. وقال ان أحدي الصحفيات لم يذكر اسمها كتبت كلاماً اعتبره اسوأ مما كتبه صاحب المقال موضوع الجدل.. لكن الطاهر عاد وهاجم الصحيفة المشار اليها وانتقد عملها التحريري، وقال انها تتناول اخبار الجريمة وتبرزها بطريقة بشعة، واعتبر ذلك منافياً للمعايير المهنية حسب إعتقاده، وقال ان مستوي الجريمة بالبلاد في انخفاض عكس الدول الاخري حيث تتنامي فيها معدلات الجريمة. الذي بدأ ليس مدهشاً ومفارقاً فحسب وانما مخالفاً للنظم ولوائح المجلس هو اتاحة رئيس البرلمان فرصة الحديث لرئيس مجلس ادارة صحيفة اخر لحظة الحاج عطا المنان للدفاع عن مؤسسته وابداء ملاحظاته حول ما اثير.. وهكذا وجد رئيس مجلس الادارة والنائب البرلماني في ذات الوقت محمولاً لاستغلال قبة البرلمان للدفاع عن مؤسسته الخاصة.. لم تجدي احتجاجات النائب عبد الله مسار على تلك الخطوة فدخل مع الطاهر في مشادات كلامية انتهت بجلوس مسار بعد ان احتد معه رئيس البرلمان في الحديث وقال له بلغة آمرة "أجلس.. يتكلم" وكان مسار يقول له ليس من حق العضو ان يتكلم.. لكنه تكلم وفقما اراد الطاهر وقال ان مجلس ادارة الصحيفة عقد اجتماع طارئ لمناقشة موضوع المقال الذي كتب بشأن البرلمان ونوابه لكنه لم يفصح عن نتائجه غير انه اشار الى ان لديهم بعض الترتيبات في ذلك. لكنه مضي في تقديم النصح والارشاد للصحفيين مطالباً لهم بالبعد عن الهمز واللمز في كتاباتهم، وضرورة احترام المؤسسات الوطنية.. ثم عاد مبرراً تناول صحيفته لاخبار الجريمة بان اكثر الصحف توزيعاً في البلاد تعتمد على اخبار الجريمة ولا يسألها أحد، لكن ما ان تتناوله احدي الصحف الاكثر تأثيراً في الراي العام حتي يطالها الحساب حسب قوله. لم يفق الصحفيون الجالسون اعلي شرفة القاعة من هول الدهشة التي الجمتهم حينما وجدوا مهنيتهم يتداولها نواب البرلمان ويخضعونها لمعاييرهم دون ان يتركوا حقاً لاهل المهنة.. رغم ان دهشتهم قد قادت رابطتهم بالبرلمان الى عقد اجتماع طاريء ومطول لمناقشة ما حدث في الجلسة ومن سخرية رئيس البرلمان من الصحفيين واتهامه لهم بان صغار الصحفين يبنون انفسهم على حساب مهاجمة النواب بالبرلمان.. إلا ان بعضهم بدأ في التفكير عميقاً فيما جري محاولاً فك طلاسمه.. الذي حدث واحدث كل هذه الجلبة، كان مفاجئاً، اذ انه لم يكن موضوعاً ضمن جدول اعمال المجلس.. رئيس البرلمان لاول مرة يأتي في اعقاب الجلسة ليكمل ادارتها كانما لديه ما يريد ابلاغه للنواب على عجل.. كاتب المقال موضوع النقاش لم يعتاد الناس منه مثل الذي كتبه.. ثم الموضوع الاكثر اهمية، تعليق جلسات البرلمان الاسبوع المقبل وتفرغ النواب الى تعبئة الشباب في ولاياتهم ودوائرهم الجقرفية للاستنفار والاستعداد لمساندة القوات المسلحة في المعركة القادمة حسب رئيس البرلمان... ahmed hamdan [[email protected]]