jamal ibrahim [[email protected]] ( 1 ) سألَ الرّاوي: - مَنْ كتبَ وصفكِ قبلَ أن يراك ؟ مَن ذا الذي استنشقَ عَبيرَ وردتكِ في الأثيرِ، قبلَ أن يستنشقكِ مِن مَسامِ بدنك في نهارٍ حالمٍ، وللصيفِ ظلال ؟ ثمّ حدّثَ نفسَهُ بعشقِهِ، ودوّنَ في كتابه: ( ألاقيكِ للمرّةِ الأولى، وكأنّي هبطتُ من الطائرةِ على جادة في المُنحدر إلى مخبئك، وتركتُ خارطتي ورائي ودخلتُ إلى الشارع المتفرّع، إلى البنايةِ بطوابقها الأربعة. . أو الخمسة. . ولا تسأليني: من يعدّ الطوابق ونبض قلبه يحصي أنفَاسَه، كم بقي له ليُمسك بنبضكِ. . ؟ كنتُ أهبط منكِ أم كنتُ أطلع إليكِ ؟ لم يكن واضحاً تماماً. هل كنتُ أيمّم شطرَ قلبك، أم أنّ البحرَ جاء بك يا حوريّتي، فرأيت أنثى "البحر" ، صافية كمَوْجهِ . . ؟ ( مَن يَسأل يا عظيمة الحضورِ ؟ لقد عبثَ القدر بقلبي واهتزّ صمودي، واعترتْ القلب رهبة. لم أعرف أن الحُلم يمكن أنْ يمتدّ ليالٍ، ويخرج إلى علن الواقع، فتضطرب الحَواسُ منّي، ويستغرقني زهوُ اللحظة: أحتويك بذراعيّ وأنت ببدنٍ نوراني يتداعَى صوبَ جسمي. هل يكون للنور شكلُ الجسم ، أويكون للبهاءِ نهدان نافران مثل نَهدَي صبيّةٍ ، سبحتْ للتو إلى بحر المراهقة، أو يكون البحر الذي في عينيك، أبرَح من بحرِ المتوسّط قبالة المنحدر، أو تستنسخ الوردة نفسها من براعمك القرمزية . . ؟ ( ذلكَ يومٌ يا حبيبة، يُحكَى عنهُ، أو إن شئتِ أن نقول، هو يوم ميلاد العشقِ في بهوِ الحوَاس . . ( دخلتُ فيك وكأنّي خرجتُ منكِ. شربتُ من شفتيكِ خمراً، فظمئتُ من ارتوائي بك. لحظة الحبِّ، رأيت رسائلي ورسائلك كلها أمام عينيّ، حرفاً يلاحق حرفاً، وقرأت حكاياتنا ، شبقاً يتبع شبقا ، فأنا كنتُ معكِ قبل أن أراك. قبّلت عنقك وأذنيك، وَعضضتُ شفتيك لذةً، وَمصصتُ وردك وبتلتك ورحيقك، ثم استحضنت جسداً واستحضرت قلبا، واستندَى بدنك من لثمي له. كنتُ في داخلكِ قبل أن أكون في خارجك. لماذا تطلّ الأسئلة في رسائلي إليك، وكأنّ الأجوبة ستأتي من غيبٍ بعيد ! ؟ ثمّةُ رجلٌ مجنونٌ، أحبّك ويُحبّك وسيحبّك أبدا. لا يتعب من عشقهِ لك ، ولا يكلّ قلبه حتى لو ينبض مليوناً في الدقيقة الواحدة. حتى لا أشقيك معي أقول، إنّي لم أشبع منكِ ، لأنك الّلذة المستدامة. . ستظلّ حبيبتي في انتظار مؤالفة مؤجلة، ذلك لأن العشق ديمومته في الإنتظار المعلّق بينَ واقع الأرض وحلم السماء. . ! أجل أتعبني الجسدُ المُضنى، ولكن ثمّة قناعة أغوارها بعيدة في النفس، تقول لي رويدك أيها المجنون: اصبر حتى يكتبك الرّب قريناً لها حلالاً، وتكون حواءك يا آدم في فردوسك، وبعد أن نُشهِد قديسين في مدينتنا الترابية ، على رباطنا! ) ( 2 ) هل فطِنَ الأخطلُ، حين ابتُليَ بعشقِ صبيةٍ أبوها يؤمّ الناسَ في المسجد الأموي، أنّ صليبهُ المعلّق فوق صدره يقول لا. .؟ وما في المدينة الترابيّة مِن تسامحٍ أكثر ممّا هو في ربعِ "المَسَالِمة"، وقلبُ الحيّ "كنيسةُ القديسين"، وفي الجوار مَسجدٌ جامع ، مأهولٌ مَحضورٌ، في مدينة التّراب، "أم درمان". لم يجُل بخاطرِ الشّاعرِ أنّ راهبَ الدّير قد يسأله، إنْ كانَ قد ارتدّ عن نصرانيته، واتّبع نُصح البلاط وشهد بإسلامه ، لسببٍ يتصل بعشقه الصبيّة، أو ربّما لرغبة في مُداهنة البلاط ، أو في تقرّبٍ إلى أصدقائه النحويين . لحمّاد الرّاويّة شهقة عندما سُئل عن الأخطل، وهو ينشد الخليفة الأموي: "خَفّ القَطيْنُ" : شَمْسُ العَداوةِ حتّى يُستقاد لهُم وَأعظمَ النّاسِ أحلاماً إذا قدروا فقال : ويْحَكُم مَا أقولُ في شِعرِ رَجُلٍ قدْ واللهِ، حبّبَ إليّ شِعرُهُ النّصرانية !؟ * (ذلك ممّا جاء في ديوان الأخطل، شرح مجيد طراد - دار الجيل – بيروت ص 483) قالَ راهبُ الدّيرِ ناصِحاً، يقترح مَخرَجاً لشاعرهِ، لكنّه ورّطهُ أكثرَ في وَحْلِ الفُسقِ : - أقضِ وَطرَك مِنهَا ولنْ يسألكَ أحد. . أتظنّ المرأة مشغولة بالصّليبِ يتدلَّى مِن عنقك، أم هيَ مأخوذة بما أوتيتَ مِن مواهب أخرى تتدلى منكَ، على نحوٍ آخر؟ تبسّمَ الشّاعرُ إذ فهِمَ مَغزى السؤال، ثمّ قال، وَكأنّه يحدّث ذاته: - تظل الأجوبة في جسدي وجسد حبيبتي. . عمّدني نبيذُها الشّهيّ لمّا لعِقته ، عاشقاً لها إلى أبدِ الزّمنِ. سأظلّ على انتظاري، يا وردَة قصائدي . . بستاني فيك وعندكِ. . كتبتْ "هُنيدة"، تسأل في رسالتها إليهِ : (مّا سِرّ العلاقة بين الحُبِّ والخَوف؟ عندمَا التقتْ ذلك الرّجلَ الغريب، أُصيبت هيَ بصدمة لا مُبرّر لها. شعَرتْ بشيء غريب يتحرّك داخلها، وارتعشتْ يدُها قبل أنْ تمدّ أصابعَ خجلى، للسلامِ عليه. حدّقتتْ في عينيه فغرقت بين بحرٍ وسماء، خافتْ أن تنسى نفسها هناك، همسَ ضميرُها الحاضُر: ربّما هو شعور كلِّ امرأةٍ عانتْ من الوحدة لفترة. .) ( 3 ) سمعَ الرّاويّ مِنهَا، ثمّ كتبَ في دفتره ما قالتْ : (عندما ابتسمَ لها عفوَ اللحظة، خافتْ أن تكون ابتسامته ملوّنة "بأمر اليوم"، وغداً تتلوّن بأمرِ يومٍ آخر، وظرفٍ آخر. لقوسه القُزَحي ألوانٌ شتّى . خشيتْ أن لا يعود إلى وصله فينقطع اكتراثه، كما خشيتْ إن اتصلَ فيتعيّن عليها حتى تخرج من حيرتها ،أن تحلّل شخصيته ودوافعه ونواياه.. عندَما هاتفهَا واتفقا على مَوعدٍ، خشيتْ أن لا يعجبهُ ثوبُها، أن يخذلها لسانُها، أن لا تجد الكلام.. أن يكون الموعد ليوم واحد ويستكفي، فيكون كمَنْ وضعَ الطُّعم لهَا لتعلق في شباكه، ثم يرميها مع رفيقاتها السابقات، إلى سلّة النسيان. لحظة التلاقي، فقدَتْ السيطرةَ على قلبها، تلاشتْ بين ذراعيه، رأتْ ذلك الفردوس الذي لم تسمع عنهُ إلّا في الروايات، فاضطربَ قلبها المُسافر منذ سنوات. تراءَى لها أن مَصيدَة نُصبتْ حين غرّةٍ لاصطيادها. ثمّة خدعة تُحاك، عجباً. مخدوعة منه أو مخدوعة من عواطفها، ما الفرق؟ حينَ سَمِعتْ كلماته، توَترتْ أطرافُها واهتزّتْ دواخلُها. ماذا لو كان لا يعرفها جيداً بعد، ومتى امتزج فيها، بدّل رأيه؟ متى تعرف أنّ الوقتَ قد أزفَ، حتى تستجيب وتقول نعم ؟ خافتْ أنْ تستسلم لعواطفها أكثر، فتغرق في جنونه أكثر، وخافتْ أن لا تفعل، فتضيع فرصة النجاة مِن غيبوبةٍ، هي بعض حياتها وليستْ حياتها بالكامل. النجاة هذه المرّة هي الحياة بعينها، برغم التباسِ حرفي النون والياء وحرفي الجيم والحاء . عندمَا شعرتْ أنّه امتلكها، خافتْ أن تفقد كلّ حريّتها، لكنها خشيتْ أيضاً أن تعطيه كلّ حريته، فيصبح قلبها بستاناً يخصّهُ وحده. عندما وعدها أن يكونَ لها ومعها حتى انقضاء الدهر، خشيتْ من فرط ِ وثوق قلبهُ أن يكون الدّهر قصيراً. . ) ( 4 ) رفعَ الرّاوي قلمَهُ، وكأنّه ينتظر إملاءاً من خِدنهِ . . نظرَ مَليّاً إلى الأخطل، يستنطقهُ كيفَ هيَ معشوقته، تلك التي استنسبها وتشبّب بها في قصائدهِ للخليفةِ الأمويّ. أهيَ من بحور الخليل وقوافيه إنشاءاً ، أم هيَ من نبضِ القلب وخفقانه نزفا؟ سكتَ الأخطلُ هُنيهةً، ولكنّهُ همسَ لنفسهِ، وكأنّ "هُنيدة" معهُ، واجفُ قلبُها، فكتب الرّاوي ما سمِع : - أيّتها الشهيّة مثل رذاذِ الربيع. . هل تكون في قصائدِ النثرِ حكايات ولعي بكِ مخفيّة، أم انّ القلبَ أفصح عنها، فترجم اضطرابه شاعرٌ شأنهُ أنْ يَدخل- وصليبُهُ الذّهبيُ يلتمع في صدرهِ - على الخليفة الأموي والنبيذ يُدار في المجلس، والقيان إلى غناءٍ ورقصٍ وتبذّل، فمَن يأبَه والحياة مقبلة علينا جميعاً، نَصَارى ومُسلمين . . ؟ قال هو : لا أنسَ العمرَ كلّه، ساعة امتزجتْ- في لحظةٍ- خلايانا، وباختيارِ جسدينا وبترتيبٍ من أقدارٍ أخذتها الرحمةُ بنا، وكانَ استحقاقاً مشروعاً أن أدخل حبيبتي، فيطعمني جسدها بعسلِ المحبة ورحيق الإشتهاء يغشانا معاً ، فيشهق البحرُ معنا، وأنا أدفع نفسي بين شفتيها. أعشّق شفتيك النديتين، حين تعتقلان عصبي فيماثل اعتقاله قبض بتلتك له. لكنّك أكلتنِي قبل أن آكلك. لعقتك قبل أن أرشف منكِ.. ولكن ما حاجتي للنّدَى، وأنداء فمك شملت فاكهتي، فاستخشبت تحت لعق لسانك الدفيء، فأشعلتني، ولكنّي بحذقِ مجنون استكبحتُ انتفاضي، فهربتُ من عضّ شفتيك. حزنتُ إذ كان لِزاما على القمر أن لا يكتمل عندك، بلْ يظلّ هلالاً، يؤرّخ صيام بدني فيك، وعيدُ الفصح لا يَبدو بعيدَ المنال. مَنْ هتفتْ بحُبي، أسرَني جسدُها ، مَلكَتْ هيَ جَسَدي وملكتها أنا. مَن ألثمتني نهدَها الأيسر، فنما استدارة ً واستكبرَ حَلمَة ً، حتى همَسَ بدنُها : (أنْ هيتَ لكَ، يا أنت، هيا ادخلني، قمَراً بهيّاً وامزجْ جَسدي بجسدِك، حتى لا يكون هناكَ مِحاق. .) قصصٌ تُحكَى عَن استنباتٍ وتلاقٍ وعناقٍ ونموّ وسموّ واشرئباب. في خدرِ الإغواءِ، دخلنا غيبوبةَ العشقِ، فكُنتِ نوري أنتِ وأنفاسي أنت ِ، ونسائمي أنتِ، وَكنزي. . هوَ اعترافُ الأخطل بتمامِ عشقهِ للصبية "هُنيدة"، ولكن هل يتمّ التوافق بين نصرانيّ في ديرهِ، ومُسلمةٍ تقيّة في براقعها، بمثلمَا جرى الحالُ في المدينة الترابية، تآلفا بين أهل الملّتين : شجر الميلاد في بيت مُسلم، وذبيحة الأضحية عند المسيحيّ . . ؟ ( 5 ) كتبَ الرّاوي، نَقلاً عن خِدنهِ : ( قتلتني الرَّهبةُ وأنا في حفلِ بَسَاتينك، بلا قافيةٍ وبلا ايقاع. قتلني فرحي المُباغت فيك. فرحي بجسدك يحتويني ويتشكّل شبقي بكِ مِن فُسيفساء المَحبّةِ القُصوَى، فنمتُ مِن غيبوبتي، فما أفقتُ مِن فرطِ فرحِ اللحظةِ، ومِن ضياءِ الحُلم. . بعدَها كُنتِ أنتِ مَعي وعلينا غلالات الرّسميات، وأسقطنا على جسدينا لبوْسَ الجدّ ولبسنا أقنعة المُكابدة والاعتياد. كيفَ كنّا تلك اللُحيظات الحميمةِ والغَواية التي ترافَقنا فيهَا ذلك اليوم مِن شهرِ البحرِ الُّلجيّ، زفّتني إليكِ يا حوريّتي، والدّولة الأمويّة في غيبوبةِ الخلافةِ، وصولجانات الحكمِ، مشغولة. لم يكن هدوءُ البحرِ، ذلك الهدوء الذي تعرفهُ الحوريّاتُ. . نظرتُ في عينيكِ : رأيتُ حوريتي خارجة من البحرِ نديّة : ألقُ العشق في بهاءِ عينيها . ثمّ نظرتُ إلى نفسي وَقدْ التهبت خلاياي مِن مَحضِ هَمسِ شفتيك، بقصّةِ الشّبق الذي لفّنا، ووقفَ بدنيّ واستخشب حتى عذّبني ، فقالَ : هيتَ لك . أطلّ رمحي على بهائكِ غيرَ هيّاب، وَرمقَ شفتيكِ مُستعطفاً، فزجرَته أنا، إذ كانَ خائناً وَخذلَ وّرْدَ بُستانكِ الشّهيّ يومَ احتوانا البحرُ، وكانَ أحرَى بالفراشاتِ أن تلعق الوردّ فيستعسل، وبالبتلات أن تستحثّ أوراقها، قبضاً وبسطاً، فتكبر فقّاعات النشوةِ . تكبُر حتى تكبُر. . ما حاجتنا لفرحٍ أكثر من هذا يا أنت ؟ ثمَّ أنّ خوفَ العاشقةِ يؤرّقني . . . مَرّات أراكِ في شجَاعةِ فرسان القرونِ الوسطى، تخرجين أسيافكِ كلّها لا تأبهين. تلعقين الثمار وكأنّ القيصر المزّيف ليس هناك ! وَمرّات أراكِ هيّابة، تخشينَ أنْ تأخذ النسمةُ بعضاَ مِن محبتكِ لي، أو أن تسمع أذناكِ من قصيدي، صوتاً أعلى ممّا ينقله نبضي لكِ ، تخافين أنْ تتشهيني أنتِ أكثر مِمَّا أتشهّاك ِ أنا ! في لحظةٍ، وَنحنُ في غَيابةِ العِشقِ وَخيالات الّلذةِ، رأيتك ترمقينني مُشتاقةً إليّ، بلا مقدماتٍ ولا طقوسٍ مِن حولنا، تهمسينَ وأنتِ في جَدّ ٍ ورصَانةٍ وولهٍ خفيّ: ماذا لو تمازجنا وتوحّدنا، ماذا لو. . ! ؟ قالتْ لي عيناكِ : خُذني ! وَيا لهَا من شجاعةٍ وقوةٍ واستيقان ، وليسَ أخوَف منك أبدا أنثى ! ) سقط الشَّاعرُ مُغشياً عليهِ، ورفعَ الرّاوي قلمَه، وَقد كادَ أنْ يَجفّ حبره. . ثمَّ صاح بالصّوتِ الأعلى : هيَ "هُنيدة"، إذاً، هيَ "هُنيدة". . يا أخطل. .