أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    مناوي ل "المحقق": الفاشر ستكون مقبرة للدعم السريع وشرعنا في الجهود العسكرية لإزالة الحصار عنها    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذاكرة الأصوات وصناعة الدهشة ... بقلم: الصادق عبد الله
نشر في سودانيل يوم 01 - 06 - 2013

(هذا الموضوع جزء من كتاب تحت اسم الفن صناعة الدهشة،
كتاب سوداني بطعم الحلومر، لا يزال في طور الكُرارة)
ما أثار عندي الكتابة عن ذاكرة الأصوات ذكر وفاة المطرب عثمان حسين. وأنا بعيد في جزيرة ملقاسي قبالة ساحل موزمبيق في الجنوب الافريقي.، وحولي أمواج المحيط تتلاطم، ورياحه العاتية تنتاب الجزيرة. فأثار الخبر لدي حالة من الرغبة في الكتابة هذا رغم أن الكتابة عن عثمان حسين لا تحتاج إلى عصف ذهني. لكن نعيه ربما أثار مركزا للذاكرة المسموعة. بحكم إنتاجه و الذي ظل يبث عبر إذاعة أم درمان لنصف قرن من الزمان جعل عثمان حسين حاضرا في ذاكرة كثيرين من أجيال متلاحقة عبر نصف قرن مضى. فذاكرتي قد غذاها راديو أم درمان منذ الطفولة الباكرة، عندما كان الناس يجتمعون حول المذياع لسماع الأغاني ونشرة الأخبار، بما فيها نشرة الثامنة مساءا، والتي لها ملحق خاص بأخبار الوفيات.
قد أصبح الراديو لذاكراتي مصدرا دائما للمعلومة منذ منتصف ستينات القرن الماضي، عندما اشترى والدي راديو فيليبس بمبلغ سبعة عشر جنيها، و نحن لم نزل وقتها في حياة الترحال والبادية، للاستماع لأخبار حرب 1967م . هذا بعد أن باع أبي بقرة بمبلغ ثمانية عشر جنيها، وقد سلم المبلغ لحاج بشير عمر في الدكان المشهور بدكان ختام (ختام عمر، شقيق بشير عمر،) في سوق أم شوكة شمالي مدينة سنجة في وسط السودان). كما تغذت ذاكرتي عبر الحياة العابرة من البادية إلى السودان جميعه وأفريقيا والعالم، فقد تيسر لي السفر داخل السودان بين ملكال جنوباً وحوض السليم شمالاً وبين كلبس غرباً وطوكر شرقاً، مرورا بفوربرنقا وكبكابية، وادي صالح ، وقولو، بين اللعيت و لقاوة و سودري ، بين الدمازين و تلودي وجبيت وبربر وابودليق و الزيداب و الغبش، بين حوض السليم و أب نعامة و قرىً بين ذلك كثيرة.
أكتب هذا في منتصف يونيو عام 2008 من مدينة تاناناريف في دولة مدغشقر، والتي تنطق (مدا-كاس -كَار ) ، وقد كانت اسمها الرسمي ملقاسي ويسمى الشعب الملقاش أو الملقاسي، هذا أفضل من نطقها مدغشقر مثل نطق (قبر حرب بمكان قفر و ليس قرب قبر حرب قبر). وقد حضرت لمهمة رسمية من السفارة السودانية في نيروبي. و أنا في انتظار الطائرة إلى منتصف نهار الغد. وقد هاتفت أهل بيتي بنيروبي لأتعرف على الأخبار، ولا تعرف فضائيات مدغشقر أقمار نايل و عرب سات. فنعي لدي عثمان حسين عبر التلفون. قالت لي زوجتي أنها الآن تشاهد في قناة أم درمان مراسيم تشييع عثمان حسين، رحمه الله.
وجد عثمان حسين طريقه للناس مباشرة دون حواجز وفرض نفسه عليهم، ومن ثم فالمعلومات عن عثمان حسين قد لا تحتاج للبحث في مرجع، لكنها استدعاء للذاكرة فقط. فالبحث في المراجع للكتابة ربما مطلوب في البحوث العلمية التي تحتاج لتوثيق من نوع خاص.
قد يستغرب الذين يعرفونني أن أكتب عن عثمان حسين، لأنهم لم يعرفوني مهتماً بعثمان أو بالأغاني عموماً، ويندر من يقول سمعني أغني خاصة منذ فترة الجامعة. فقد أصبحت حنبليا كما يقول الشيخ بابكر بدري في كتابه حياتي، فبعض الغناء تحيطه كثير من الأحكام التي تدخل بعضه في دائرة الحرمة.
قد يعرفني البعض في مجال الرسم والتلوين في الصبا الباكر في مدرسة سنجة الأميرية، حيث جمعية الفنون التي كان نشاطها الرسم والتلوين. ليت لدي من لوحات الأمس حتى أستطيع أن أعرف أين كنت وقتها. المدرسة الأميرية يا أبنائي هي مرحلة تعليمية سابقة تعادل الدراسة في فصول السنة الخامسة إلى السنة الثامنة من النظام التعليمي الحالي (عام 2010). وكلمة أميرية تنسب لنظام التعليم الحديث الذي نشأ في عهد الخديوية في بداية القرن الماضي وحتى مطلع خمسينياته.
وقد يعرفني الذين كانوا معي في حنتوب حيث جمعية الفنون والأستاذ عبد الحميد الفضل والأستاذ النور موسى في شعبة الفنون، و نشاط الرسم السنوي لخلفية مسرح المدرسة. عندما تجتهد الداخليات في إعداد خلفية المسرح للمنافسة والفوز بكأس المسرح. وقد يستطيع كل من درس في حنتوب أن يتذكر أن الفترة الحرة بين العشاء والعاشرة مساءا كيف تستغل لترديد الأغاني على إيقاع الطرق على الدواليب (خزانة الملابس). و قد كانت الدواليب لا ترتفع أكثر قليلاً من متر. يزداد الغناء والطرق على أسطح الدواليب في فترة البروفات للمسرح. وكانت من أشهر الأغاني المغناة بإيقاع الطرق على الدواليب هي أغنية إبراهيم الكاشف التي تقول:
أذكر جلوسنا على الربا نستعرض أسراب الظبا ,, أبسم إليك تبسم معاي. .. تسمع غناي مع صوت الناي أنا يا مناي .. أنا طول حياتي أغني ليك.
كان الأداء الجماعي يردد بدلاٌ من نغمات الموسيقى المتخيّلة ( ليلا ليلا. لا لا لا)
كذلك أغنية لعثمان الشفيع التي تقول:
عزّ وصالي .. و ما لقيت له نصير .. يا النفيسة خصالك .. كيف يكون المصير
عازة. ... ليت لي يا عازة .. جناح يحاكي الطير. .. فوق شعاع الشمس .. الطلّ فوق الغدير
عازة ....
و من الأغاني التي قدمت في مسرح مدرسة حنتوب في اليوم المسرحي لداخلية ود عدلان في العام 1974/ مع أوركسترا كاملة، و الطالب المؤدي بكامل بدلته وجوقته الموسيقية( وهو صلاح أبوبكر، من ود النيل)، أغنية الشاعر محمد بشير عتيق والمطرب حسن عطية التي يقول بعضها:
هل تدري يا نعسان أنا طرفي ساهر ... جسمي إضمحل بغرامك وإنت زاهر
أنا حالي ظاهر .. عاشق نبيل ياجميل ليك حبي طاهر
وشاعر مجيد لغناك فنان وماهر .. بسحر دلالك وكرم خصالك
وعشان جمالك .. أهوى القمر والنيل و أهوى الأزاهر
ليلي ونهاري أنا لي حيَّك بهاجر .. أخذني نورك ياساحر المحاجر
حافظ عهودك وحياة خدودك يااللي هاجر
حسنك بديع ياوديع في عصره نادر.. بهوى القمر والنيل أهوى الأزاهر .
في العام 1975 رسم خلفية مسرح داخلية ود عدلان الأخ الفنان حسين أبوالريش (من قرية أبو الريش شرق النيل الازرق ، قبالة الحاج عبدالله) ورسمتُه في عام 1976م في الصالة بين معمل الفنون ومعمل العلوم. وفي العام 1977م عندما كنا في السنة الثالثة رسمه، الأخ الفنان الدكتور السر الطيب (عازف الكمان و كابتن كرة القدم وحريف كرة تنس الطاولة ولاعب كرة الطائرة). وقد يعرفني الذين درسوا في جامعة الخرطوم أني تعاطيت الخط العربي في الصحف الحائطية و شعارات الأنشطة الطلابية ورحلاتها التي تنطلق إلى أقاليم السودان. وأشهرها جمعية تطوير الريف السوداني) أين من عيني هاتيك المجالي؟.)
إلا أن في مجال الأغاني والموسيقي يصعب على الذين يعرفونني بأني لدي اهتمام بها. فاهتمامي بالأغاني سماعي. وفي كثير من الساعات التي أرسم فيها أو أذاكر فيها أو أعكف على إعداد جريدة حائطية تكون الخلفية هي إذاعة أم درمان، والتي ربما حملت لي صوت وموسيقى عثمان حسين.
الموسيقي وكل الأصوات والأنغام تشكل عندي و ربما عند الكل ذاكرة ثرية. ومنها ما هو يشد المستمع، فالحزين منها يحزن، والمثير منها يثير. ولذلك السبب اتخذت كل الجيوش سلاحاً خاصًا بالموسيقي العسكرية، بغرض شحذ الهمم في حالات التعبئة، والترفيه في حالات الاستجمام. وموسيقي الجيش السودانية بمقطوعاتها المختلفة بما فيها مقطوعات إسماعيل عبدالمعين وأحمد زاهر مشهورة. وهي مقطوعات بنيت على كلمات ومعاني وأغاني شعبية سودانية، ربما منذ المهدية، مثل (يا عباد الله جيتو عشان الله، اتبعوا طريق المصطفي تسلمو يوم الوفا). وأشهر من ذلك مارش (دايم دايم الله. لا إله إلا الله) . ولقد أنشاء السيد عبدالرحمن المهدي تنظيم شباب الأنصار (راجع تاريخ الجزيرة أبا للأستاذ الطيب هارون، المحاضر بجامعة الإمام المهدي)، وكانت لديهم موسيقى القرب (جمع قًربة، وهو ما يعرف الانجليزية بالبايب ميوزيك Pipe Music). وقد اتخذت بعض الطرق الصوفية إيقاعات الطبول مع اصوات الرنين الذي يصدر عن أقراص نحاسية والكشكوش المصاحب.
نشأتُ في البادية يا أبنائي في وسط السودان، بهذا البعد كدتُ أن أكون الذي قال (عيون المها بين الرصافة والجسر). وتنقلت ُفي السودان شرقه وغربه وشماله وجنوبه. فكل أنغام الطبيعة التي سمعتها حاضرة في ذاكرتي. من أصوات الحيوانات والطيور والآلات التي استخدمها الإنسان. أصواتهم، حديثهم وغناءهم وتخاطبهم بلهجاتهم أستطيع أن أستدعي أي منها، بل أحيانا يتم استدعاء الصوت عبر عملية التذكر بالترابط. وقد صحبتُ يوماً، عندما كنت مفتشا زراعيا بمؤسسة النيل الأبيض، مهندس الري المدني حسن مصطفى، في صيف عام 1986، لإحضار بلدوزر من منطقة الشور شمال كوستي، إلى مزرعة العباسية جنوب كوستي جنوب كوستي . كنّا نستغل عربة نيسان دفع رباعي زرقاء اللون، جديدة، وكان يصحبنا صوت مبارك حسن بركات بمصاحبة الكمان، وأغنياته المشهورة (صدر المحافل، لحظك الجراح، ، صباح النور عليك يا زهور و أغنية خلي العيش حرام).
هل هناك مركز للذاكرة خاص بالأصوات؟ لا شك أن الاجابة ستكون نعم، كما هناك التذكر بالروائح أي بحاسة الشم وبقية الحواس الأخرى. هل يستطيع السوداني التعرف على رائحة البصلة الكشنة ورائحة الآبريه (الحلومر) و رائحة الدعاش والريحة الناشفة السودانية؟ أستطيع أن ادعي أني استطيع التعرف على رائحة فليل دامور و رائحة الريفدور،أحياناَ حتى لو كانت مركبة ومخلوطة مع أخرى. فقد كان العطر في مجتمعنا يقدم في احتفال العيد لكل زائر. يعطى للكبار لأخذ كفايتهم منه، أما الصغار فيتم تنقيطه عل رؤؤسهم وحول أعناقهم، هذا قبل البخاخ (الرزاز). فمنذ ذلك الحين المبكر تعرفت على العطور المستخدمة. كان هناك عطر استخدم في الاعياد اسمه مس هيلين له رائحة العيد. أما الفليل (فلور دامور) فاستطيع تمييزه في النور أو في الظلام على انفراد او وسط الزحام. إذ أذكره منذ أن رشته إحدى النساء على الجميع في حلقة الظار (أو الزار) لست أدر. التي كانت تقيمها بت الشاويش، وكان ذلك في نهار أحد أيام حياتنا الباكرة، وقد قدمنا من المدرسة، ولم نضع حقائبنا بعد، إذ عرفنا أن هناك حلقة للظار بصوت طبل وأغاني لأول مرة نسمع بها ونراها، أثارت فضولنا، فذهبنا وكانت رائحة فليل دامور قد رشت للتو. التقطت يداي زجاجة العطر الفارغة واحتفظت بها لبعض الوقت . فسجلتها خياشيمي في الذاكرة الصلبة، التي لم تتعرض وقتها لأي نوع من الملوثات وحفظتها ذاكرتي. والخُمرة (بضم الخاء) لا بد أنها في ذاكرة السودانيين من لدن السلطنة الزرقاء فقد وثّق لها كاتب الشونة في سيرة الشيح بادي ود رجب .
قد ذكرت أغاني سودانية عديدة أسماء العطور و روائح الأشياء، مثل المايقوما (أبو ريحة معدومة)، فليل دمور ( فلور دا مور أو زهرة الحب باللغة الفرنسية) والريف دور (و أغنية للنور الجيلاني تذكر نفحة الريف دور)، و بنت السودان والباترا رائحة الدعاش ورائحة التراب والطين والبرم (بفتح الباء والراء معا). لذاكرة الأصوات، عندما يغني العاقب محمد حسن (غني يا قمري، غني واسمعني)، فإني أتذكر مرابع البادية، تحديدا في الخيران في فترة ما بعد الخريف و يكون القمري وقتها في أسعد أوقاته. عندما يغني أحمد الجابري البلوم في فرعه غنى طرانا للحبان أهلنا، يكون وقتها كأني أمتطي قمر صناعي يصور الارض شمالي سنجة ، فيظهر لي درب الخدار (الخضار)، درب ضيق بين الأشجار خاص يسلكه زارعي الخضر باكرا من الجروف للسوق بين قرية دريبو و قرية زينوبة، شمال مدينة سنجة إلى سوق ام شوكة وحول الطريق بعض أشجار السدر، الهجليج والطلح وعندما نعبره في الصباح في طريقنا للجروف نجد بلومات (جمع بلومة في لون القمري لكنها اصغر حجماً). تتحرك البلومات في قارعة الطريق، لتلتقط بعض الحبوب وتترك أثرها على رمل الطريق الناعمة، عندما يقترب منها أحد تطير وتجثم على اقرب غصن وتصدر صوتا شجيا.
و في أيام البادية بعض الفنانين الشعبيين يعزفون مقطوعات بأسمائها المحلية على المزمار (الزمبارة أو الزمارة) مثل ما يعزف برعي محمد دفع الله وعبدالطيف خضر وحافظ عبدالرحمن مقطوعات الأيام الخالدة ومرافيء وملامي وغيرها. تلك المقطوعات الشعبية لها أسماءها أيضا من الحياة والبيئة المتعلقة بالرعي والترحال وندرة المياه والمعاناة. مثل مقطوعة القرد العطشان، البقرة الضالع، يا بخيت الزول زولنا.
كان اسماعيل عبدالمعين رحمه الله رائداً في البحث عن الموسيقى الشعبية، من يا ترى خلفه. هناك مقطوعة في الاذاعة السودانية كان يقدم بها برنامج ما يطلبه المستمعون مشهورة لواحد من كبار العازفين يترجمها البعض لكلمات تقول (سيد اللبن جا يا نفيسة) و مقطوعة أخرى يقدم بها برنامج سمر البوادي تؤدي بالكمان وحده (هي وصلة لإلقاء شعر الدوبيت) ومقطوعة من أرض المحنة ومن قلب الجزيرة (وصلة موسيقية لأغنية محمد مسكين (أبو سريع)، المشهورة.
أما أصوات الحياة ومنها صوت وابور المياه على النيل وصوت طائرة رش المحصول وصوت أحد اللواري وقد توحل في طين في موسم المطر وصوت العربة اللاندروفر ورائحتها فتلك أصوات متعلقة بزراعة القطن في منطقتي. وقد تكرر لدي صوت الوابور وأنا أعمل مفتشاً بمؤسسة النيل الأبيض الزراعية، إذ كنت مديراً لمزرعة العباسية، جنوب كوستي. طلمبة المياه التي تديرها ماكينة البلاكستون القوية، تبعد عن مكتبي نحو خمسين مترا، وتشكل خلفية صوتية قوية وثابتة، طيلة يومي العملي، تذكرني بإيقاع أغنية نحن العالم التي برزت في منتصف ثمانينيات القرن العشرين عقب موجة الجفاف. صوت بوري البص الثلاثي، خاصة وأصوات اللواري الاوستن والبدفورد وقد تفنن السائقون في وضع كوز (يقوم سائقو اللواري ومساعديهم بربط علبة فارغة في حجم علبة لبن البدرة 400جرام خلف المروحة، فتحدث العلبة صوتا ذا نغمة خاصة يطرب لها الناس مستخدمي اللواري في تلك الأيام، كما يتميز صوت اللوري ذلك حسب فنيات وضع تلك العلبة). صوت اللواري يثير لدي ذكريات موسم حصاد الذرة والبطيخ عندما يستأجر المزارعون في بحيرة خزان سنار الممتدة حتى أم شوكة والسوكي، عندما يستأجرون اللواري لنقل محصول الذرة والتي ربما يصل اللوري ليلاً، فيوقظ صوته الناس، واللواري شاحنة البطيخ والتي تصدر من الجروف في منطقة سنار عصراً لتصبح باكراً في سوق الخضر المركزي بالخرطوم. كانت تتخذ اللواري في نقل سيرة العريس ويفضل اللوري الذي لديه كوز، فكم كان يتفنن السائقون في عزف موسيقى الكوز بالانتقال بسرعة من ترس تقيل (نمرة اتنين إلى نمرة ثلاثة) بصورة مفاجئة هذا بعد تكرار الضغط على دواسة الوقود في نمرة أتنين، قد يجاوبه صوت من صبي يراقب و يطرب ليقول (ارفع) ثم يأتي الانتقال السريع لنمرة ثلاثة، ثم الرجوع مرة أخرى لنمرة اتنين. كان فَضُل سائق لوري عمّنا محمد همزة (حمزة) كان أكثر من يبدع في عزف السايرين، وكان الناس يفضلونه لنقل السيرة. يكتب فضل في اللوري كلمة المسالم ، ثم ينتقل للوري أخر يكتب عليه المسالم 2، ثم ينتقل لثالث فيكتب عليه المسالم 3، ثم ينتقل مرة أخري ليكتب (المسالم ربك عالم). كم كان الصغار يقلدون اصوات اللواري، خاصة عندما يرسل الواحد للدكان أو لمكان ما ويطلب منه سرعة الحضور، ليجري في الارض كأنه ماكينة. أصوات البهائم صغارها وكبارها من الأبقار والضأن والماعز. بل نميز بعضها ونعرفه تحديدا بصوته، فقد وجدنا التقليد أن يعطى لكل حيوان اسم يخصه، رغم أننا لا نكتب تلك الأسماء مثل الخواجات ومثل ما هو معروف لخيول السبق. فعندما تثغو شاة أو تيعر (تجعر) بقرة نعرفها باسمها خلف الأشجار أو بالليل. أذكر يوما جئنا بعد أن أنجزنا حلب أبقارنا، التي نتخذ لها حظائر خارج الحلة في الخريف على بعد كيلومتر أو نحو ذلك. وكانت بقرة من أبقارنا تيعر، عندما وصلنا البيت وكان ابي الحاج عبدالله يتوضأ للعشاء، سألنا ما بال البقرة فلانة (سماها باسمها)، أجبناه أن عجلها لم يكن موجودا، بحثنا عنه في الحظائر الأخرى و وجدناه.
أما أصوات الناس فاذكرها حدتها وبحتها وغلظها. بل أن أغنية تقديم برنامج حقيبة الفن التي تقول (جلسن شوف يا حلاتن، الناعسات كاحلاتن) يا إلهي كيف يكتب التنوين هنا. دعه، قد لا يقرأ إلا هكذا. بين صوت المطرب الأساسي وأصوات الكورال وصوت الإيقاع، هذا مع ذاكرة أن البرنامج ظل يقدم في الحادية عشرة صباحا يوم الجمعة أسبوعيا منذ أكثر من أربعين سنة وتقدم فيه أغاني سودانية شهيرة منذ فترة الأربعينيات والخمسينيات في القرن العشرين. وقد شكلت موسيقى ذلك البرنامج خلفية صوتية في سوق القرية، إذ كنا نذهب للحلاقة أيام الجمعة في سوق ام شوكة، ننتظر بعضنا في دكان الحلاق الذي يميزه الراديو.
ومن الأصوات ذات البحة المميزة صوت المطرب عوض الكريم عبدالله، وبالطبع بزيه السوداني (أحياناً لبسة على الله) وشلوخه السودانية، ومن أغنياته الشهيرة للشاعر محمد بشير عتيق . كيف يصنع عتيق من الصحارى حدائق غناء، ومن الغبار غمام و ندى ومن الصيف ربيع :
في رونق الصبح البديع قوم يا حمام واسمعني الحان الربيع
قوم يا حمام حيّ الغمامانا لي فيك شوق واهتمام
اسمعني من شدوك صدى ها هو دا الربيع أقبل بدا
وعلى الرياض مرّت يدا وشاها بي قطر الندى
صحت الورود في كل روض وتبسم الزهر البديع
ها هي الطبيعة الكون تحلى بمنظراللعالمين سافرة بأحلى مناظرا
من روضة تغني لناظره ، أطيارا عاشقة أزاهرا
هي والنسيم في مناظرة ترسل حقائق وجوهر
هي نزهة بل ، هي آية من صنع البديع
وبالأختصار هو حسن صار فوق الجميع.
وهذه قد غناها المطرب عمر احساس في حفلة السفارة والجالية بنيروبي في وداع أخينا خصر دالوم لانتقاله إلى مقر عمله في لندن في العام 2008.
كذلك يتعلق بذاكرتي صوت المطرب عثمان الشفيع في أغنية يقول مقطع منها (لحن الحياة منك، ما تقول نسيت الماضي نحن ناسينك)، من أين يا ترى تأتي القدرة على صياغة هذه الألحان العجيبة ! ومثل ذلك أغنية صالح الضي التي اتخذت شعاراً لبرنامج التواصل الاجتماعي ( مراسي الشوق): يا طير يا ماشي لي اهلنا ، بسراع وصل رسائلنا. والشوق ما تنسى يا طائر لكل البسألك عنّا.. هذه أغنية لا يحسها إلا السودانيون.
و أتفاعل مع صوت الدوبيت مثل:
الخبر الأكيد .. قالو البطانة اترشت، سارية تبقبق حتى النهار ما انفشت هاج فحل أم صريصر والمنايح بشتوبت أم ساق على حدب الفريق اتعشت.
إذ يجعلني في حالة وجدانية أخرى، مع مشهد فصل الرشاش (مطلع الخريف) عندما تجد الحيوانات العشب في بداية الموسم، ويقول الناس عندها (البهايم اتعشت تب)، أي وجدت الحيوانات كفايتها من المرعى الجديد. وتحديداً في هذه الحالة اذكر مطرة وقت الظهيرة التي تشرق الشمس بعدها في الأصيل و الأرض مبتلة. هذه لعمري لغة تحتاج إلى شرح و توثيق للأجيال الحديثة التي فتحت أعينها وآذانها على الهاي فاي والساوند سيستم وأغاني الروك والجاز والراب والسامبا التي يتجاوز تلويثها للبيئة تلويث الطائرات التي تفوق سرعة الصوت، وسماعات البلوتوث. وعلى لغات هجينة من لغة الراندوك والروك اند روك. فجيلنا لا تساوي عنده الرومبا ولا السومبا ولا رقصة الهنود الحمر حول النار ها هي ها أي شيء.
أذكر صوت الرياح في شبابيك سنة أولى في مدرسة دريبو (مدرسة المسبعات الصغرى) شمالي سنجة عبر أسلاك النملي، وصوت ناس (تانية) يرددون في حصة العربي:
انظر أخي للنهر فيه المياه تجري، تجري على استمرار، بالليل والنهار،
وكلما أمر أسمعها تخر، كأنها تغن بنغم و لحن،
فهي لنا حياة، من خيرها نقتات.
وقد كنّا ننظر حقيقة لنهر النيل الأزرق الذي لا يبعد من ذلك الفصل أكثر من ثلاثمائة متر وليس بينه وبين التلاميذ حجاب، بل ننظر للضفة الشرقية التي تطالعنا منها مدرسة تريرة مدني الصغرى أيضا.
أما الأصوات التي تثير وتغذي الروح أصوات المؤذنين وتلاوة القرآن، صوت المؤذن المشهور في سنجة محمود الزين، قد بثته الإذاعة القومية لبعض الوقت، وصوت المقرئ الشيخ عوض عمر الإمام، اختفى من الإذاعة والمقرئ صديق أحمد حمدون وصوت المفتي عوض صالح في برنامج خاص قبل صلاة الجمعة، وصوت أبي وهو يدندن بالراتب صباحا (أدعية مأثورة جمعت فيما يعرف براتب المهدي). وصوت بروفسور عبدالله الطيب في تفسير القرآن الكريم . و أصوات المادحين (شوقك شوى الضمير بطراك مناي أطير) أو () و غيرها وغيرها. لكن تظل تكبيرة صلاة العيد الجماعية لها وقعها الخاص الله أكبر.. الله أكبر .. الله أكبر .. لا إله إلا الله.. الله أكبر.. الله أكبر .. لا إله إلا الله). الآن أحرص أن أحد مكاني , أن أردد ليردد وراي الناس فيصلاة العيد. و عندما تفوتني أحس بالاسى.
بطبيعة الحال استمع للأغاني وأولها كانت أغاني مناسبات الأفراح كانت تؤديها البنات على إيقاع الدلوكة، كذلك الحكامات (مغنيات يؤدين الغناء الشعبي). ثم كان مصدر أساسي هو إذاعة ام درمان و أطرب لها. كان الراديو لا يغلق ليلاً ونهاراً إلا عند انتهاء البث في الثانية عشر منتصف الليل أو حداداً لموت أحد، ثم يفتح في الصباح الباكر لسماع ابتهالات الصباح (لك يارب صلاتي و دعاء في سجودي . الله)لمجموعة عبد الماجد خليفة) ثم نشرة السادسة والنصف مع الشاي في الضرا. إذ كان الناس يجتمعون لشرب الشاي من كل بيت براد شاي لبن (قل أهله أم كثروا). وعندما يكون هناك ضيفًا تخرج صحون الزلابية في صحبة براريد شاي اللبن. أما الشاي السادة فيتم شربه في الصباح بواسطة الكبار فقط، كباية شاي سادة قبل كباية شاي اللبن. الغريب أن القهوة تشرب في منتصف النهار بعدما تكرب الضحوة ( يرتفع الضحى) بواسطة الكبار فقط.
وللراديو أوقات دقيقة لا يفارقه فيها الناس. ذلك في أوقات الحروب والانقلابات، ومنها حرب تموز 1967، والإنقلاب الشهير الذي عرف بانقلاب هاشم العطا في يوليو عام واحد وسبعين وتسعمائة وألف، وأثناء نقل مباريات لكرة القدم، وأشهر مباراة حضرتها على الراديو كانت بين فريقي الهلال السوداني وفريق المحلة الكبرى المصري في السبعينيات وانتهت لصالح المحلة بضربات الجزاء في مباراة الرد. ثم نشرة الثامنة مساءا للاستماع لأخبار الوفيات. كذلك عند إذاعة الكشوفات الموحدة للضباط الإداريين والأطباء ومحافظي الغابات و البياطرة والزراعيين (كانت المؤسسة العامة للإنتاج الزراعي تنقل منسوبيها بين طوكر جبال النوبة، بين الشمالية وأقدي، بين جبل مرة وحلفا الجديدة)، فكم سمعنا أسماء موظفي الدولة ينتقلون بين الشرق والغرب والشمال والجنوب. كذلك الطلبة المقبولين في الثانويات والجامعات. وقد سمعت اسمي لذلك الغرض مرتين، مرة عندما سمعته (أسماء الطلبة المقبولين بمدرسة حنتوب الثانوية، الصادق عبدالله عبدالله، سنجة الثانوية العامة واحد (كانت هي سنجة الأميرية الوسطى). ثم مرة أخرى : إليكم أسماء الطلبة المقبولين بكلية الزراعة بجامعة الخرطوم، هذا كان في يونيو 1977م.
ولضمان استمرارية الراديو، كان يحتفظ ببطاريات إضافية أو يستفاد من بطاريات البطارية (المصباح). كانت تأسرني وأنا صغير لدرجة البكاء أغاني النعام آدم، في برنامج ربوع السودان. فأداري وجهي بعيداً أو أنصرف تماماً وأطرب لأغاني صديق عباس من بادية كردفان ( الزول أب سناً فضة ما لو السلام ما برده)، كما أطرب لأغاني آدم شاش (جبنا بي فنجالة في ضل الضحوية)، وزكي عبدالكريم وأغنية أحمد عمر الرباطابي التي يقدم بها برنامج الربوع نفسه من أم در يا ربوع سودانا نحييك إنت كل آمالنا. هذا بعد أن تغير شعار البرنامج (من أم در وللعاصمة راح نزور الأقاليم ديل). لكني ما حفظتُ منها أبدا أغنية. وأكاد أعرف أصوات كل الفنانين السودانيين وقتها، إلا أن صغار الفنانيين توقفت ذاكرتي عند شيخهم الفنان الهادي الجبل. وصوت أي فنان أحسه بصمة قائمة بذاتها، إلا أني أجد تقاربا يصعب على أحيانا التمييز (إلا بمساعدة صديق) بين أصوات بعض الفنانين الكبار(عبدالدافع عثمان، الخير عثمان، ود المقرن، التاج مصطفى ورمضان حسن، عبدالحميد يوسف) ولقد ذكر العاقب محمد حسن أن أحد مقدمي البرنامج في الإذاعة قال له أن غناءه يشبه غناء أحمد المصطفى و من ذلك الحين نحا أسلوبه المميز الذي عرف به (نحن اتلاقينا مرة، هذه الصخرة، غني يا قمري).
أرجو أن يعمل المهتمون لتصنيف أصوات وأداء الفنانين السودانيين في شكل مجموعات. أثق تماما بأن من يفعل ذلك سيضيف ثراء للثقافة السودانية. فهناك بصمة عبدالعزيز داوود، وبصمة فنان الحقيبة أحمد الطيب، بصمة ابن البادية، سيد خليفة، الكابلي، محمد الأمين، محمد وردي، ابراهيم خوجلي، النور الجيلاني، خليل إسماعيل، أحمد المصطفى، صلاح مصطفى، عثمان مصطفى، مصطفى سيد أحمد، أحمد الجابري، إبراهيم الكاشف، شرحبيل أحمد، خضر بشير، زيدان إبراهيم، والمادحون أولاد حاج الماحي، حاج (شوقك شوى الضمير بطراك مناي أطير) التوم من الله، السماني أحمد عالم (يا راحلين إلى منى)، المنشد الشيخ عبدالسلام، الشيخ عبدالله الحبر (و كل معروضات أدب المدائح). وربوع السودان وما يطلبه المستمعون وساعة سمر وسمر المدينة وأغاني العيد وأغاني الصباح و الأغاني الوطنية. والمقرئين عوض عمر، صديق أحمد حمدون، الشيخ وراق.
أما عن البصمة اللحنية، فقد سمعت مرة عثمان مصطفي يغني أغنية مسماة اشتياق، (والله مشتاقين) كان ذلك في سوريا في شتاء عام تسعة وتسعين. فعلقت لصديقي إدريس محمد أحمد أن عثمان مصطفى يغني مثلما يغني وردي! قال لي هذه الأغنية من ألحان وردي وغناها عثمان مصطفى. فلكل فنان بصمته (التي لا تعني الصوت فقط) لكنه الصوت واللحن والإيقاع والموسيقى والكلمات. وقد ذكر المطرب حمد الريح أن أغنيته (الرحيل) لحنها ابن البادية، وهي تشبه بصمة ابن البادية اللحنية. أما أغنية سيد خليفة من شعر إدريس جماع التي تسمى أنشودة الجن، فقد غناها الكثيرون من إثيوبيين وصينيين، لكنها احتفظت ببصمة سيد خليفة.
قصدت بذكرى بعض الفنانين و بعض البرامج أن استثير ذاكرة السماع لدى القارئي. ومن قصص ذكريات البصمة السودانية في الأغاني ما ذكره السيد حساس محمد حساس في سهول ألاسكا غرب كندا، في دراساته من الحيوانات البرية والوعول القطبية ، يذهب بعيداً مع صوت ابي داوود : غزال البر يا راحلْ . حرامٌمن بعدك الساحلْ .. أعاني عذابِي الهائل
أخذ منّي الفؤاد مأخذ .. ونالْ منّيالهوى نائلْ .. غزال البر يا راحلْ.
وأذكر في حصة الأعمال في سنة ثالثة أولية أو صغرى، ذهبنا للبحر(النيل الأزرق) وأحضرنا مادتنا من طين لأغراض الحصة، ذلك في صحبة أستاذ يدعى الصادق بدري، وقد ذهب الأستاذ للفصل ثم عاد إلى الشجرة التي نزاول في ظلها درسنا من أعمال التصميم (بالطين)، وكان ابن خالي (أحمد علي العبيد) يدندن بينما يزاول معالجة المادة التي بين يديه يردد (يالدر الما ليك تمن) و هو جزء من مقطع أغنية تقول:
أقيس محاسنك بمن، يالدر الماليك تمن و الله نور عيني ونور الزمن
ليسأل الأستاذ (مين البقول الدر الما ليك تمن؟) نسكت و لم يكرر الأستاذ سؤاله. كما قد شد انتباهي صوت مهندس سوداني من ام روابة يدعى بلة، كان يعمل في مشروع التنل تشانل (النفق تحت القنال الانجليزي) بين فرنسا وانجلترا في ساحل دوفر جنوب شرق انجلترا عام 1990 عندما كان يدندن:زولي السرب سربة .. وخلا الجبال غربه،.. أدوني لي شربة.. خليني نقص دربه
أما عثمان حسين، لا أذكر متى وجد طريقه لذاكرتي أول مرة. لكن أذكر مقولة أخي وصديقي الدبلوماسي السفير محمود فضل عبد الرسول، عندما تعرف عليّ لأول مرة، قال أذكر كنتم تنزلون أمامي من غرفتكم المجاورة لي في داخلية أركويت بمجمع كليتي الزراعة والبيطرة بشمبات (جامعة الخرطوم)، و أنتم تتحدثون عن عثمان حسين، هذا بعد آذان العشاء في إحدى ليالي عام 1979، وقد قابلتك ذلك العشاء في المسجد (كان المسجد جزء من قاعة الطعام المجاورة لداخليتي سنار والنيل). كانت داخليات مجمع كليتي الزراعة و البيطرة و قتها تسمى على مراكز البحوث الزراعية والمناطق الزراعية المشهورة (النشيشيبة، أم بنين، الغزالة جاوزت، الحديبة، مدني، سنار .
عثمان حسين موسيقى صوته يمكن تمييزها في الأداء الكورالي الذي اشترك فيه مع المطربين الكبار في أنشودة صه يا كنار و ضع يمينك في يدي. وبصمة صوته واضحة في أغنية تغناها في ثنائية مع الحويج (كلمة منك حلوة، كنت مستنيها، بالأمل و السلوى من زمان راجيها). بصمة صوت عثمان واضحة في كل أغنياته و على رأسها النجم والمساء، الدرب الأخضر، وأغانيه الخاصة بالشاعر عوض أحمد خليفة و أشهرها ربيع الدنيا
يا ربيع الدنيا، يا عيني، يا نور قلبي، يا معنى الجمال .. السر دوليب: مسامحك يا حبيبي مهما قسيت عليَّ .. قلبك عارفه أبيض وكلك حسن نية.
عثمان حسين له مثل الآخرين بصمته الخاصة به. ظهرت في أغنياته الخفيفة منها والتقيلة. ومنها أغنية عاهدتني للشاعر بازرعة، تظهر فيها قدرة عثمان في الغناء المنفرد و تحريك الكورال خلفه، والقدرة على إحداث نهايات حادة، لا أدري ماذا يسميها الموسيقيون، خاصة عند نهاية المقطع (أسألك)، (حوّلك) لتصمت كل الآلات الموسيقية، ثم يدخل الكمان منفرداً، ثم تنطلق حناجر العازفين خلفه في لزمة إيقاعية صوتية تردد (عاهدتني)
وقد قرأت في كتاب البروفسور الفاتح الطاهر (تاريخ الموسيقى السودانية ) أنه عندما ظهر عثمان حسين وجدا هجوماً في أسلوبه الجديد الذي اختلف فيه عن سابقيه، إذ أنه للمقطوعة الموسيقية لكل أغنية لدى عثمان حسين تتكامل مع الأداء اللحني مختلف، خرج عن نمط المقطوعة التي تكرر اللحن البشري عبر الآلات الموسيقية. لكن عثمان حسين فرض نفسه بواسطة جمهور المستمعين في الجامعة و المسرح القومي. ولقد سمعت إحدى المذيعات تقول أنها تعرضت للعقاب مرارا في بتقديمها لأغاني عثمان حسين مرارا خلال اليوم.
قبل منتصف التسعينات استمعت سهرة تحدث فيها الشاعر السر دوليب عن عثمان حسين، وكيف أنهم في مدرسة وادي سيدنا وهم طلاب في الثانوية أنشأوا جمعية معجبي عثمان حسين، وكيف زار السر دوليب عثمان حسين ليبدى له إعجابه ويقدم له بعض الأشعار، فيلحنها عثمان و تصبح من رصيد أغنياته الشهيرة، ومن ذلك الحين يسلك السر دوليب مع عثمان حسين الدرب. ويقدم محمد يوسف موسى الدرب الأخضر (تهيم خطواتي نشوانة تعانق دربك الأخضر). وفي هذه الأغنية هناك آلة الفلوت تفرض نفسها في موسيقاها، بينما في أغنية عثمان حسين مالي والهوي فآلة الكمان تقطع النفس (تقطع نفس خيل القصايد!! كما يغني مصطفى سيد أحمد ومن قبله الشاعر ربما لبشرى الفاضل! ومصطفى هو الآخر يحير المستمع ويدهشه، كيف يا ترى يختار أغانيه!!.
بعد سنوات عديدة من ذلك يجمعني أحد المشاوير مع د.عبدالقادر محمد عبدالقادر مدير هيئة المواصفات في وفد حكومي إلى ليبيا، ويجري الحديث عن المواصفات التي ستطال حتى الأغاني، فإذا بدكتور عبدالقادر يقول بأن الأغنية التي يمكن أن تكون استوفت شروط المواصفات كلمات ولحن وتوزيع و أداء بجدارة هي أغنية عثمان حسين لبازرعة (أنا والنجم والمساء ضمنا الوجد والحنين)، وأحسب أن دكتور عبدالقادر وقتها يتحدث باعتباره من معجبي عثمان حسين، أكثر منه رجل مواصفات. ومن المقاطع الموسيقية المجردة التي فرضت نفسها على المستمع السوداني زمنا طويلا ذلك المقطع الذي تستفتح به الإذاعة أجهزتها لاختبارها قبل البث، يتم عرضه في الصباح قبل الخامسة صباحا، هو عبارة عن الوصلة الموسيقية لأغنية عثمان حسين (الفراش الحائر)، لو كنت أعرف حروفها الموسيقية لكتبتها هنا)، ثم الموسيقى التي تصاحب أغنيته الدرب الأخضر.
ذاكرة الأصوات تغذيها الأغنيات الوطنية، كانت غزارة إنتاجها في وقت الاستقلال مثل أغاني العطبراوي (يا غريب و أنا سوداني و أغنية محي الدين فارس التي غناها العطبراوي، والتي تحكي حياة المستعمر و اهانته للشعوب (لن أحيد، لست رعديداً يكبل خطوه ثقل الحديد) وأغنية الكاشف أنا افريقي أنا سوداني، ثم أغنية الاستقلال لوردي و شاعرها عبدالواحد عبدالله. و أغنية للحرية كانت تردد في الستينات يذكر فيها شهداء كرري، لا أذكرها بصوت من هي (لم تعد تردد لاحقاً). ومن الأغاني الوطنية الشهيرة أغنية واجب الأوطان لحن اسماعيل عبدالمعين و أداء فرقة البساتين (ما أدري ما هي فرقة البساتين)،:
واجب الأوطان داعينا، نعمل ليل نهار .. ونبذل كل مساعينا،
نحن الحزم رائدنا ... والإخلاص مبادينا
فالذي يسمعها سيهم بالوقوف إن كان جالساً. وهناك أغاني قبل الاستقلال مثل أغنية يوسف مصطفى التني بلحن الحقيبة والتي فيها:
في الفؤاد ترعاه العناية .. بين ضلوعي الوطن العزيز،
ما بخاف الموت المكشر .. وما بخُشْ مدرسة المبشر،
يسلم معهد وطني العزيز
وهي كأنها مصاغة لحنجرة فنان الحقيبة بادي محمد الطيب. والأغاني التي صاحبت الجيش الذي شارك في معارك خارج الوطن (يجو عايدين يالله.)،جاهل صغير يا حمامة يوم لبسوه الكمامة .. ودّوهه خشم القربة يا رب عودة سلامة. كانت أغنية للذاهبين لمقاومة الطليان في الشرق. ثم جاءت الأغاني الوطنية الاكتوبرية وكان على قمتها الملحمة، ثنائية محمد الأمين و هاشم صديق، و قد حكى هاشم صديق قصتها باستفاضة:
لما الليل الظالم طول .. فجر النور من عينا اتحول،
قلنا نعيد، قلنا نعيد الماضي الأول .. ماضي جدودنا الهزموا الباغي،
هدوا قلاع الظلم الطوّل.
وما صاحب الملحمة من موسيقي ثائرة. تستحق الملحمة أن توزع و يعاد توزيعها الموسيقي لتناسب الثورة العربية في الشرق و الغرب. وأغاني وردي في أكتوبر (أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق. التقى جيل البطولات بجيل التضحيات
وأغنية الكابلي الشهيرة:هبت الخرطوم في جنح الدجى
والتقينا في طريق الجامعة..
وأغنية تقول :الثورة ثورة شعب والشعب شعب الثورة،.. جبار و صانع عزة
وكل الشعوب الحرة. :نتث أسمعها جبار وصانع عدة!!!!
في فترة ثورة مايو كان إنتاج الأغاني الوطنية فيها غزيرا يمجد تلك الحقبة، شارك فيها كثير من كبار الفنانين، كانت ذات ألحان وكلمات حماسية، وهي لا شك إنتاج سوداني أصيل لا مبرر لاندثارها دون التوثيق لها. منها أغنية جيتنا وفيك ملامحنا، بعد يا مايو ما يئسنا بسمع ليك تحدثنا ونرجع ليك توصينا بصوت محمد وردي، ومنها مايو اتولد، دقوا الطبول ظهرت مصانع في البلد، يا مايو عزيز زي أمي وأبوي زي أختي و أخوي. الأخيرة بصوت ثنائي و كورال من الصغار ( من هم اولئك الصغار بالامس؟). وهناك أغاني مباشرة تمجد الرئيس نميري (تسلم يا دراج المحن، جبت الري للعطاشا والمريض بقيته طيب)، حبيب الشعب يا نميري أمل الشعب يا نميري (رحمه الله رحمة واسعة).
من الأغاني الوطنية الخالدة وامتدت طوال الفترة هي أغنية عازة في هواك لخليل فرح و معلوم أن أغنية عازة يبدأ بها الذين يودون تعلم العزف، خاصة الأكورديون و الهارموني. لا يزال يتردد صداها في صالة الموسيقي بمدرسة حنتوب و الصول كامل (كامل الأوصاف)، وساكسفون الطالب جمال عيسى زايد. وقد سمعتها ضمن إحدى المقطوعات الإثيوبية في فندق اكسوم بالعاصمة أديس أبابا ضمن موسيقى المطعم الملحق بالفندق في عام 2011. هناك أغنية فتاة الوطن شاعرها صديق مدثر لأحمد المصطفى. ومن الاغاني الوطنية أغنية جدودنا زمان وصونا على الوطن ثم أغنية أمة الأمجاد (ارتبطت بفترة مايو إلا أنها أغنية ذات صلاحية مفتوحة). وأغنية لوردي تقول: حين خط المجد في الأرض دروبه، بعزم ترهاقا وإيمان العروبة. و أغنية التعاون في خدمة الشعب للدكتور الكابلي (لن يصيب المجد كف واحد، نبلغ المجد إذا ضمت كفوف، وأغنيته الشهيرة للفتاة: أي صوت في زار بالأمس خيالي، وأشاع النور في سود الليالي إنه صوتي أنا زاده العلم سناء. كما أن هناك أغنيات وطنية شهيرة لأبو عركي البخيت ذات صلاحية مفتوحة لم تجد حظها في البث في السنين الأخيرة هي أغنية المسئولية وأغنية قومي من بدري ودعي الخدر.
لعثمان حسين أغنية وطنية شهيرة فيها (أفديك بالروح يا موطني . نحن الفداء جنود الردى، نعيش عليها ونحيا لها، ونحمي حماها .. )،
أما أغنية النيل للتجاني يوسف بشير التي غناها عثمان بسيفونية (تقول لبتهوفن أقعد هنا)، تقول بعض ابياتها:
أنت يا نيل يا سليل الفراديسنبيل موفق فيمسابك
ملء أوفاضك الجمال فمرحى بالجلال المفيض من أنسابك
حضنتك الأملاكفي جنة الخلدورقّت على وضيء عبابك
فتحدرت في الزمان وأفرغت على الشرفة جنةمن رضابك
كيف استطاع يا ترى عثمان تلحين هذه القصيدة التي يصعب التكهن بلحن عند قراءتها، كيف استطاع عثمان أن يصنع لها موسيقى كمثل الشلال، وكيف ينشر الكلمات ببصمته على ذلك الشلال الموسيقي.
لا شك أن مثل هذا السرد الذي يعتمد على الذاكرة المجردة لا يستعرض إلا النذر اليسير. الذاكرة تمثل المخزون الثقافي الذي يتعارف به الناس. فالقناعة أن قراءة هذه القطعة الثقافية تثير ذاكرة الكثيرين من السودانيين، ولا يجد بعضهم إلا أن يردد (هيع. هيع، و الله كلام. ) لكن بدون أدنى شك أن الكثير منهم يستطيع أن يكتب مثلها و أحسن منها من مخزون ذاكرتهم.
الصادق عبدالله.
(انتانانا ريف-نيروبي، يونيو 2009، )
sadig abdalla [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.