اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالفيديو.. الرجل السودني الذي ظهر في مقطع مع الراقصة آية أفرو وهو يتغزل فيها يشكو من سخرية الجمهور : (ما تعرضت له من هجوم لم يتعرض له أهل بغداد في زمن التتار)    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائلُ "مختار السردار" السرية .. بقلم: جمَال مُحمّد ابراهيْم
نشر في سودانيل يوم 17 - 06 - 2013


رسائلُ "مختار السردار" السرية *. .
جمَال مُحمّد ابراهيْم
[email protected]
لم تكن رسائل "مختار السردار" لصديقه "براون"، رسائل عادية. ما شدّ انتباهي هو تلك اللغة الإنجليزية الرصينة والصافية التي كُتبت بها الرسائل. سودانيٌ يخاطب صديقه البريطاني، وقد بعدتْ بينهما المسافات، بما لم يُتح لهما أن يلتقيا عبر كل هذه السنوات الطويلة، والتي فاقت الثلاثين أو أكثر من الأعوام، إلّا عبر وريقات تسافر بين الشتيتين، شمالاً وجنوباً . جنوباً وشمالا ، وفي هذه الصياغة اللغويّة الباهرة.
درسنا التاريخ من كتبٍ معروفة في المدارس وفي الجامعات . كتب بعضها انجليز مثل ب. م. هولت . ونجت ونيوبولد وآركل. شوّام مثل نعوم شقير وإدوارد عطية . بعضها كتبه سودانيون : مكي شبيكة . سعيد القدال . أبو سليم . محمد عمر بشير . زلفو . يوسف فضل. كثيرون كثيرون الذين كتبوا . ما كنت أفتقده في هذه المراجع الأكاديمية، هو تلك اللمسة الإنسانية في قصص التاريخ. ذلك الخيط الحميم الذي لا يراه من يرى التاريخ سلسلة من المواقف . حزمة من الرؤى. وجهات نظر تتضارب . قرارات تناقض بعضها بعضا. مواجهات بين طرف وطرف. صراعات تدور بين أعداء كانوا من قبل أصدقاء، حتى تنعطف مسارات التاريخ، ولكن دون أن تنكسر. حكوا لنا في التاريخ أن هذا وطنٌ سليبٌ قاوم بألويته الزرقاء والسوداء والبيضاء، مستعمراً جاء بلبوسِ الرّحمة والحداثة في الظاهر، ولكنّه أضمر الطغيان الغاشم والاستغلال الكولونيالي البغيض. كيف لي أن أفهم التاريخ بضميرٍ حيّ يتجاوز المثالب، لا بضمير مسلوب يحسبها مناقبا ، فيما لا تتيح لنا المآزق سانحة لالتقاط أنفاسنا، فنستخلص النظام الغائب من الفوضى المُحدقة. . ؟
غير أنّي قرأتُ في رسائل السّوداني "مختار السردار" لصديقه "براون"، ما شدّني إلى استكناه طبيعة الأمور في السنوات التي سبقت نيل البلاد استقلالها في 1956، وسنوات الحُكم الوطني الأولى. لم أجد تلك الحِدّة في التفاعل، بين شخصين رأيتهما على نقائض واختلافات. بدا لي كلٌ ما جاء من "السردار" ومن "براون" ، وبرغم أنهما محض شخصين عاديين، كأنه صادر عن ممثلين كبيرين على خشبة مسرح ابتناه كولونياليون دهاة .
اشتطاط القوم وحماسهم في مقارعة قوى الإستعمار، كان طاغياً ، بحيث لم تكن الألوان تلوح بوضوح. كنت أتذكّر ما قرأت عن الحركة الوطنية السودانية وتحوّلاتها، قبيل نيل البلاد استقلالها ، وما جاء عن بروز تيارٍ خافت الصّوت في الخرطوم، لكنه جهير الرؤى ، نادى بإلحاق البلاد بمجموعة بلدان "الكمونولث"، تلك التي استقلت عن بريطانيا ، ولكنها احتفظت بشعرةٍ مثل شعرة معاوية ، أو هيَ شعرة قصر "بكنجهام": إستقلال كامل، ولكن تظلّ السيادة معقودة بيدِ اليزابيث الثانية.
الذي لاحظته، أن الصّوت المنادي بالحفاظ على هذه الشعرة، لم يبرح مساحة خفوته ، ثم لم نسمع به من بعد، ولم يرصده كتّاب التاريخ من أهل البلد. فيما أنا أطالع رسائل "مختارالسردار"، خطر ببالي ما تصوّرته احتمالاً بعيداً ، وهو أنْ يكون " السّردار" من اتباع هذا التيار . قلّبت نظري في الرسائل من جديد . سعيتُ لأن أقرأ ما وراء سطور الرجل ، مقاصده ، آماله ، تطلعاته ، ولكن لا شيئ دلّني بوضوح على وجهة سياسية لوّنت كتابته . أكثر همومه كانت حول أحوال هيئة السكك الحديدية ، واسترساله في سرد نواقصها، وتدهور نظامها بعد رحيل الإنجليز. لمس السياسة لمساً خفيفاً في بعض رسائله، لكنه لم يفصح بما يشي بمواقف قاطعة فيها .
كتب "مختار" ، في رسالة من رسائله العديدة، التي بعث بها إلى صديقه البريطاني "براون"، في أواسط سنوات الخمسينات من القرن العشرين:
( . . وما كنت أودّ أن أزعجك بوصف الحال الذي نحن عليه في هيئة السكك الحديدية. لقد جاءت "السّودنة" بوبالٍ كبير إذ تبوأ مناصب كبيرة فيها، نفر من الإداريين الذين عرفوا بضعف القدرات، بل وبضعف الشخصية إن أردت الصراحة . ولأنّ ال"إس آر" عرفت بالإنضباط ، فقد جرى تحويل عددٍ معتبرٍ من كوادرها الكبار إلى هيئات حكومية أخرى. ذهب بعضهم إلى وزارة الحكومات المحلية . آخرون إلى "وكالة الشئون الخاصة"، وقد غيّروا إسمها قبيل إعلان الإستقلال إلى "وزارة الخارجية ". بعضهم تم تعيينه سفيراً على الفور . آخرون انتدبوا لوزارة الداخلية والحكومات المحلية . . هكذا خسرتْ الإدارة عناصرها الصلبة، وبقي الضعفاء في مراكز قوّة . . ! بقي قليل من المقتدرين، وهم نفر قليل، يحاولون أن لا تفلت الأمور من سياقها المعتاد . ذلك السياق الذي ورثناه عنكم . . . .)
هذا كلامُ رجلٍ له نظرٌ عميقٌ في الذي يقع من حوله. لكن لا يخفي الرجلُ تعلقه بأساليب العمل التي رسّخ قواعدها بريطانيون، جاءت بهم حكومة "الحاكم العام" ذلك الذي عينته وزارة المستعمرات من لندن، واعتمده ملك في مصر ناقص النفوذ . يدهشني كلام مهنيّ صافٍ يصدر عن الرجل، فيما تمور الساحة في البلاد بتيارات حماسيّة ، ألهبت المشاعر بعد جلاء الانجليز . سألتُ نفسي : أليس في هذا الوفاء لصديقٍ انجليزي بعيد، ما يشي بميولٍ خفية تتودّد للإنجليز ، وإمّا جرى الإفصاح عنها، فقد تودي بصاحبها إلى تهلكة وخسران كبير. . ؟
كتبَ "السردار" في رسالة أخرى :
(. . . لقد افتقدت ما كنت تزوّدني به من مجلات وصحفٍ انجليزية وكُتُبٍ من سلسلة "بنجوين" المعروفة. كثيراً ما كنت أمرّ على "سودان بوكشُب"، مكتبة السودان ، فأجد فيها ما يسدّ حاجتي ، ولكنك تعرف الحال الذي نحن عليه بعد رحيل الإدارة البريطانية، خاصة في مجال الثقافة والتعليم. كل شيء ثمنه غالٍ حتى معينات التثاقف من كتب وصحف ومجلات . أما "دار الثقافة" ، فقد طال عهدي بها . كل شيء آخذ إلى تحوّل كبير . نحاول أن نفتح صفحة جديدة كبلد مستقل . لكن التباس علاقات السودان مع مصر، يكاد يشِلّ حراكنا السياسي والاجتماعي والثقافي في البلاد . . )
لم تعجبني بعض نصوص رسائل "مختار" لصديقه القديم "براون" ، بسبب اللغة المتحذلقة التي كتبت بها، وكأنّ كاتبها يريد أن يستعرض مقدرته في الكتابة بالانجليزية . ثم هالني الأسلوب الذي اتّسمَ بتعالٍ لافت، استهجنت صدوره عن سوداني . في تلك السنوات التي لم نشارك بحضورها ، ولا متابعتها، إلّا ممّا قرأنا في كتب التاريخ ، كانت الحركةُ الوطنية في أوجها، ولم تكن ثمّة تيارات تتعاطف علانيةً مع مصر، ناهيك عن التماهي مع المستعمر البريطاني . سودانيٌّ وطنيٌّ يُراسل إدارياً إنجليزياً كان في خدمة حكومة الاستعمار، لا تعكس خطاباته غير إعجابٍ وافتخار كبيرين بالرّجل الانجليزي، هكذا دون أن يراجعه ضميره فيوقظ مشاعر الوطنية النائمة في دواخله، لأمر يثير الريَبِ والشكوك. . أم أنّ ثمة منطق يفسر هذه المشاعر الطيبة تجاه رمز من رموز الاستعمار ، كبر وزنه أم قلّ. . ؟
من بين كثيرٍ من الألقاب التي كان من المتوقع أن يطلقها عليه أقرانه في إدارة السكك الحديدية، اختاروا له لقب "السّردار" ! مَن اطلقه على "مختار"، فقد لمسَ في الرجل شعوراً متماهياً مع الإنجليز الحاكمين، بان جليّاً في مظهره ربما، أو في مسلكه، أو ربما عبّر به بلسانٍ فصيح. . لم يكن "مختار السردار"، على جبنٍ، فيداري مواقفه التي تباينتْ مع مواقف الكثيرين من أبناء جيله في سنوات الخمسينات من القرن العشرين.
كتابة "مختار" ليست من قبيل كتابات الحنين والنوستالجيا الكولونيالية فحسب، بل هي الاستغراق المخيف في التماهي معه. قرأتُ في رسالة من رسائل الخمسينيات، كتبها لصديقه البريطاني "براون" ما يلي :
(. . سيد "براون" ، أقول لك صادقاً: إنّي كفرت بمن يديرون شأن البلاد عندنا. مع ما ألاحظ وأتابع من انحدار أحوالنا ، فإني أحتفظ بأفكاري لنفسي. لا يعجبني الكثير، ولم أنخرط في أيّ من الأحزاب السودانية القائمة. لا أناقش أحداً من معارفي في هذه الأفكار، فقد يرتاب من لا أعرفه فيوقعني فيما لا تُحمد عقباه . الحذر مطلوب ولكن الصّدق مع النفس أجدَى وأكرم. . هل تصدّق أن وشايةً أوقعت جاراً لي في مشكلة مع الشرطة السّريّة ؟ لقد وشوا به لأنه ظلّ يعتمر قبعة انجليزية، ويلتزم بلباس البدلة كاملاً وبربطة العنق . لا يسهر إلا في "صالة غوردون الموسيقية" التي تعرف، ولايدخل إلّا المطاعم التي كان يرتادها الإنجليز قبل رحيلهم . صار إمساكك بالشوكة والسكين مدعاة لجرّك إلى معتقلات الأمن، صدّق أو لا تصدق . . ! أنا شخصياً لن أخلع قبعتي الإنجليزية التي رأيتني معتمرها، منذ أيامنا البعيدة في "كسلا" ، وفي عطبرة كما في الخرطوم. لكن من يدري ، قد يفاجؤني واشٍ ذات يومٍ فيدفع بي إلى غياهب السّجون . . ! )
يا لغرائب الصدف . . !
جاءني الرّجل الإنجليزي العجوز ليقترح عليّ مساعدة جمعية "كيتشنر"، لتستعير بارجة اللورد القديم المهملة في الخرطوم، فإذا أنا أمام قصة صديقه الضائع في السودان، كاتب الرسائل المشوّقة والمثيرة. حين التقيته في قلب عاصمة الضباب ، أرادني أن أتحرّى عن مكان صديقه صاحب اللقب المريب : "السردار" ، فسحرتني في الإبّان، حفيدته الجميلة وأسرتْ لبّي، بذات القدر الذي أسرتني به رسائل ذلك السوداني الغامض : "مختار السردار". .
فتحتُ رسالة أخرى من رسائله، أجتزيء منها ما يلي :
( . . قتلوا أسراً كاملة في الجنوب ، في مدينة إسمها "توريت"، وقبل أشهر قليلة من إعلان الاستقلال من منبر البرلمان . لكأنّ أبناء الشمال- وهم تجّار ومقيمون منذ عقودٍ طويلة- كانوا من أشاعوا تجارة الرقيق هناك ! لقد أفسد الحكم البريطاني باتباع سياسة إقفال المناطق الجنوبية، خيط الودّ الذي كان من الممكن أن يحفظ البلد من القتل والنزاعات. هل كان التفكير حقيقة يسير باتجاه إلحاق جنوب السّودان بدولة يوغندا . . ؟ هذا ما سمعته من بعض الناس، وبعض ما كتبت صحفنا هنا . وحقيقة لا أعرف مبرراً لفشل الإدارة البريطانية، والتي استفردت بحكم السودان فعلياً لأكثر من خمسة عقود، في تمييع تلك الاختلافات وذلك التباين بين الشمال والجنوب. أما كان ممكناً تسوية الأمور مع الحركة الوطنية المتحمّسة لنيل الإستقلال ، إستبطاءه لفترة تتيح ما يساعد على إذابة التباينات والاختلافات بين الشمال والجنوب ؟ ألا ترى عجلة في تسيير الأمور عندنا ؟ قليلون هم الذين انزعجوا مما وقع في "توريت" وأدركوا خطورته . . )
هذا مقتطف مثير مما كتب العجوز "السّردار" لصديقه الانجليزي "براون". أعجبتني جرأة الرجل في مخاطبة صديقه "براون". بالطبع لم يكن "براون" من متخذي القرار، أو من المؤثرين في الإدارة الاستعمارية في البلاد في ذلك الزمان، لكنّي اقرأ ما في الرسائل من أمورٍ حساسة، بعينٍ محايدة ، باعتبارها فضفضة بينَ رجالٍ من هنا ومن هناك ، مشوا على الجمر ذات يوم ، وساءهم أن يصل الحال إلى ما هو عليه من قتالٍ ومن تنازع . نظرت في تاريخ الرسالة وعرفت أنها تتناول أوضاع البلاد عشية الإستقلال في عام 1956 . لاحظت هنا كيف يمسّ "السردار" أمور السياسة مسّاً لا يجرّم كاتبه بأيّ حال . .
تثيرني رسائل "السّردار" كلّما تصفحت رسالة بعد أخرى، لما وجدتُ بين طيّاتها من متعة حقيقية ، وعمق في عرض الأحوال . تحسّرتُ إذ لا أجد طريقاً لرسائل "براون" لصديقه "السردار" ، فهي التي تكمل فراغات الصورة، فتتضح ملامحها وأبعادها.
كتب في رسالة من رسائله الأخيرة في ستينات القرن العشرين :
( تدهورَ الحالُ في السكك الحديدية بسبب التمرّد في جنوب السودان . امتدّ خط القطارات إلى مدينة "بابنوسة"، ولكن ما زال العمل في المديريات الجنوبية يحمل من المخاطر ما يخيف . البواخر هي الوسيلة الوحيدة المتاحة بأمانٍ للجنوب. مدينة "كوستي" التي تعرف ، وقد كانت مدينة صغيرة على عهدك ، هي الآن مدينة وميناء نهري تتسع خدماته كل يوم. لكن حال القطارات يحتاج إلى التفاتة، وللأسف لا يعير السياسيّون السكك الحديدية انتباها . لو فعلوا لحفظوا الّلحمة والصّلات التي تبقي البلاد كياناً واحدا ، وتزيد من التواصل بين القبائل والطوائف والتيارات السياسية ، إذ نحن في اختلافات اجتماعية وسياسية وقبلية واقتصادية، تفرّق ولا تجمع . .)
أثارت هذه الرسالة شجناً لديّ. لكم أعجبتني مسرحية للكاتب عبد الله علي ابراهيم ، هذا الأكاديمي العطبراوي العتيد، وأنا من المعجبين بكتاباته الأولى خاصةً، تلك التي عنوانها : "السكة حديد قرّبت المسافات". لكأنّ الأستاذ عبد الله ابراهيم قد استعار الفكرة وطوّرها، مما ورد في رسالة "السردار" هذي . . !
كانت الرسائل كنزاً خلبَ لبّي . نظرتُ في رسائل أخر تناول فيها "مختار السّردار" تفاصيل غريبة عن أحوال أسرته . كتب لصديقه "براون" وكأنه يشكو له :
( للأسف يا صديق ، أنكرني في خريف عمري أخواي ، وسافر كلّ واحدٍ منهما إلى بلد ولم يعودا يسألان عن حالنا في الخرطوم . الهجرة إلى السعودية وإلى بلدان الخليج التي استقلت حديثا ، صارت ظاهرة متنامية ، وهذه بلدان تحتاج لبناء هياكلها وأسس تنميتها، ولنا في السودان مهارات وخبرات، وحكوماتنا طاردة كما قد تعلم. أحسّ أنهما خذلا ذكرى والدي "حاج الزين" . كان أبي سلطوياً طاغياً ولم يدعني أكمل تعليمي واضطرّني للتوظيف مبكراً، حتى أوفر تكلفة تعليم أخوي . ما كان لي أن أجادل والدي وقتذاك . قبلت بالتضحية ، ولكن ها أنذا وحيداً في شيخوختي، إلا من رفقة "يوسف" إبني الذي أجبرته للبقاء معي . حتى "يوسف" قبل ذلك على مضض. كل يوم يأتني بحجة ، وبأنّه ضاق ذرعاً بالبلد ولم يعد يتحمّل متاعب المعيشة . في الحقيقة لم يكن هو يعرف أنّي على علم بخلفية نشاطاته السياسية التي يخفيها عنّي . لا أريد أن أفصّل لك في هذا الخطاب ولكن عسى أن تجمعنا الأيام من جديد . . من يدري . . ؟ )
"السّردار" رجل نابه ، وإنْ تطرق لموضوعات سياسية حساسة، لكنه يحرص أن لا يلقي بكلامٍ في رسائله، يسبب له حرجاً أو لغيره متاعب. نظرت في تاريخ هذه الرسالة : يوليو 1972. هذا تاريخ يوافق الفترة التي كان الجنرال نميري يوطّد أسس وأركان حكمه، بعد أن أطاح في مايو 1969 بالحكومة المنتخبة ، وقلب الطاولة على السياسيين الوطنيين وفيهم رموز كبيرة ، مثل الزعيم الكبير إسماعيل الأزهري. هل كان من المتاح "للسّردار" أن يتناول بفصيح العبارة، أحوال البلد والظروف العامة التي دفعت بشقيقيه إلى الهجرة الطويلة إلى بلدان الخليج..؟
أما الرسالة المميّزة التي وقفتُ عندها طويلاً ، فقد آثرتُ أن أتركها لاطلاعكم ، فصلاً جديداً قائماً بحاله . .
* فصل من رواية"حان أوان الرحيل " - الدار العربية للعلوم- بيروت 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.